حاوره: نعمان المونسي
يحظى تاريخ 11 فبراير بأهمية بالغة في التاريخ اليمني المعاصر، ففي مثل هذا اليوم من عام 2011 اندلعت الاحتجاجات ضد النظام الفاسد، والتي تحولت إلى اعتصامات تطالب بتفكيك منظومة النظام العسكقبلي.
في هذا الحوار يتحدث نائب دائرة الحقوق والحريات بمنظمة الحزب الاشتراكي اليمني، في تعز، أحمد طه المعبقي، حول الإرهاصات التي سبقت الثورة، ودور اليسار فيها، والصعوبات والعوائق التي واجهتها وحول أحداث أخرى رافقتها.
وفيما يلي نص الحوار:
- لماذا اُختير 11 فبراير للاحتفال بالثورة رغم كثرة الاحتجاجات والمسيرات قبل ذلك التاريخ؟
* ليس بوسع أحد أن ينكر إن هناك احتجاجات سبقت يوم 11 فبراير، لكنها كانت احتجاجات مزمنة لبعض ساعات ثم يعود المحتجون إلى منازلهم وكانت، في الغالب، عبارة عن احتجاجات مطلبية تنادي بإصلاحات معينة.. ما يميز ثورة 11 فبراير عن بقية الاحتجاجات هو إنها اخذت طابع ثوري ولم تقتصر على المطالبة بإصلاحات جزئية. ففي ليلة 11 فبراير خرجت الجماهير إلى الشارع ولم يرجع المتظاهرون إلى منازلهم بل أعلنوا الاعتصام المفتوح مطالبين بالتغيير الجذري، برغم قلة عددهم في بداية الأمر، إلا أنهم أحدثوا تحول في الخارطة السياسية للبلاد، وتعتبر مدينة تعز هي من رسمت اليوم الأول للثورة، فخرجت الجماهير في ذلك اليوم إلى الساحات ولم تعود إلا بعد عام كامل.
- • أين كنت يوم 11 فبراير 2011؟ وهل بمقدورك أن تصف لنا تفاصيل اللحظات الأولى لثورة فبراير؟
* قضيت اليوم كاملًا في نادي تعز السياحي مشاركاً في المؤتمر الخامس للحزب الاشتراكي في تعز.
بعد المغرب فاجأ الأستاذ علي الصراري، الذي كان مشرفاً على المؤتمر، الجميع ببشارة: سقوط حسين مبارك ونجاح الثورة المصرية. وبعد سماعي للخبر بدأت ومعي مجموعة من الرفاق داخل القاعة، التحضير للخروج إلى الشارع.
ثم فوجئت بالرفيق على الصراري وهو يناديني للصعود إلى المنصة، حيث طلب مني عدم المشاركة في المسيرة، مضيفًا: لأسباب أمنية علينا تأجيل المغادرة إلى الغد، لأن الوقت صار ليلاً وفي ذلك خطر عليكم، ثم أننا في مؤتمر حزبي وعلينا التزامات تجاه الجهات السلطات الأمنية بعدم المشاركة بأي مسيرة أو أي احتجاج.
لم أقتنع بالحجج التي قدمها الرفيق علي الصراري، ورأيت أن هذه الفرصة لا تعوض، ويجب أن نلتقط الحدث ونستغله لإحداث التغيير في البلد.
بعدها، خرجت مع مجموعة من الرفاق ورأينا حشود تتحرك بشكل عفوي في شارع جمال، كانت تحتفي بسقوط حسني مبارك وتطلق الألعاب النارية وسرعان ما تحولت تلك الحشود إلى مسيرة تحركت صوب مبنى المحافظة وشارك فيها المئات بما فيهم امرأتين (إشراق المقطري، وشيناز الاكحلي)
استمر المتظاهرون أمام المحافظة قرابة نصف ساعة، هاتفين بسقوط النظام، وبعدها انقطعت الكهرباء وقذفنا بعض بلطجية الأمن بالحجارة في الظلام، ثم بدأ المتظاهرون يتفرقون.
ثم عدنا إلى شارع جمال (امام الكريمي للصرافة) ولم يبق سوى مجموعة صغيرة من المتظاهرين (حوالي أربعين) من المستقلين وشباب الاشتراكي والناصري.
في صباح يوم 12 فبراير 2011 بدأت تتوافد الحشود وتلتحق بالمحتجين وانطلقت مسيرة طافت شوارع جمال و26 سبتمبر والهريش والتحرير الأسفل وعادت الى المركزي وبالتحديد إلى شارع التحرير الأعلى، نظراً لأهمية اسم هذا الشارع وارتباطه باسم شارع التحرير بمصر الذي انطلقت منه الثورة المصرية.
واصلت مع المتظاهرين حتى الساعة 12 ظهرًا، حينها شعرت بالإرهاق لأنني لم أنم في اليوم الأول للثورة، فعدت للنوم في منزلي.
في صباح يوم 13 فبراير 2011، عدت إلى مكان المتظاهرين في شارع التحرير ولم أجدهم. أخبرني أصحاب المحلات أن قوات الأمن داهمت المتظاهرين واعتقلتهم، فذهبت إلى الكشك لشراء الصحف وفوجئت بأحد الجنود يمسكني بيدي طالباً مني أن أجاوب الافندم علي.
علي العمري ضابط أمن المحافظة كان في سيارته بالقرب من الكشك، ذهبت إليه، فطلب مني الصعود إلى السيارة، سألته إلى أين؟ أجاب: إلى عند اصحابك، فأخذني إلى قسم شرطة الجحملية.
وهناك وجدت عدد من المعتقلين من شباب الاشتراكي والناصري والمستقلين، وظلينا حتى ظهر اليوم نفسه، جاء بعدها قادة الأحزاب السياسية والشخصيات الاجتماعية وتم إطلاق جميع المعتقلين.
طلب مدير أمن تعز من المعتقلين أن يغيروا موقع اعتصامهم من شارع التحرير مبررًا طلبه بأن موقع التحرير حي تجاري وقد يستغل البعض الاحتجاجات فيسرقون المحلات التجارية.
اقترح علينا أن نقيم اعتصامنا في شارع الهريش (موقع ساحة الحرية حاليًا) لإتساع المساحة وخلو المكان من المحلات التجارية. وفي العصر من نفس اليوم توجهنا إلى ساحة الحرية ونصبنا الخيام ثم دعينا إلى اعتصام مفتوح حتى سقوط النظام.
- • ما هي الإرهاصات التي سبقت الثورة؟ وكيف كانت الأوضاع السياسية في البلاد؟
* كانت البلاد تعيش حالة من التوتر والاحتقان الشديدين نتيجة لما أفرزته الحروب الأهلية المتتالية، وأكثرها دماراً وهمجية حرب صيف 94 وما تبعها من حروب ست في صعدة، كما أن النظام كان يعيش حالة انقسامات لكنها لم تطف على السطح.
وكانت هناك أيضا تجاذبات سياسية بين الحزب الحاكم وأحزاب اللقاء المشترك حول إصلاح العملية الديمقراطية أو بالأصح إصلاح المنظومة الانتخابية، كل هذه الإرهاصات ولدت غضب شعبي واحتجاجات. وكانت القضية الجنوبية أبرز المشكلات العالقة في البلد، تولدت عنها احتجاجات شعبية متتالية بدأت في عام 2007.
وقد أحدث اندلاع ثورتي الربيع العربي في تونس ومصر نقلة نوعية في تطوير أدوات النضال السلمي في اليمن، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن ثورة فبراير هي امتداد لانتفاضات الحراك الجنوبي وان القضية الجنوبية كانت حاضرة بشكل قوي في وجدان شباب الثورة السلمية وان نواة ثورة 11 فبراير كانوا من أبناء محافظات جنوبية وشمالية من أولئك الذين آمنوا بعدالة القضية الجنوبية. حتى بعد أن امتطى المشترك صهوة الثورة الشبابية وعمل على حرف مسارها ورهنها لمشايخ حاشد، كان شباب الثورة يرفضون تأجيرها، مرددين عصابة 7/7 نفس اللون ونفس الطبعة وكان هذا الهتاف تعبير واضح عن حضور القضية الجنوبية في وجدان شباب الثورة. إضافة إلى ذلك أن هذا الهتاف كان تعبيراً عن ردة الفعل على الممارسات القمعية، التي كان يمارسها المشترك (حزب الإصلاح) ضد شباب الثورة، وللتذكير بأن المكون الأكبر المشترك هو جزء لا يتجزأ من عصابة النظام القمعية.
• كيف تقيم دور الأحزاب اليسارية في الثورة؟
** اليساريون بشكل عام سواءً كانوا منظمين في احزاب سياسية او مستقلين هم بحق صناع ثورة فبراير، كانوا الأكثر جرأة واستعداداً للتضحية، وللإنصاف ينبغي القول إنهم هم صناع فبراير دون منازع، فاليساريون بطبيعتهم يتسمون بالثورية. الثورة تتطلب خطوات ثورية جريئة تغير من رتابة وركود الظروف التي تجري فيها البلاد، وهذا ما وفرته قوى اليسار. بعكس الإسلاميين الذين ظلوا يترقبون الفرصة المناسبة لكي يقطفوا الثمار ويوظفون الحدث لصالحهم. فمن المعروف أن الإسلاميين اتخذوا ثورات الربيع العربي كغنائم في معارك شاركوا فيها في اللحظات الأخيرة، هذا القول ينطبق على الأقل على ثورة فبراير اليمنية. ومع ذلك، لا أعتقد أن أحداً يمكن أن ينكر أن اليساريين هم من صنعوا ثورات الربيع العربي، لكنهم لم يواصلوا قيادتها، باستثناء تونس، حيث تمكن اليسار من قيادة الثورة حتى النهاية. ويلام اليساريون اليساريين اليمنيين بسبب فشلهم على الاستمرار في قيادة الثورة وهنا تكمن انتكاسة فبراير لأن صناعها لم يقودها. ويرجع هذا الى الوضع التنظيمي الضعيف لدى القوى اليسارية. فالكيان الذي يقود الثورة يجب أن يكون أكثر تنظيما.
• من المعلوم أن عناصر حزب الإصلاح جاءت إلى الساحات متأخرة لكنها استولت على قيادة المنصات بالقوة، كيف حدث ذلك؟
** الإصلاحيون دخلوا الساحات متنكرين في الشهر الأول من الثورة وحاولوا لعب دور الوسيط ، بين شباب الثورة والسلطة. فمثلاً بعض أعضاء مجلس النواب عن حزب الإصلاح جاءوا إلى الساحة مطالبين شباب الثورة بتسجيل مطالبهم ووعدوهم بتوصيلها إلى السلطات العليا في الدولة. وليس خفيا على أحد أن حزب الإصلاح ظل متحفظاً في البداية حول سقف المطالب التي رفعها شباب الثورة وأهمها رحيل رأس النظام وسقوط جميع أركانه. وعندما رأوا أن زخم الثورة يتنامى كل يوم، بدأ حزب الإصلاح في إرسال أعضائه على دفعات وانتظار التطورات. وحينما قرر حزب الإصلاح النزول إلى الساحات، أصدر بياناً باسم أحزاب اللقاء المشترك، مطالباً إياها الالتحاق بالثورة الشبابية رغم مشاركة الأطراف الأخرى التي وقعت على البيان منذ البداية، باستثناء حزب الإصلاح. ثم بدأت عناصر الإصلاح بإثارة المشاكل والعمل على الاستيلاء على المنصات. طبعا شباب الثورة لم يكونوا ضد الاصلاح أثناء نزوله الساحة، وكانوا موضع ترحيب، باعتبار أن الثورة ليست حكراً على كيان سياسي معين. وقد تم اشتراك شباب الإصلاح في جميع اللجان التنظيمية والإعلامية وغيره من اللجان الأخرى، باعتبار أن حزب الإصلاح مكون سياسي مثله مثل أي مكون سياسي آخر، لكن للأسف كان هوس الإصلاحين للسيطرة على الساحة كاملة فوق كل الاعتبارات. حيث بدأ تجنيد أعضائه من الأجنحة القبلية والأمنية، وقدم لهم مكافآت مالية يومية حتى يتمكنوا من حراسة المنصة ليل نهار، وبدأوا بممارسة العنف ضد اللجنتين الاعلامية والتنظيمية اللتين كانتا بصدد التأسيس. وتعرض شباب الثورة الاوائل إلى اعتداءات متكررة من قبل البيشمركة التي شكلها حزب الإصلاح وبسبب العنف المستمر ضد شباب الثورة، أجبروا على ترك المنصة. أقول بكل صدق وأمانة إن العنف الذي مارسته عناصر حزب الإصلاح في تعز ضد شباب الثورة تجاوز عنف السلطة التي خرجنا نطالب بإسقاطها.
لذلك بدأ شباب الثورة البحث عن خيارات بديلة لمواصلة النضال تتمثل في المسيرات التصعيدية في شارع جمال والعودة الى الساحة وأصبح شارع جمال هو المتنفس لشباب الثورة يرددون فيه شعاراتهم ويستمعون الى الاغاني الثورية، وقد كانت سيارتي الرفيقين محمد صبر وايوب الصالحي بمثابة المنصات المتحركة لشباب الثورة، بعد أن تحولت منصة ساحة الحرية إلى مكان قمع لثوار فبراير.
• ما هي الضربات وما هي العقبات التي واجهتها الثورة؟
- ثورة فبراير السلمية لم تكن منعزلة عما يجري في المنطقة العربية (الربيع العربي)، فقد كان مشروع ثورة فبراير تجسيد لمشروع ثورتي تونس ومصر، والمتمثل في اسقاط الانظمة المستبدة والفاسدة ومشاريع توريث الحكم، عبر وسائل النضال السلمي ودون إراقة الدماء. لكن المؤامرة على سلمية الثورة كانت أكبر مما كنا نتوقع، كون استمرار سلمية الثورة يهدد القوى التقليدية الحاكمة، لذا دأبت تلك القوى، من خلال التحاقها الزائف بالثورة، على عسكرتها ونشر العنف وسط الشباب باعتبار أن تلك هي الطريق الأقصر لتحقيق غاياتها. مما دعاها على السعي لإفراغ الثورة من مضمونها السلمي وجرها نحو العنف، وهذه كانت الضربة الأولى التي تلقتها الثورة الشبابية. وينبغي هنا التأكيد على توافق القوى التقليدية سواء المحسوبة على حزب المؤتمر او تلك المحسوبة على أحزاب المشترك، الممسكة بالقرار السياسي في البلد منذ عقود من الزمن، لأنها كانت ترى أن النضال السلمي سيؤدي في النهاية إلى سحب البساط من تحت أقدامها وبذلك سينتهي نفوذها، وسيمكن القوى المدنية والحداثية، من جميع المكونات السياسية، من الوصول إلى سدة الحكم. لهذا تم اصطناع مصادمات بين ما يعرف بالفرقة الأولى مدرع والحرس الجمهوري. وقُدمت الفرقة الأولى مدرع كحارس للثورة الشبابية، وتم تحويل الثورة الى ازمة وصراع بين معسكرين داخل النظام، وتسويق هذا الصراع إقليميا لينتج عنه ما يعرف بالمبادرة الخليجية. وهكذا أعيد توزيع الكعكة من جديد بين القوى التقليدية الحاكمة، وهذا يعد الانقلاب الأول على الثورة الشبابية السلمية، والذي يمكن تسميته بالانقلاب الرومانسي، الذي تبع بانقلاب ثاني نفذه الحوثيون لكنه انقلاب أكثر همجية، لأنه نسف ما تبقى من نضال سلمي وجر البلاد إلى حرب أهلية طاحنة لا نزال نتجرع ويلاتها حتى الآن.
- لا يمكن أيضا أن نغفل حجم التآمر الاقليمي على الثورة الشبابية السلمية في اليمن على وجه الخصوص وثورات الربيع العربي على وجه العموم فقد عملت دول اقليمية على إفراغ ثورات الربيع العربي من مضمونها السلمي وعلى تشجيع العنف وتسليح الفصائل المتطرفة، مما ولد إخفاقات ثورات الربيع العربي في اليمن وسوريا وليبيا.
- في الاخير يجب أن نعترف بأن بعض المكونات التي التحقت بالثورة لم يترسخ لديها الإيمان بالتغيير السلمي، بل استخدمت النضال السلمي كمقدمة لتغذية حروبها، وهذا بحد ذاته يمثل أكبر انتكاسة واجهتها الثورة السلمية. كما يتعين علينا أيضاً القول بأن غياب الوعي، بأهمية النضال السلمي، مكن القوى التقليدية من تحويل شباب الثورة وقودا لحروبها.