فهمي محمد
يكاد أن لا يمر عقداً زمنياً خالي من الصراع و الاقتتال في اليمن ، غير أن هذا الصراع السياسي والاقتتال العسكري لم يكن يوماً من الأيام على تولي مقاليد سلطة الدولة الحاكمة بالمفهوم السياسي الوطني ، لأننا ببساطة شديدة لا نمتلك هذه الدولة الوطنية التي تحول البلاد إلى وطن والإنسان إلى مواطن وهذه هي مشكلتنا الحقيقة منذ ثورة سبتمبر التي توخت في أهدافها السته مسألة بناء الدولة .
على هذا الأساس الذي يعني غياب الدولة ظلت السلطة الحاكمة في اليمن منذ الثورة الأولى سلطة سياسية ( سلطة القوة والغلبة ) ممانعة ومعارضة لمسألة حضور الدولة الوطنية الديمقراطية بإرادة الحاكم، وهي بهذا المعنى ( اي السلطة ) كانت وما تزال حتى اليوم تشكل جذر المشكلة وليس حل للمشكلة اليمنية.
وإذا كان مدخل الحلول في اليمن كان وسيظل مع ما نحن عليه اليوم مدخل سياسي إجتماعي، فإن تفاصيله سوف تتعلق بأسئلة النظام السياسي والسلطة الحاكمة وتوجهها السياسي ومخرجاتها الوطنية وقاعدتها الإجتماعية ، وقرارها السيادي وشرعية الحاكم على رأس هذه السلطة ، ناهيك عن ارتباط هذه التفاصيل السياسية بمشكلة الإستئثار بالثروة وما ينتج عنها من الإثراء بلا سبب للحاكمين في السلطة.
غير أن هذه التفاصيل السياسية بقدر ما هي متعلقة بخصوصية المشكلة اليمنية بقدر ما تؤكد ضرورة أن ينتقل اليمنيين من سلطة القوة والغلبة إلى سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية التي تمثل إرادة الشعب اليمني لأن الدولة كما يقول المفكر عبدالله العروي هي كيان اصطناعي اخترعه الإنسان في خدمته.
وإذا ما أدركنا بأن الدولة لا تعطى هبة من قبل الحكام بل تفرض عليهم بإرادة الشعوب وكفاحهم السياسي والاجتماعي ، خصوصاً حين تنجح الشعوب في صناعة الفرصة التاريخية المواتية لفكرة التغيير والتقدم ، على غرار ما تحقق لليمنيين على إثر ثورة الشباب 2011م ، بحيث استطاع الفعل الثوري أن يجبر السلطة وحزبها الحاكم على الجلوس على طاولة الحوار مع كل المكونات السياسية اليمنية من أجل الوقوف الجاد والمسؤول على تفاصيل المشكلة اليمنية وإيجاد الحلول لها انطلاقاً من إرادة ورؤى كل المكونات السياسية اليمنية التي حضرت إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل وهي تدرك أنها معنية في الوقوف على المشكلة اليمنية والعمل على حلها بالمعنى الذي يؤدي إلى تحويل السلطة الحاكمة في اليمن إلى دولة واليمن إلى وطن.
لهذا نستطيع القول بأن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن هي الوثيقة السياسية الوحيدة التي انعقدت في مناخ سياسي و ثوري توافرت فيه الشروط الموضوعية للحوار السياسي المسؤول، الأمر الذي مكن المتحاورين اليمنيين من مسألة الوقوف على جذور المشكلة اليمنية المتمثلة في المركزية السياسية للسلطة والثروة وغياب الدولة الوطنية الديمقراطية كفكرة سياسية حاكمه.
أولا :- توافر الشروط الموضوعية في مؤتمر الحوار الوطني
1- انعقد مؤتمر الحوار الوطني الشامل على إثر ثورة أسقطت رأس النظام السياسي الذي كان يشكل عائقا أمام نجاح أي حوار سياسي وطني يتعلق بمشكلة السلطة والثروة ، بالإضافة إلى أن الحوار انعقد في ظل إشراف ودعم دولي بدأ مهتم في حل المشكلة اليمنية.
2- انعقد مؤتمر الحوار الوطني في ظل ظروف ومناخ سياسي خالي من استعراض فائض القوة لدى كل طرف من الأطراف المتحاورة ، فلم يأتي طرف أو مكون سياسي إلى مؤتمر الحوار الوطني متسلحاً بسلطة الغلبة والقوة العسكرية في وجه الأطراف الأخرى ، وهذا لم يحدث في تاريخ اليمنيين من قبل.
3- لم يتم استبعاد طرف سياسي أو حزب من المشاركه في مؤتمر الحوار الوطني ، بل أتت كل الأطراف و المكونات السياسية إلى طاولة المفاوضات ولديها تصوراتها ورؤاها الخاصة المتعلقة بحل المشكلة اليمنية ، الأمر الذي جعل مخرجات الحوار الوطني الشامل ليست مجرد تسوية سياسية تلبي حاجات الأطراف المتصارعة والمتقاتله أو التي كانت تملك مراكز القوة العسكرية والنفوذ السياسي والمالي في الواقع ، أو حتى طموح السلطة والمعارضة ، بل هي مخرجات وطنية تلبي في الأساس تطلعات الشعب اليمني نحو تحقيق المستقبل الذي يجب أن يكون في اليمن وهي بهذا المعنى تعد سابقة في تاريخ اليمنيين.
4- اعتمد الحوار الوطني الشامل في إنتاج الحلول على قاعدة الشرعية التوافقية بين المكونات السياسية وليس الأغلبية العددية الأمر الذي جعل الأنا والآخر لأول مرة في تاريخ اليمنيين شركاء في الإقتدار السياسي والمسؤولية الوطنية تجاه المستقبل وهو ما ترجم عمليا في وثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل.
ثانيا:- مخرجات مؤتمر الحوار الوطني وإلغاء المركزية السياسية للسلطة والثروة في اليمن
وقف مؤتمر الحوار الوطني على جذور المشكلة اليمنية وعلى الحلول الناجعة لها ، في ظل الإستفادة من الصراعات السياسية الماضية ومالاتها الكارثية ، وهو بهذا المعنى – يكون مؤتمر الحوار الوطني – قد انتصر في مخرجاته الوطنية لفكرة التغيير “الجذرية” بالمعنى الذي يعني بأن اليمنيين في حال تمكنوا من تطبيق مخرجات الحوار الوطني يكونوا قد نجحوا في صناعة الحدث التاريخي الذي سوف يحول سلطتهم السياسية الحاكمة ( سلطة القوة والغلبة ) إلى دولة وطنيه ديمقراطية ، ناهيك عن جعل الثروة على أساس التوزيع اللامركزي في الدولة الاتحادية منتجه للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
1- المركزية السياسية للسلطة في اليمن
نصت وثيقة مخرجات الحوار الوطني على تحويل اليمن من دولة بسيطة تحكمها سلطة مركزية إلى دولة اتحادية تحكمها اللامركزية السياسية ، وهذا يعني في المقام الأول إلغاء سلطة الاستحقاق التاريخي في اليمن أو سلطة المركز السياسي المقدس أو ما أسميه أنا في كتاباتي ={ دولة الجيوسياسية الزيدية } ومسألة القضاء على سلطة الاستحقاقات التاريخية اللاوطنية تأتي في صلب مخرجات الحوار الوطني كنتاج طبيعي لمنح الأقاليم والولايات المحلية سلطات سياسية تنفيذية وتشريعية في الدولة الاتحادية بموجب الدستور والقوانين .
صحيح أن الدولة الاتحادية لديها سلطة سياسية ممنوحة صلاحيات مركزية سيادية على المستوى الوطني ، إلا أن طبيعة النظام السياسي الاتحادي في أي بلد لا يعطي هذه السلطة السيادية على المستوى الوطني القدرة على اختزال بنية السلطة السياسية من الأدنى إلى الأعلى أو حتى تأطيرها بقيم أو أنساق ثقافية تحدد عصبيتها السياسية أو الاجتماعية بإرادة الحاكم .
بمعنى آخر لا يستطيع الحاكم تحديد هوية السلطة السياسية ومسألة الإنتماء إليها بتوجهه الثقافي أو فكره السياسي، لأن بنية النظام السياسي الاتحادي لا يقوم على أساس التعبئة المطلقة من الأدنى إلى الأعلى ، بل على أساس التراتبية ={ حكومة الولايات ، حكومة الأقاليم ، الحكومة المركزية أي السيادية } أي تراتبيات مؤسسات دستورية حاكمة وطنيا شبه مستقلة داخل بنية السلطة السياسية في الدولة الاتحادية،
ما يعني في النتيجة النهائية أن أهمية مخرجات الحوار الوطني الشامل تأتي من أهمية الإجابة على سؤال الدولة الوطنية الديمقراطية الغائب والقائل:- إذا كانت الدولة كما يقول عنها بردوا مؤلف كتاب الدولة هي فكرة سياسية تدرك بالفكر وهي وجدت عمليا مع ظاهرة مؤسسة السلطة أي انتقال السلطة من حكم الفرد بشخصه إلى حكم المؤسسة ={ تحويل السلطة إلى وظيفة عامة والحاكم إلى موظف في خدمة المجتمع} ؟
فإن النظام السياسي الاتحادي القائم بطبيعته السياسية والبنيوية على تراتبية السلطة السياسية ومؤسساتها وتوزيعها واستقلالها ، هو النظام السياسي القادر على معالجة مشكلة السلطة واستحقاقها في اليمن ، بل القادر على تحويلها إلى دولة وطنية رغما عن أنفها ، ناهيك عن أن تكرار الانتخابات بخصوص السلطة التنفيذية والتشريعية في الولايات والأقاليم وعلى المستوى السيادي سوف يعمل على تأسيس سلطة الدولة الوطنية الديمقراطية على إرادة المواطن وثقافة الشعب السياسي وليس على إرادة وثقافة القوة والغلبة التي أسست السلطة وهويتها السياسية الحاكمة تاريخياً في اليمن.
2 – المركزية السياسية للثروة في اليمن
النظام السياسي الاتحادي الذي نصت عليه مخرجات الحوار الوطني الشامل يقوم في الأساس على مسألة التوزيع العادل للثروة بحيث يمنح الولايات والأقاليم حصة من ثرواتها تسخر في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في كل ولاية وإقليم وهذا بحد ذاته يلغي من جهة أولى مركزية التوزيع السياسي للثروة، ومن جهة ثانية يحد من التنمية المكثفة في عاصمة الدولة على حساب باقي الولايات والأقاليم ، كما أن النظام الاتحادي يكشف الأرقام الحقيقة للثروة عن طريق اطلاع حكومة الأقاليم والولايات على حجم الثروة وحصتها وتوزيعها.
على سبيل المثال وليس الحصر التوزيع اللامركزي لعائدات الثروة من نفط وغاز وغيرها في ظل دولة اتحادية في اليمن بحد ذاته سوف يخلق تنمية متوازنة و متوازية في نفس الوقت ينعكس أثرها على مستوى الاقتصاد والصحة والتعليم في المستوى المحلي وعلى المستوى الوطني وليس كما كان عليه الحال من قبل في ظل التوزيع السياسي المركزي للثروة المرتبط مباشره بالعاصمة، الأمر الذي نجد معه مناطق تنتج الثروة دون عائد يذكر لأبنائها ومناطق تستغلها ، ويكفي في ذلك نتائج المقارنة بين وضع التنمية في مأرب وشبوة وحضرموت المنتجات للنفط والغاز مع وضع التنمية في صنعاء العاصمة، في حين أن منح مأرب وشبوه وحضرموت حصه من انتاج ثرواتها في الدولة الاتحادية سوف يلغي المركزية السياسية للثروة و سوف يجعل من مأرب وشبوة أكثر نهضة واقتصاد وفرص عمل من صنعاء العاصمة.
من ورقة سياسية