كتاب المواطن – روجيه جارودي
وعليه فإن الديموقراطية تتواجد متى تواجد التنافس والتعارض وتعدد الأحزاب، مثلما يتنافس المقاولون في السوق على عرض منتجاتهم.
على المواطن إذن أن يختار بين برامج جاهزة، مسبقة الإعداد، و «مشاركته» لا تتعدى التصويت لنائب أو لقائد كل ثلاث أو أربع سنوات مرة.
وهذا تصور سلبي ودفاعي عن الديموقراطية يخلط بينها وبين النظام البرلماني: سلبي لأن الناخب لا يستطيع أن يقول «لا» لممثله إلا في الانتخابات التالية، ودفاعي لأن الحق الوحيد للناخب في هذه الحال هو رد الفعل لا الفعل.
إن «المشاركة» ترتد، في هذا المنظور، الى تقنية إقناع: فالمهم هو أن يساور الناخب الشعور بالمشاركة حتى يتقبل القرارات التي يتخذها حكامه بدونه.
وإذا كان ماركس وروسو على حد سواء يلقيان اليوم هذه المعارضة العنيفة، فهذا لأنهما لم يخلطا قط بين الديموقراطية والنظام التمثيلي، وحددا الديموقراطية على العكس بصورة غير استلابيه على أساس المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار.
وأول ما يترتب على ذلك أن التعريف «الشكلي» للديموقراطية تعريف ناقص وغير مقبول (فليست الديموقراطية شكلاً من المساواة يتمثل في أن لكل امرئ بطاقة انتخابية، كما أنها ليست شكلاً من الحرية يحق معه لكل فرد أن يستلب دورياً سلطاته).
لقد أشار روسو أولاً، ثم ماركس، إلى أن بعض الشروط الاقتصادية ضرورية لتأسيس ديموقراطية. طالب روسو في «العقد الاجتماعي» (الكتاب الثاني، الفصل الحادي عشر) بألا «يكون المواطن على قدر كبير من الثراء يمكنه من شراء مواطن آخر، وبألا يكون على قدر كبير من الفقر يرغمه على بيع نفسه». وقد ذهب به الفكر يومئذ إلى ديموقراطية يمتلك فيها جميع الناس ملكية صغيرة على الأقل تضمن لهم الاستقلال. وفي عصر بات فيه هذا التصور طوبائياً بحكم التركز الرأسمالي وتبلتر ملايين البشر أوضح ماركس بالاستناد إلى المبدأ العيني نفسه، المبدأ الذي ينص على أن المال يعطي الحرية لمن يملكه وينتزعها ممن لا يملكه، أوضح أن تشريك ملكية وسائل الانتاج هو وحده القمين بالحيلولة دون تبعية من لا يملكها لمن يملكها.
وبدءاً من هنا تتاح الإمكانية الديموقراطية فعلية لا شكلية. فالديموقراطية لا تعود على هذا الأساس محض تقنية لتنظيم السلطة، بل يمسي لها دور تربوي إذ يتمرن كل مواطن من مواطني القاعدة بواسطتها على فعل التقرير الاجتماعي. وقد سبق لتو كفيل أن أشار، في معرض كلامه عن الديموقراطية الأصلية في أميركا، إلى أن المشاركة المباشرة في المؤسسات المحلية هي مدرسة المواطن الفعال حقاً. وقد غدا هذا التصور عن السلطة المحلية، في الشروط الحالية لمجتمعاتنا، لا يقل طوباوية عن مثل روسو الأعلى في المالك الصغير. ولكن المبدأ يظل صحيحاً، ولا بد من أن يتحقق في شروط جديدة كل الجدة إذا كنا لا نريد أن نتخلى عما عده لينين، بعد ماركس، السمة المميزة الرئيسية للشيوعية: أعني أن تكون الامكانية متاحة لكل ربة بيت للمشاركة في حكم الدولة، وأن يتعلم كل مواطن كيف يفكر ويتصرف كرجل دولة. وهذا خير تعريف للتسيير الذاتي.
إن تغيير الضمائر هذا لا يمكن أن يكون ثمرة الوعظ أو التعليم الخارجين عن الحياة: فالمرء لا يتعلم السباحة على مقاعد مدرسة أو في صفحات كتاب.
وإنما بمقدار ما تُرمي على مستوى كل وحدة قاعدية (في المشروع أو في المخبر أو في الجامعة أو في مكاتب الخدمات والأحياء أو في التعاونيات الاستهلاكية أو في مراكز الثقافة الخ) أسس ديموقراطية مباشرة (أي ديموقراطية يشارك فيها كل فرد شخصياً في اتخاذ القرار دونما وساطة مندوب أو مفوض)، تشرع الصلة الحية بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في أن تنعقد وتتوطد.
بهذا النحو، وهذا النحو وحده، يشرع بالتكون عضو في المجتمع فعال لا سالب، تعظم حاجته إلى المزيد من الاعلام والتثقيف كلما كانت المشكلات المطالب بأن يبدي رأيه فيها أوسع وأرحب نطاقاً. وحتى عندما تصبح الديموقراطية المباشرة غير قابلة للتطبيق في المستويات العليا، حتى في هذه الحال فإن عضو المجتمع لن يستلب سلطته بتفويضها إلى مندوب يمثله بجُماعه. ذلك أن هذا المندوب لن يمثله إلا في وظيفة محددة من وظائفه، بصفته منتفعاً بهذا المرفق أو ذاك من مرافق الخدمة العامة على سبيل المثال. وعلى هذا الأساس فإنه سيجد نفسه ملزماً في كل حالة من هذه الحالات بأن يستوعب الوظيفة الاجتماعية وبأن يبدي رأيه عينياً، شخصياً، في من وكله وفوضه.
ولا ريب في أن نظام التسيير الذاتي هذا، المتأصلة جذوره في الاشتراكية الديموقراطية على مستوى القاعدة، الحائل دون أي تمثيل إلا تمثيل كل وظيفة بوظيفتها دونما استلاب إجمالي، يفترض إعادة تنظيم جذرية لبنى مختلف المؤسسات، لأن إعادة التنظيم هذه هي التي تتيح لكل فرد تكويناً فعلياً. ولكن ليس صحيحاً أن في الإمكان تحقيق الديموقراطية عن طريق إعادة تنظيم المؤسسات فحسب، من دون أن تخلق الشروط التي تمكِّن كل فرد من أن يلعب فيها دوراً محركاً ومن أن يعي في آن واحد استقلاله عن الآخرين وارتباطه بهم.
وسوف نحدد عينياً، في القسم الثاني من هذا الكتاب، بعضا من التدابير الفورية، ثم الطويلة الأجل، القمينة بأن تضع البشرية على هذا الطريق. وهذا النمط من التنظيم ليس، على كل حال، أشد تعقيداً من النظام الراهن.
ففي النظام الراهن بتعقيداته ومتاهاته التي لا حصر لها، تمحي حدود مسؤوليات كل فرد وتضمحل الغائيات. وهذا الجهاز على درجة من الكتامة والثقل يخلق معها شعوراً بالعجز وشعوراً بدوار التخلي معاً، ويخلق أيضاً العجز والتخلي الفعليين. فكل شيء يجري «في الأعلى» بعيداً غاية البعد، حيث لا منفذ لي لا بالفكر ولا بالعمل.
وإنما ضد هذا الاستلاب الشامل، ضد هذا الوحش الخرافي الأعمى ترتفع اليوم وتتصاعد مشاعر الغضب. وربيع 1968 في باريس كما في براغ قد أزاح النقاب عن هذه الحقيقة بما رفعه من شعارات فصيحة الدلالة بتقاربها: شعارات تسيير ذاتي حقيقي ضد المشاركة المزعومة الموهومة.
ليس تغيير الضمائر إذن مجرد أمنية ورعة: فهو قد شرع يتحقق من الآن تحت سمعنا وبصرنا، حتى في المؤسسات التي للماضي اليد الطولى في تنظيم بناها، أعني الكنائس والأحزاب.
لنحاول أن نحلل تبدل الضمائر هذا لدى المسيحيين ولدى الماركسيين.
إن المسيحية والمار كسية على حد سواء قد عجزتا حتى الآن عن الوفاء بوعودهما. فالمسيحية التي كانت تعلن عن وجود متعال لنظام مراد من الله وتدعو بني الإنسان إلى الاعتراف بهذا النظام إلى القبَّول به، كانت تجرد الانسان من مسؤولية تاريخه ومن مسؤولية خلقه وإبداعه. والماركسية لا تستطيع هي الأخرى، ما دامت مشوبة بالمادية الميكانيكية وبالوضعية، أن تتيح للإنسان إمكانية الانسلاخ عن قدره ليصبح مبدع تاريخه، وخالقه.
والامكانيات الجديدة تولد اليوم من أزمة مزدوجة – ايجابية البشائر – تعاني منها المسيحية والمار كسية على حد سواء.
إن ما فرض على المسيحيين أن يعيدوا التفكير في إيمانهم، وما فرض على الماركسيين أن يعيدوا التفكير في راسخ معتقداتهم، وما فرض على هؤلاء وأولئك أن يميزوا في مواقفهم ما هو أساسي وما هو محض شكل ثقافي أو تأسيسي تواجد عبر التاريخ، وما فرض على هؤلاء وأولئك أن يدققوا النظر اليوم في الشروط النوعية لانتمائهم إلى العالم، يتمثل قبل كل شيء في تأثير التبدلات الكبرى التي يحياها عصرنا.
إن التحول المشار اليه في شروط الحياة قد طالب الأحياء بالمثول للاستجواب. أرغمهم على إعادة النظر في ما كانوا يحسبونه مبادئ وما كان في حقيقته محض تقاليد وموروثات، وعلى اتخاذ مبادرات كانت تسمى في الماضي هرطقات وهي في واقعها إبداعات مذهبية.
إن ثلاث وقائع جلى قد اقتضت تجديداً عميقاً وخلقت شروط هذا التجديد.
– نهاية الاستعمار.
– الانقلاب العلمي والتقني الكبير.
– قيام الاشتراكية وانحرافاتها.
لقد وجد الغرب نفسه مكرهاً منذ نحو عشرين عاماً، منذ الثورة الصينية، منذ انتزاع شعوب آسيا وإفريقيا لاستقلالها السياسي، منذ انطلاقة حركة التحرر القومي والاجتماعي في أميركا اللاتينية، وجد نفسه مكرهاً على أن يتخلى رويداً رويداً عن الوهم الذي كان يصور له أنه المركز الوحيد للمبادهة التاريخية وأنه المبدع الوحيد للقيم.
وحتى إذا كان الماضي ما يزال يشن بشراسة معاركه الرجعية في شكل حروب استعمارية، من حرب أنغولا إلى حرب فيتنام، وفي شكل استعمار جديد ومبادلات لا متساوية مع العالم الثالث على نطاق القارات الثلاث، فثمة حقيقة عنيدة تفرض نفسها بقوة متعاظمة وهي أن مشكلة التنمية ومساعدة التنمية ليست محض مشكلة اقتصادية. فحتى لو تضاعف معدل المساعدة مرتين أو ثلاث مرات لما ونت الهوة بين الشمال والجنوب تتسع وتتعاظم.
فالخطأ الأساسي هو الاعتقاد بأن الحضارة الغربية، كما تطورت منذ العهد الإغريقي الكلاسيكي ومنذ عصر النهضة، في النموذج الأوحد للتطور.
فانطلاقا من هذه المسلمة تقدم «المساعدة» في أحسن الحالات لبلدان العالم الثالث كي تتخطى بدورها مراحل ذلك التطور المنزل منزلة التطور النموذجي.
وإذ تُقدم «المساعدة» لهذه البلدان كي تنجز في نهايات القرن العشرين «الثورة الصناعية» التي أنجزتها أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر، في الوقت الذي يتيح لنا فيه الانقلاب العلمي والتقي الراهن تسريعاً مدوخاً لتطورنا الذاتي، فإن الهوة بين العالمين لا تني تتعمق كما لاحظ البابا بولس السادس في رسالته البابوية «التقدم الشعبي».
إن إعادة النظر الجذرية في هذه المشكلة تقتضي أن يتقدم ما هو تقافي على ما هو اقتصادي. أي أن تُنظَّم الوسائل تبعاً لتأمل نقدي جوهري في الغابات.
إن أساساً جديداً لعلاقاتنا بالعالم الثالث وإعادة توجيه جذرية لتصور «المساعدة» يقتضيان أن بوضع حد للأوهام بصدد الطابع الاستثنائي لـ «الغرب» الذي بات اليوم مجرد إقليم بين أقاليم العالم.
ولا يجوز أن يحل محل الاستعمار القديم، النافي والمدمر لكل ثقافة لا غربية، نزعة أبوية ثقافية مميتة بالنسبة للعالم الثالث ومفقرة بالنسبة إلى ثقافاتنا نحن بالذات.
وإنما بمقدار ما نتقبل بلا تحفظ فكرة وجود معايير أخرى للتطور غير المعيار الاقتصادي الغربي القائل بالنمو للنمو، و مقدار ما نتقبل بلا تحفظ فكرة أن التطور مظهر من مظاهر خلق الانسان المتواصل للإنسان في جميع أبعاده بدءا من النمو الاقتصادي الى تصور معنى الحياة وقيمها وغاياتها، وفكرة أن تلك المعايير يجب أن تكون داخلية بالنسبة إلى كل حضارة لا مفروضة ومعممة من قبل حضارة بعينها، بمقدار ما نتقبل بلا تحفظ هذه الفكرات تكف مساعدة التطور عن أن تكون وحيدة الاتجاه وتتأسس على حوار حقيقي بين الحضارات و تصبح حسب تعبير شاعر زنجي كبير «الملتقى الكوني للأخذ والعطاء».
وهذا التحول سيتعمق بالتوازي مع تسارع «غروب الآلهة» أي مع تسارع أفول ماردّيْ العالم الغربي: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
إن طموح الولايات المتحدة إلى الهيمنة العالمية، الذي أمكن له أن يستمر ما يناهز الثلاثين عاما، قد انكفأ على نفسه مقهوراً بصورة نهائية حين كرست «قرارات» صيف 1971 – التي لم تكن في الواقع إلا نكوصاً إجبارياً – فشل وكذب الدفاع المزعوم عن «العالم الحر» (هذا الدفاع الذي يجد أشأم مثال له في حرب فيتنام): فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها مكرهة على طلب التفاوض مع الصين وعلى التخلي عن ملكوت الدولار كقاعدة عالمية للنقد.
كذلك فإن طموح الزعماء السوفييت إلى أن يلعبوا دوراً قيادياً في «المعسكر الاشتراكي» وإلى تكوين نموذج أوحد للاشتراكية قد مُني بالفشل الذريع حين اضطروا إلى استخدام الدبابات لفرض نموذجهم بعد أن بات من المستحيل عليهم أن يعتمدوا على إشعاعهم الثوري أو على قدرتهم على تجاوز الرأسمالية اقتصادياً في مباراة سلمية أو على حظوتهم الايديولوجية في البلدان الاشتراكية.
وهناك اليوم قوتان قادرتان على أن يكون لها وزن عالمي وعلى أن تفتحاً آفاقاً جديدة للمستقبل: اليابان والصين. بيد أن سياسة الحكام اليابانيين في الخضوع والاستسلام للولايات المتحدة تقود إلى الإفلاس. ولا يمكن لغير المعارضة أن تغير السياسة اليابانية. فهل سيكون في مقدورها أن ((تترجم الى اليابانية)) مثال ماوتسي تونغ وأن توجه اليابان نحو تقارب عميق مع الصين؟ لو أمكن ذلك لأشرف عصرنا على انعطاف هائل: فالدينامية الاقتصادية اليابانية إذا ما تضافرت مع الثورة الصينية التي تمثل، بالرغم من اختلاجاتها المفاجئة، البديل الشامل الوحيد لأزمتنا الحضارية الراهنة، ستقود في نهاية القرن إلى ازدهار سياسي وثقافي لا سابق له في التاريخ للمنظومة الصينية – اليابانية ومن ثم لـ ((العالم الثالث)) في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
وعلى كل فإن ((أقول الغرب))، هذا لا يعني البتة ((خطراً أصفر)) خرافياً، بل يعني على العكس بداية عصر حضاري جديد، مشروعاً جديداً للحضارة يحل محل النموذج الغربي المولود مع عصر النهضة والرأسمالية والاستعمار والمسفر اليوم عن إفلاسه وعجزه عن ضمان التطور الانساني للإنسان.
وحتى إذا كان هذا المنظور، الذي ينبغي من الآن أن نحدد موقعنا منه، وحتى إذا كان مطلب ((الحوار بين الحضارات)) الحاسم بالنسبة الى المستقبل، لا يلقيان بعد الفهم الكافي، ولا يُعاشان بعد بكل نتائجهما، فإنها يشكلان مع ذلك قوة موضوعية كبرى في ميلاد تاريخنا القريب، قوة تفعل فعلها من الآن في صمت وثبات في وعي أصحي المسيحيين والماركسيين فكراً وتحدث فيهم، بلا علم منهم أحيانا، تبدلاً كبيراً على صعيد الوعي.