بلال الطيب
مما لا شك فيه أنَّ جلاء قوات الاحتلال البريطاني من جنوب اليمن مَثَّل نقطة تحول فارقة في توازن القوى؛ فهو من جانب حرم الإماميين من شريان حيوي هام كان يمدهم بالمال والسلاح، ورفع من جانب آخر ـ وهو الأهم – معنويات المُقاتلين الجمهوريين، المُدافعين عن صنعاء، وحفَّزهم أكثر على المُقاومة والصمود.
وبعد دعم الجبهة المعنوي، هناك دعم مادي وعسكري حقَّ أن يُذكر، وقبل الغوص في تفاصيله، وجب التذكير أنّهَ وبعد نجاح الثورة السبتمبرية المجيدة 26 سبتمبر 1962م، تحول الإنجليز إلى داعم رئيس للإمام المخلوع محمد البدر، وتجاوز دعمهم التأييد السياسي إلى فتح مُعسكرات خاصة داخل الأراضي الجنوبية لتدريب القوات الإمامية، ليتنامى ذلك الدعم أثناء الإعداد لحصار صنعاء، وكان الخبير البريطاني ديفيد سمايلي من ضمن من وضعوا تلك الخطة، فيما قام جيم جونسون بفتح مكتب في لندن لاستقبال وتجنيد المُرتزقة، ومن ثم إرسالهم إلى جبال اليمن، وقد وصل عددهم إجمالًا إلى أكثر من 2,300 مُرتزق.
كما قامت بريطانيا بتسليح حوالي 20,000 من أبناء القبائل الشمالية، وأذاع راديو لندن حينها أنَّ الإماميين زودوا بأكبر صفقة سلاح قُدرت قيمتها بـ 400 مليون جنيه استرليني، بالإضافة إلى المئات من سيارات الوانيتات السريعة الأمريكية الصنع. والأكثر خسة أنَّ الإنجليز استخدموا سلاحهم الجوي لصالح الإماميين أكثر من مرة، وقد تجسد ذلك التدخل السافر بصورة أعنف عند احتلال الأخيرين لمدينة حريب، وذلك قبل حصار صنعاء بعدة أيام.
وليس من المُستبعد، كما أفاد جار الله عمر – أحد أبطال ملحمة السبعين يومًا – أنَّ عملية الجلاء هي من دفعت قوى التخلف للإسراع في حصار صنعاء؛ بدليل قيام إحدى الدول العربية – لم يذكر اسمها، والراجح أنَّها السعودية – بإرسال وزير خارجيتها إلى لندن لحث الإنجليز على تأجيل انسحابهم، حتى تُحسم معركة صنعاء لصالح الإماميين، وقُدم ذلك المُقترح مشفوعًا بعرض تحمل تكاليف بقاء قوات الاحتلال في الجنوب فترة أخرى! غير أنَّ الإنجليز رفضوا ذلك العرض؛ تحت وطأة الخسائر الفادحة التي ألحقها الثوار اليمنيون بجنودهم.
وهكذا، وبعد بطولات مائزة يطول شرحها، تحقق جلاء الاحتلال، ووصلت الجبهة القومية إلى سُدة الحكم، وبالرغم من أنَّ حكومتها (حكومة الاستقلال) كانت تعاني من مخاض الولادة العسير، إلا أنَّها لم تغفل مسئوليتها الوطنية تجاه صنعاء المُحاصرة، شكلت لجنة مركزية لدعم المُقاومة الشعبية، ودأبت على إرسال كل عون مادي وعسكري مُمكن.
والأكثر أهمية أنَّها – أي الجبهة القومية – أوفدت لجنة من قبلها إلى شمال اليمن لمعرفة الأوضاع السياسية والعسكرية عن قُرب، وعن تلك اللجنة قال الشيخ سنان أبو لحوم في مُذكراته أنَّ السلطات في الجنوب أوفدت إلى الحديدة عبدالرحمن العبسي، وذلك في منتصف يناير من العام 1968م، ومعه عدد من الشباب، و25,000 طلقة شرفا.
كما قامت الجبهة القومية بمُلاحقة العناصر التي كانت تدعم الإماميين، وتصفية من ثبت تورطهم، مثل العميل فدامة، وآخرين، وقامت أيضاً بإصدار البيانات السياسية الداعمة، وكان بيانها المُساند للمُقاومة الشعبية هو الأشهر 20 يناير 1968م، وأكد – أي البيان – أنَّ مرحلة جديدة من الكفاح الثوري بدأت، وإنَّ دعم المُقاومة الشعبية يعد تصحيحًا لواقع الشمال، وتلبيةً لاحتياجات الجماهير الكادحة.
كما قامت الجبهة القومية بحشد المواطنين للانخراط في صفوف المُقاومة الشعبية، وتحركت الجماهير في شوارع عدن بمسيرات غاضبة، وكان شعارهم بادئ الأمر: (كل شيء من أجل حماية صنعاء)، وبعد مرور شهر من بدء الحصار تحول إلى: (كل شيء من أجل فك الحصار عن عاصمة شعبنا التاريخية)، وكلاهما كانا امتداد لشعار: (الجمهورية أو الموت) الذي عم صداه الأرجاء.
وعلى ذات المنوال التحفيزي، أرسلت الجبهة القومية حوالي 450 من مُقاتليها للمُشاركة في ملحمة الدفاع عن العاصمة والجمهورية، لتتجسد مُساهمة الجبهة الفاعلة في ذات اليوم الذي فُك فيه الحصار عن صنعاء 8 فبراير 1968م، حيث قامت قوة من الجيش الجنوبي، والمليشيا الشعبية، مع قوة من الجيش الشمالي بالهجوم على القبائل الموالية للإماميين في المناطق الشرقية، واستطاعت خلال فترة وجيزة أنْ تحرر مدينة حريب، وتعيدها لأحضان النظام الجمهوري.
كما قامت الجبهة القومية بمعركة مسورة، ومدت المُقاومة الشعبية فيها بالكثير من المُؤن والسلاح، وكُلف في الجانب الآخر قائد لواء إب بالتواصل مع قائد منطقة الضالع علي عنتر، وطلب العون بما هو متاح. وهكذا حظي المُقاومين في الشمال بدعم إخوانهم في الجنوب، وعبر جغرافيا كانت حتى الأمس القريب مُحتلة، وتقف إلى جانب عدوهم، عدو كل اليمنيين.