فجع الوسط الثقافي اليمني ليل البارحة، بوفاة واحدٍ من شعراء اليمن القلائل الذين خلدوا قصائدهم في الذاكرة الجمعية لليمنيين، إنه توفيق القباطي، الشاعر والباحث والمناضل اليساري المثخن ببلد تلتهم أولاده قبل أن تجوع حتى.
رحل الفقيد بعد سنوات من المعاناة من وضع صحي متردٍ وحياة مثقلة بالجوع والتشرد في الأرصفة، خاصة بعد خروجه من معتقلات الحوثيين، التي احتجز فيها في ظروف سيئة تسببت بمضاعفة مشاكله الصحية.
اهمال رسمي
توفيق شاعر يمني وباحث في مركز الدراسات والبحوث، إلا أن شاعريته وعمله الدؤوب في المركز لم يشفعا له لدى السلطات الحكومية للحصول على منحة علاجية أو حتى إطلاق راتبه المتوقف منذ بدء الحرب في اليمن قبل ستة أعوام.
كتب الروائي اليمني علي المقري: “قال لي في آخر مكالمة لي معه إنه أكل من الدواء أكثر مما أكل من الطعام! لقد تعب، ورفضت عائلته أية مساعدة مالية من أصدقائه الأقرباء من أجل السفر للعلاج متمنية، فقط، أن تصرف الحكومة مرتباته ومستحقاته كباحث في مركز الدراسات والبحوث! لكن هذه الأخرى لم تعمل شيئاً ولم يكلف (المناضلون) في السلطة أنفسهم حتى في الرد على رسائلنا أو أن يعملوا شيئا من أجل رفيقهم العزيز”.
وأضاف المقرّي: “لقد متم، بموت توفيق وبموت رفاقه السابقين الذين لم يلقوا منكم أي اهتمام، أو مواساة، في الوقت الذي تتجولون فيه من عاصمة إلى أخرى ومن فندق إلى هاوية!”.
قصيدة حياة
“أتذكّر توفيق منذ أن عرفته قبل أكثر من ثلاثين سنة، الشاعر الذي يكتب قصيدته حياة، والمفكّر الذي يعيش ما يقول”، يقول الروائي علي المقري، مضيفًا: “قبيل حرب صيف 1994، حين تحالفت سلطة صالح مع الجماعات الإسلامية في حربهم ضد الجنوب ومن أجل اقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من السلطة والحياة، كان توفيق من القلائل الذين لم تبهرهم الخطابات الاستهلاكية السريعة، وبنظرة ثاقبة لم ير أي بديل يمكن أن تقدمه الثقافة البرقية بشعاراتها الرنانة في واقع مهترئ يُعيد ما كان! ولم ننتبه لقوله إلاّ بعد أن عشنا الكارثة”.
ويوضح: “أثناء حملات التكفير التي قادها المتطرفون ضدي 1997، 2006 و2013 كان توفيق إلى جواري كصديق وأخ. قال لي وهو يستنكر الحملة الأخيرة ضد رواية “حُرمة”: أنت لم تكتب عن معاناة النساء والكبت الذي يعشنه في مجتمع تحاصر فيه كل متطلبات الحياة بل عبّرت عنا، نحن الرجال أيضاً، ما نعانيه من كبت وحصار”.
وأختتم المقري شهادته عن الفقيد بالقول: “توفيق الذي سجنته ميليشسة الحوثي قبل سنوات، ولم يغادر اليمن، ظل طوال العقود التي عرفناه فيها متمرّداً على كل مظاهر المؤسسة بما في ذلك مؤسسة العائلة والكتابة، وبقي بهذا ملتحفاً بهوى الفقراء اليمانيين الذين عاش معهم في الأماكن الرخيصة والفقيرة، لتنم روحك بسلام يا صديقي وحبيبي”.
بهدوء
“عاش ومرض ومات ودفن بهدوء، بدون ضجيج”, بهذه الجملة بدأت سامية الأغبري شهادتها عن الفقيد، مضيفة: “توفيق الذي عرفته معتقلات صالح لأنه شاب يساري مناضل، ولاقى ما لاقاه في سجون الطاغية، ثم سجون الحوثي، توفيق القباطي الشاعر والباحث لم يؤذ نملة في حياته، لكن الكثير آذوه، عاش حياة قاسية، توفيق الشاعر الانسان المرهف، أتى كنسمة هواء رقيقة ورحل كنسمة، مع الله ياتوفيق”.
سيرة حياة بديعة
من جهته كتب منصور السروي –كاتب يمني-: “حين تخرج من جامعة صنعاء كلية الآداب قسم الفلسفة كان ترتيبه الأول على دفعته؛ الأمر الذي دفع بالدكتور عبد العزيز المقالح إلى تعيينه فور تخرجه مديراً لمكتبه بمركز الدراسات والبحوث اليمنية”، مضيفًا: “كان توفيق القباطي حتى نهاية القرن الفائت أكثرنا ثقافة موسوعية، أكثرنا توازنًا، أكثرنا أخلاقًا وطيبةً ورحمة، كان أكثر في كل قيم الجمال والذوق الرفيعة”.
يواصل السروري: “عاش قصة حب كانت أحد أسباب زهده بالدنيا والعزوف عن الحياة الاجتماعية بكافة مظاهرها، ورغم الحالات النفسية التي أخذت تتردد عليه من عام إلى آخر إلا أنه ظل متشبثًا بالأمل في غد أفضل عله يجد فيه ذاته”.
وعن عمله ونشاطه كتب السروري: “كان توفيق باحثًا من طرازٍ رفيع بمركز الدراسات والبحوث اليمنية، وكان عضواً في اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين، كان توفيق كثيراً على هذا الوطن، هوذا يغادرنا بصمت ونحن معشر الأدباء والكتاب اليمنيين كأننا نعيش حالات الشتات في أسوأ مظاهرها، يغادرنا توفيق القباطي بصمت مرير تاركاً في قلوبنا وصدورنا غصصاً لا عناوين لها، وداعًا توفيق، سنتذكرك كثيرًا”.
توفيق.. وذكريات العمر!
اما الروائي والقاص سامي الشاطبي فكتب موثقًا ذكرياته مع توفيق الشاعر والانسان قائلًا: “في نهاية تسعينيات القرن المنصرم كنت والشاعر توفيق القباطي نكتب في عدد من الصحف مقالات وكلما زادت عدد المقالات المنشورة كلما زاد الانتاج الفكري، وهو مبلغ مالي يعطى للكاتب مقابل مواده، كنا نخصص تلك المبالغ على قلتها لشراء الاقلام والاوراق وما تيسر من الكتب”.
قصيدة خالدة
“عامٌ سعيدٌ يا رَنا
البحرُ يَذكرهم ويَنساني أنا
ياللحنين، مخضبًا بالأشرعة
بنوارس العهد البعيد..
وزوارق الماضي التي ظلت هنا.
كانوا معي يومًا ويومًا هاجروا
وتغرّبوا
كادت جيادُ البحر تبعد بيننا
هَمَسَت بِسِرٍّ لي رنا
والبحرُ يفضح سرنا
عام سعيد يا رنا
البحر يذكرهم وينساني أنا”.
“سوف يُحزننا كثيراً أن تودعنا هذه النجمة؛
لن نرى مصباحها في البعد يخفق
لن يسامر طيفها العشاق
والمغنين الندامى
والندى
والريحْ سيحيلنا للبرد والعتمة”.
مقطع من قصيدة “في وداع النجمة” للفقيد توفيق القباطي
“أثقُ بآلهةٍ في الكواكب التي تدور جريحةً لأجلك
بشموسٍ تحث العتمات،
في الأقبية والزنازنب
بعشاقٍ موثقين بالصخور،
بأنبياء في مدارج العثرات والأزقة النائية…”
(مقطع من قصيدته “أثقُ بشعبك النور”)