المواطن / ثقافة / قصة: فياض عبدالحكيم
لن يثنينا الحزن عن أحلامنا.. عن طموحاتنا.. مازال للإرادة فينا بقية.. قالها وهو يواري الثرى ساقه التي فصلها عن جسده النحيل لغم زرعته الحرب على قارعة طريق الجامعة، قبل أن يعاود اكمال دراسته الجامعية والحرب المشتعلة في المدينة لم تنتهي فصولها بعد!!.
يستعين بعكازة من إحدى أشجار قريته النائية لأن فقره المدقع لم يمكنه أن يستعين بقدم صناعي وحكومة بلاده مشغولة بشحن أرصدتها البنكية بالأموال … وقبل أن يلج قاعة المحاضرة عرجى إلى المكتبة لشراء مقرراته الدراسية..
على باب المكتبة وقف مائلاً نحو الإيمن محاولاً مساواة قامته “بعصاته الخشبية” يسأل بعد أن تراكمت الكتب التي طلبها على طاولة المكتبة كم ثمن هذه هي الكتب؟.
-صاحب المكتبة: خمسة آلاف ريال..
يدخل يده جيبه يتحسس والخجل بادي على وجنتيه مقدار ما لديه من مال.. ويتمتم مع نفسه: لم أتناول وجبة العشاء منذ أسبوع كامل فربما وفرت المبلغ المطلوب!!.
يخرج ما لديه من مال يعده مرة مرتين… يبتسم إبتسامة ممزوجة بالمرارة والكبرياء، يخاطب صاحب المكتبة بلطف: أعطيني نصفها فلا يوجد لدي غير نصف المبلغ!!
في قاعة المحاضرة.. تحديداً في المحاضرة الثالثة والساعة تشير إلى الواحدة ظهراً… يذكره صوت امعائه الخاوية أنه لم يتناول وجبة الإفطار!!. وبثبات وصمود أسطوري!! أنهى محاضرته الثانية وعاد إلى حانوته يتعكز تلك العصى تحت جذوذ الشمس الملتهبة متعديا بصعوبة أكوام القمامة المتراكمة في الأزقة والشوارع، فلا مال لديه يمكنه من الركوب!!.
مسكنه ليس له باب يغلقه بقطع من قماش ، وفراشه كرتون إستاجره من رجل فقير مثله، وحدهم الفقراء أحن قلوباً وألين أفئدة.. يرمي كتبه على مضجعه، يشغل تفكيره من اين يستدين ثمن الرغيف وثمن كوب الشاي التي أعتاد عليها كـ وجبة غداء يومية؟!! يقطع تفكيره سؤال صاحب الغرفة التي تقع تحت درج تلك العمارة القديمة في أطراف المدينة -متى ستدفع الإيجار أيها الاعرج؟.. لقد مضى عليك ثلاثة أشهر لم تدفع بعد- … آه قالها ثلاث واردفها بقوله لا تقلق بضعة أيام فقط.
عند أذَان العصر “رجال مدججون بمختلف الأسلحة يمشطون الطرقات بملابس نصفها زي عسكري ونصفها الآخر زي شعبي”!! تخيم عقولهم شعر طويل ، كث ، مجعد” من تزاحمهم في مدخل حارته الصغيرة من عبور الشارع إلى الجمعة المقابلة حيث هناك بقالة صغيرة لكي يستدين بعض أوراق النقود التي لا تتجاوز عدد أصابع يده الواحدة.. يتناول وجبة الإفطار والغداء معاً!! بشراهة المضرب عن الطعام منذ شهر كامل، أما العشاء فلم يعد يتذكر آخر يوم تعشاء فيه!!.
الثامنة مساءً: أصوات القذائف تصم أذان المدينة، الخوف يستبد أهلها، رائحة الموت تصدع المدينة، أنين الجرحى وصراخ الثكالى يشق الفضاء ويوقظ السماء، يبدأ عمله في بقالة والد رفيقه الكادح أيضاً.
منتصف الليل مسلوب السكون، يعود إلى حانوته يفزعه قذيفة سقطت على بعد عشرين متر منه، ويسأل: ماذا لو تأخرت قليلاً؟!! ترعبه قذيفة أخرى سقطت على بعد عشرة امتار منه، ويسأل ماذا لو أسرعت قليل؟!! يلج حانوته يرتمي وينام على كرتونه لا لحاف له ولا مدفأة.. وكل أبناء المدينة يرتجف من البرد إلا هو فقد أستقوى جسده على هذا البرد وأعتاد عليه فلم يعد يشعر به.
قبل أن يرفع المؤذن صوته لصلاة الفجر بنصف ساعة يستيقظ يراجع دروسه، يقطع انسجامه أصوات الرصاص تعوي في الأحياء المجاورة، القذائف تدك الشوارع وتفزع كل الأطفال والنساء في المدينة، هو أيضاً قلبه طفل لكنه يستأنسها كما استأنس عواء الكلاب وتخلص من عقدة الطفولة، يواصل مراجعة كل دروسه في ساعتين فقط قبل أن يذهب إلى دراسته من جديد بعد تناول وجبة الإفطار أو بدون!!.. فلا فرق لديه، وكل الفرق أن لا يكمل تعليمه.
هكذا قضاها، خمس سنوات، لم يثنيه عن إكمال دراسته لا الألم، لا جوع، لا برد ولا الحرب.. بابتسامة عريضة تواري خلفها نزيف دهر من الوجع.. حتى وصل إلى اليوم الذي رفع فيه قبعة التخرج من كلية الهندسة بيد، وبيده الأخرى قدمه التي صنعها بنفسه لنفسه وكانت مشروع تخرجه.