وسام محمد
“لن يكون هناك انجاز إنساني ما لم تتضح الأهداف، كما ولن يكون هناك عالم متحرر ما لم يواجه الإنسان مسئولية التحدي” (باولو فريري)
أشعلت الذكرى العاشرة لثورة فبراير، كمًا هائلا من الأسئلة، لكن يبدو أن السؤال الأكثر تداولا، هو ذلك الذي يدور حول ما الذي حققته ثورة فبراير بالنظر إلى واقعنا اليوم، ولكل شخص منطلقاته.
هناك من يريد تحميل الثورة وزر ما نعيشه، أما لأنه كان ضد الثورة أو ناله ضرر الواقع ويعتقد أن هذا قد حدث بسبب الثورة، وهناك من أصبح يعتنق اليأس بغض النظر عن موقفه من الثورة. وهناك النوع الأخر الذي يرى أن الثورة معنية بمواجهة هذا الواقع وتغييره، ويبحث عن إجابة حول كيف من الممكن أن يحدث هذا؟
من المهم ادراك حقيقة مهمة، وهي أن كل الذي نعيشه اليوم، كان قد بذر وزرع وتمت رعايته، على مدى ثلاثة عقود سبقت ثورة فبراير
قبل الإجابة على السؤال، من المهم ادراك حقيقة مهمة، وهي أن كل الذي نعيشه اليوم، كان قد بذر وزرع وتمت رعايته، على مدى ثلاثة عقود سبقت ثورة فبراير. وهذا ليس حديث اعتباطي، فكل القوى المشتركة في الصراع اليوم، لم تكن وليدة لحظة انفجار الثورة أو ولدت من رحم الظروف التي خلقتها الثورة.
جماعة الحوثي السلالية، خاضت أول حرب في مواجهة السلطة في العام 2004، بعد سنين طويلة من الارتباط بمشروع ايران منذ ما بعد ثورة الخميني، لكن أيضا بالبناء على الصراع بين النظام الجمهوري الذي تم اخصائه، وبين بقايا الامامة التي جرى استيعاب جزء كبير منها في بنية الدولة، ثم استفادتها من فشل الدولة الوطنية، وسياسات نظام الحكم. أي أن مشروعها كان قد وجد قبل عقدين على الأقل من اندلاع ثورة فبراير، وأما مسألة صعودها واستباحتها للبلاد، فقد ظل يعتاش على هشاشة الدولة ومرهونا بأول هزة عابرة، حدثت مع الثورة وكانت ستحدث لأي سبب آخر.
بالنسبة لمشروع الجنوب العربي الذي أصبح المجلس الانتقالي حامل لوائه اليوم، فهو أيضا مشروع تعود جذوره إلى منتصف القرن الماضي، تراجع خلال مراحل معينة، لكنه عاود الصعود مع فشل الدولة الوطنية وهو الفشل الذي بدأ منذ ثمانينات القرن الماضي، لتتهيأ الفرصة أمامه أكثر مع النتائج المترتبة على حرب صيف 94، ثم مع الحرب التي شنها صالح والحوثي على الجنوب.
حتى الاخوان وطريقة هيمنتهم على الثورة ثم على المقاومة وطريقة ادارتهم للحرب، فإن هذا يعود إلى عقود، حينما ظلت جماعة الاخوان تؤسس لدولة داخل الدولة، مستفيدة من شراكتها مع علي عبدالله صالح، وهي الشراكة التي تأسست على وقع حروب خاضها الطرفان لأهداف كانت حينها غير وطنية وأثبتت الأيام انها كذلك. والأمر ذاته مع باقي الجماعات الدينية ذات التوجهات المختلفة والتي ظلت بمثابة جماعات وظيفية لخدمة السلطة وأطرافها.
ولا يخفى ما تعرضت له باقي الأطراف بما فيها اليسار والقوميين، وكيف أنها استسلمت للمقسوم، واعتنقت العجز كبرنامج عمل، متخلية بذلك عن القطاعات الشعبية التي يفترض انها تمثلها، وما يفترض انها قضاياها النضالية.
ما حققته فبراير، هو أنها، أعادت توحيد اليمنيين كما لم يتوحدوا من قبل، وأعادت الناس إلى ميدان الفعل
اذن الإجابة على سؤال ما الذي حققته ثورة فبراير بالانطلاق من الواقع القائم. تكون بالقول إن هذا الذي نعيشه نمى وترعرع في عهد ما قبل ثورة فبراير.
وما حققته فبراير، هو أنها، أعادت توحيد اليمنيين كما لم يتوحدوا من قبل، وأعادت الناس إلى ميدان الفعل، وخلقت بذلك شروط المقاومة من موقع متقدم (مقاومة الواقع الذي انفجرت الثورة بوجهه وواقع ما بعدها). وهكذا أصبح الصراع بين مشروعين: مشروع ينتمي للماضي وتشترك فيه أطراف عدة، لديها عدتها التاريخية المتراكمة وتنظيماتها الفاعلة، ومشروع ينتمي للمستقبل ليس لديه شيء سوى أنه أصبح في قلب الصراع، وفي اتحاد مع مسار التاريخ، إلى جانب تلك الومضات التي بزغت في محطات مختلفة وحاولت تجسيد الحلم، ثم أصطدمت وحوربت فنجحت وأخفقت لكنها عادت مع ثورة فبراير لتنير الطريق.
لم نعرف ما نريده!!
الثورة عندما تندلع، صحيح أن احداثها المضطردة وكل ما يحدث فيها يبدو وكأنه شيء من عالم الخيال بالنظر الى طبيعة الواقع الذي كان قبلها، لكن حتى مع ذلك، تظل الثورة أبنة ذلك الواقع وتتأثر به سلبا وايجابا، فهي تنفجر بفعل ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتفشل أو تنجح لغياب أو وجود عدد من الشروط الأخرى.
ولعل أول شرط يتطلبه نجاح أي ثورة، هو معرفة ما تريده الجموع التي قامت بها، أي الرؤية الواضحة والبرنامج العملي. بكلمة أخرى: البديل الحقيقي للنظام القائم الذي قامت الثورة ضده.
وبالنظر إلى واقع اليمن، فإن الظروف الموضوعية، كانت قد توفرت وأدت إلى اندلاع الثورة، فندفع الناس للمشاركة فيها، وهم يعرفون ما لا يريدونه، فهم لا يريدون النظام القائم وأعوانه، لكنهم لم يحددوا بالضبط ما الذي يريدونه على أنقاض ذلك، وهذا يعود لعوامل كثيرة، وقد كان له تأثير حاسم على الأحداث بعد ذلك ثم وصولنا إلى هذه اللحظة.
عدم وضوح برنامج الثورة، سببه عدم وجود قوة منظمة تقود الفعل الثوري. فالثورة كانت عفوية، ولم يكن هناك أحد يتوقع اندلاعها، بما في ذلك الأحزاب السياسية التي كانت ترفع مطالب إصلاحية وتتحرك ضمن المساحة التي يحددها النظام.
هذه السمة تكاد تكون عامة وتشمل كل الدول العربية التي اندلعت فيها الثورات، فظروف الشعوب متقاربة، وما يؤكد هذا، هو تعميم مصطلح الربيع العربي، الذي لا أحد يعرف من يقف خلفه، وأراد تصوير الثورة وكأنها من أجل الديمقراطية فقط ولإنهاء الاستبداد، فهو يحيلنا إلى ما حدث في ثورات أوربا الشرقية نهاية الثمانينات أو المسار الإصلاحي قبل ذلك فيما سمي بـ (ربيع براغ). بينما في الحقيقة ان الثورات العربية اندلعت في مواجهة الاستبداد وبسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية. أنظمة الاستبداد لم تكن فقط تستأثر بالحكم والسلطة وتستخدم الديمقراطية كشكل بدون مضمون وتنتهك الحريات. بل كانت قد أنتجت سياسات اقتصادية تدميرية. فانتشرت البطالة وانسدت سبل العيش أمام الملايين وزاد الفساد وما ترتب على ذلك من تفاوت اجتماعي وتجذير التخلف والجهل. اذن مصطلح الربيع بما يحمله من دلالة سوف يتعاطى مع جزء من الإشكالية التي واجهتها الثورات، وسيغيب الجزء الأهم. وهذا ما يجدر بالثورات معرفته. فالناس العاديين الذين قاموا بالثورة لم يكن لديهم ترف التفكير بالديمقراطية رغم أهميتها، ولكنهم خرجوا في الثورة لأنهم لم يعودوا قادرين على العيش.
التسيس بذرة الثورة
عندما اندلعت الثورة كنا شبه مجردين من شروط انتصارها. قبل فبراير، كان هناك عزوف كلي عن السياسة، بالذات عند الأجيال الشابة. وهذا يعود إلى طبيعة الأوضاع التي كانت قائمة، فالسياسة كانت قد أصبحت مغتربة عن الواقع، ومجرد صراع فوقي غير متكافئ بين النظام والأحزاب السياسية، وهذا الصراع بمجمله لا يمت لقضايا الناس بصلة.
وهكذا غدت السياسة نائية، بل ومنبوذة عند قطاعات واسعة. وهذا الوضع كان قد تأسس على خيبات كثيرة أخرها حرب صيف 94، ثم ممارسات السلطة والمعارضة، لكن الأخطر في ذلك الوضع انه كان قد قارب في امتداده لعقدين، ورافق طفولة وشباب جيل كامل، وهؤلاء الشباب هم من سيشعلون الثورة. لكن بلا أي وعي سياسي. فقط لديهم سخط ويعرفون ان واقعهم مزري وأن الافاق امامهم مسدودة، لكنهم لا يعرفون أي شيء عن كيفية بناء بديل حقيقي.
لعل الإنجاز الكبير الذي تحقق حتى الآن، هو إن الثورة فتحت الباب على مصراعيه ليتدفق منه الوعي ويتسيس ألاف الشباب
اذن كيف كانت الثورة ستنجح وعدتنا ناقصة؟
لعل الإنجاز الكبير الذي تحقق حتى الآن، هو إن الثورة فتحت الباب على مصراعيه ليتدفق منه الوعي ويتسيس ألاف الشباب. وهذه هي البذرة التي بذرتها فبراير والتي لابد أن تزهر في يوما ما. لقد فتحت فبراير لنا المجال لكي نكبر ونصبح عند مستوى المهام التي طرحها واقعنا لحظة تفجر الثورة أو تلك التي ستطرحها التعقيدات والمشاكل التي تفجرت على أثرها.
قطاعات شعبية واسعة اقتحمت معترك الصراع وأصبحت منخرطة فيه، ومن خلال الممارسة والقراءة التي يفرضها الواقع، أصبح الوعي ينمو والرؤية تتضح. هناك مثل صيني يقول: “كيف تستطيع الحصول على أشبال النمر إذا لم تدخل عرينه؟”.
بالطبع جيل الثورة أكثر تعليمًا، أكثر تأهيلًا من الأجيال السابقة، ويتوفر على أمكانيات هائلة لم تكن متاحة لمن قبلنا. ما كان ينقصه هو التسيس. بمعناه العام. وبمعنى أن نمتلك مشروع.
لهذا بعد عقد من الثورة يمكن القول أن العمر السياسي للشباب الذين بادروا لإشعالها لم يتعدى بعد عشر سنوات. قمنا بالثورة بدون أي برنامج. الثقافة السياسية السائدة لم تساعدنا على بناء رؤية واضحة. العدة التي كانت لدينا هي عدة المنظمات غير الحكومية وثقافة الديمقراطية الشكلية وحقوق الانسان. لكن اليوم الوضع تغيير وسيظل يتغير لصالح مجرى الثورة وامتلاك شروط انتصارها.
*نقلًا عن الشبكة اليمنية للصحافة يزن