كتاب المواطن / سلامة كيلة
أفق الانتفاضات
الآن، لقد شهدنا انتصار الإسلاميين في تونس ومصر والمغرب، ومن ثم سقوطهم في مصر وتراجعهم في تونس وربما سيكون الأمر ذاته في بلدان أخرى، فهل أن هذه هي نهاية الانتفاضات البطولية التي هزّت ولازالت المنطقة العربية؟
ما حاولت تبيانه في الفقرات السابقة هو محاولة تفكيك المنطق، أو محاولة تبسيط ما جرى، من أجل الوصول إلى نتيجة تتمثل في أن ما انتفضت من أجله الطبقات الشعبية لم يتحقق بعد، وأن الأحزاب التي تصل عبر الانتخابات لا تحمل حلًا لمشكلات هذه الطبقات، وأن الانتخابات ما دامت تجري تحت “إشراف” الدولة ذاتها دون “هدمها” وإعادة بنائها انطلاقًا من رؤية ومصلحة الطبقات الشعبية؛ سوف تكرس الأحزاب التي تعبر عن المصالح الطبقية التي تقوم عليها السلطة عبر سيطرة الرأسمالية المافياوية ونمط الاقتصاد الريعي، وأن غياب اليسار المرتبط بالعمال والفلاحين الفقراء وبكل الطبقات الشعبية هو الذي جعل الانتفاضات في مأزق، وقاد إلى أن تصل إلى السلطة الأحزاب الليبرالية المتأسلمة، وأن الإمبريالي نجح نتيجة السبب ذاته، أي غياب البديل الذي يمثل العمال والفلاحين الفقراء.
ومن ثم أن التحليل الاقتصادي يوضّح أن المسألة تتعلق بتغيير النمط الاقتصادي الريعي، وأن الحل يتمثل في وصول قوى تحمل مشروعًا ينطق من إعادة بناء الصناعة وتطوير الزراعة، وبناء التعليم على أسس علمية، وتطوير بنية المجتمع كلية.
وأن ذلك هو المدخل لتحقيق دولة ديمقراطية مدنية، وليس من الممكن أن تقوم دولة ديمقراطية حقيقية (وليس ديمقراطية الانتخابات فقط) إلا عبر تجاوز الاقتصاد الريعي.
ومن ثم فإن كل القوى القائمة، والتي يمكن أن تلعب الدور الأساس الآن هي ليست في وارد كل ذلك، وبالتالي ستكون في صدام مع الطبقات الشعبية، الان أو بعد بعض الوقت، وأن وضع هذه الطبقات لم يعد يسمح بأن تنتظر طويلًا، وربما لم تعد تنتظر أشهرًا، وأنها كسرت حاجز الخوف والتردد وباتت في صراع يومي لن يتوقف قبل انتصارها هي، وليس الأحزاب الليبرالية. وأيضًا أن هذا الانفجار الشعبي الهائل أدخل كتلًا هائلة من الشباب إلى معترك النشاط السياسي، الأمر الذي سوف يقود إلى تشكّل السياسة من جديد، من خلال تشكيل الأحزاب والنقابات والاتحادات والهيئات المدنية، وتجديد الفعل الثقافي.
بالتالي، ما يتحقق الآن لا يعدو أن يكون لحظة في صيرورة بدأت للتو، وستطال المستوى الاقتصادي، فتغيير الشكل لا يعني شيئًا بالنسبة للطبقات الشعبية التي تريد حلولًا اقتصادية لمشكلاتها، لأن الكلام لا يحل هذه المشكلات، والحريات لا قيمة لها –بالنسبة لهذه الطبقات- إذا لم ترتبط بحل مشكلاتها الاقتصادية، فالثرثرة ليست مهنتها.
إذن يجب أن نعرف لماذا لم يعد اليسار قوة حقيقية؟ ولماذا أصبح الإسلاميون هم القوة؟ وأيضًا لماذا كانت الانتفاضات عفوية بهذا الشكل الفاقع؟
لقد دخلنا في عقد من الحراك الثوري، كان غياب العامل الذاتي هو السبب الذي أعاد إنتاج النظم ذاتها بالمصالح الطبقية التي تمثلها وبأشكال سياسية جديدة، لكن الواقع الموضوعي لا يسمح للطبقات التي تمردت أن تعود إلى مسكنها دون تحقيق التغيير الضروري في وضعها، فهي لم تعد تستطيع العيش في الوضع الذي هي فيه، ولهذا لن تستطيع السكون والرضى. هذه هي القاعدة الأساس في فهم الوضع الراهن وهي أساس إعادة صياغة السياسة والفكر والوعي لبلورة ماركسية مختلفة، وحزب مترابط مع العمال والفلاحين الفقراء.
مهمات اليسار
بعد كل ذلك، ماهي مهمات اليسار، أقصد الماركسيين بالتحديد؟
إذا كان هدف الماركسيين هو “تغيير العالم”؛ فإن القوة التي تفعل التغيير باتت تمارس هذا الفعل، أقصد هنا العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية، وكما أشرت فإن فعلها هذا سوف يستمر إلى أن تفرض بديلها، لكن هذا يفترض أن يتبلور الفعل الماركسي الذي ينطلق من الارتباط بالعمال والفلاحين الفقراء؛ ويبلور البديل الذي يطرحونه، ومن ثم يضع الإستراتيجية التي توصل إلى الاستيلاء على السلطة.
فما هو واضح تمامًا هو أن حل مشكلات الطبقات الشعبية يفترض تغيير النمط الاقتصادي في سياق يفرض التصادم مع الرأسمالية التي فرضت النمط السائد، وبالتالي فإن حل هذه المشكلات يفترض تجاوز الرأسمالية حتمًا، وبالتالي فشل كل القوى الليبرالية عن الوصول إلى حل يوقف الصراع الطبقي القائم.
هذا أساس يفضي إلى التأكيد على أن الترابط بين الطبقات الشعبية والماركسية يبدو حتميًا، لكن من خلال مقدرة الماركسية على بلورة البرنامج المعبر عن هذه الطبقات، ووضع السياسة التي تسهم في تطور الصراع، والآليات التي تفضي إلى انتصار حاسم للانتفاضة، هذا الانتصار الذي يعني استلام الطبقات الشعبية للسلطة، وليس إبعاد رئيس أو تنحية “فاسدين”. فهنا يتحقق إبدال الطبقات الشعبية بالطبقة المسيطرة، وتشرع الطبقات الشعبية في إعادة بناء الدولة والاقتصاد، والتوضّع الدولي.
إذن؛ لابد للماركسيين من إعادة صياغة الرؤية والبرنامج، ووضع الإستراتيجية التي توصل إلى الاستيلاء على السلطة، وهو الأمر الذي يعني البدء في بناء حزب ماركسي، يترابط مع العمال والفلاحين الفقراء، ويطّور نضالهم من أجل ذلك.