المواطن/ كتابات
حمود محمد المخلافي
دعوني أعرج بكم قليلًا قبل الفجيعه التي أصبت بها وأنا أمام درفتي الفرن للمرة الثانية، أعرج بكم عند المخزون المتوارث لدى جلادي الأمن الوطني وبشاعتهم في التعذيب النفسي الأشد وطأة من التعذيب الجسدي _فقبل أسبوع من الرحلة وبعد أن استدعاني الضابط محمد اليدومي- يتم استدعائي من قبل أحد المحققين ليس إلى غرف التحقيق -وإنما الى غرفة مدير السجن يحي سعد- كل مافي الامر أيضًا ليسألني عن اسمي، والفترة التي مضت عليَّ في السجن، يؤنبني كيف أضعت نفسك وشبابك في السير في طريق الخيانة للوطن وخدمة أعدائه -محاضرة يبدو لي أنها اسطوانه مرت على مسامع كل المعتقلين- ثم يردف لي بالقول: “أنت متزوج ولديك طفلة ستضيع عليك”.. لم يسبق له استجوابي لكن لديه قائمة في رأسه عن المعلومات الشخصية التي تخصني -رغم عدم استغرابي ذلك- لكني سألته كيف ستضيع ابنتي، وما علاقة ذلك بالتحقيق معي؟
أجابني: أنا لا أحقق معك ولكنها نصيحة أحببت توجيهها إليك..
كان رده مباشرة كحجرة قذفت على جمجمتي لتتطاير شضاياها في الفضاء.. زوجتك حصلت على طلاق من المحكمة، وقد تزوجت، وطفلتك تعيش محرومة من الأب والأم بسبب طيشك، رسالة كلف بإيصالها لاوط غير هكذا حاولت أن أتصالح مع نفسي.. لم يمهلني أن اتمالك نفسي من هول الصدمة
ياعسكري رجعه مكانه، أستنهضني العسكري فلم أستطع الوقوف، أحسست اني مثبت في قاع الغرفة ويجثم على صدري قصر البشائر، تأخذني الدوامة في فضاء مظلم والدوار يلف بي، لم أفق سوى على صرخة العسكري: “هيا قم، يافندم أعجبته الجلسه هانا”، تمالكت قواي ونهضت محاولًا إقناع نفسي أن ذلك لا يعدو أن يكون أسلوبًا من البطش النفسي المفضل لدى الجلاد، ولجت إلى السجن وفي غرفتي مددت جسدي المتخشب وتحت البطانيه عاد الدوار من جديد وانطلقت في رحلة بكاء صامت…
لا أخفيكم سرًا أن ألم مزق أحشائي صاحبني حتى في الرحلة إلى تعز وانا أتخيل إبنتي نضال ذات الثلاث سنوات شريدة وسط مجتمع لا يرحم.
أستقبلني الحراس الذين ظلوا هم بدون تغيير بإعتباري سجينهم السابق، النكتة في الموقف القيود تتغير، فالقيد الخاص في سجن صنعاء يجب أن يعود إلى صنعاء فهو قيد أصيل، أقعدوني أرضًا وقاموا بإستبدال القيد الصنعاني بقيد تعزي.
لست مستغربًا ان يصل التمييز بين صنعاء وتعز إلى مستوى التمييز الطائفي بين القيد الصنعاني والقيد التعزي فتلك حقيقة نلمسها في السجن أكثر من خارجه طائفية عفنة تزكم الأنوف.. إذ فوجئت ذات يوم بإعتقال رفيقًا لي أعرفه هو المرحوم نبيل احمد فضل رئيس اللجنة الثقافية والاعلامية لشمال محافظة مذيخرة الحزبية كانت تضم اصاب والقفر وعتمة وآنس..الخ وبرفقته احد المسؤلين العسكريين في المنطقة لا اعرف إسمه من آنس أثناء محاولة انسحابهما الى عدن، وثاني يوم يتم إستدعاء الأنسي من قبل مدير الجهاز ليتم اطلاقه بينما يظل زميله المقطري عامين في السجن.
عموما نهضت وتم فتح ألباب لأفاجأ بالترحاب وضجيج الإستقبال من القاطنين في الفرن فقد كان يكتظ بأكثر من سبعون سجينًا جلهم من شرعب رفاق وأبناء وأباء.. لحظتها أحسست بالسجن ووطئة المعتقل، رغم فرحة السجناء الذين أعتبروني مفقودًا وتم تصفيتي، إحساسي بالمسؤلية تجاههم كان مؤلمًا وجحيمًا.
كانت غلطة قيادة الجهاز أن اقحموني بين رفاقي الذين أرتبطت فيهم زمنا، قاسينا معًا حلاوة النضال ومرارته.. لأرى بأم عيني قساوة التحقيقات معهم ووحشيتها وربما أن الغلطة متعمدة رغبة في رفع منسوب التعذيب النفسي وزيادة في الإيلام..
أينما تلفت أرى أجسادًا منهكة وأثار التعذيب عليها، أجسادًا ممزقة وتشوهات من جراء سياط الجلادين الذين لا هم لهم سوى التعذيب من أجل التعذيب لا يفرقون بين شيوخ أو شباب، بين مثقف وأمي،
رغم بشاعة مايجري والجراحات التي يحملونها إلا أن حياتهم منتظمة تسودها النكتة والمرح.
أول ما التقيت
- احد شبيبة الحزب عبده سعيد قاسم الذي اعتقل مع أخيه علي سعيد ومجموعة من أسرته وأبناء منطقته، بينهم علي سعيد قائد وحسن فرحان، كان يحمل تطلعات وطن بروح الشباب الوثابة دوما..تحمل التحقيقات وقساوة التعذيب بصمت، يتعامل مع مايجري بروح المفكر، قليل الكلام، تطبعه سمة التحفظ، لايمنح ثقته الا في محلها..هكذا السجن علم الجميع وكان مدرسة لمن يريد ان يتعلم عندما تم الإفراج عنه فرحت كثيرا وأسررت له ببعض أسراري حول بعض الأمور التي كانت تخيفني خارج السجن وأخشى إنكشافها فكان أمينا في حملها
- عبدالعليم الجعدي رجل مسن جاوز عمره الستون عاما، لم يشفع له عمره في تجنب التعذيب او التخفيف منه…كان يقف وراء سجنه مشائخ العدين الكبار أمين بن علي محسن وحمود سرحان الزمر وآخرين الذين يتابعون حالته في السجن لحظة بلحظة، رغم أنه سلم نفسه للدولة عبرهم وبوساطتهم واستقبل بحفاوة كبيرة من قبل مسؤلي تعز، لكن الرغبة في التفرد في الهيمنة من قبل هؤلاء وتوسيع إقطاعيات النفوذ والتسلط على رعاياهم قذفت به إلى السجن
مورس ضده كل أشكال التعذيب وبشاعته من التعليق الى الجلد..كان يتم إنزاله بجسد شائب ممزق ليتلقفه السجناء بعنايتهم وتدليك أثار التعذيب بالفكس..لكم ان تتخيلوا ان محور التحقيقات معه والتعذيب الذي يصوب على جسده المتهالك أن إعترف انك ماركسي..جلست معه لأكثر من مرة..كان مرحا يرمي بنكاته في وجه المجموعة المحتلقة حوله يفاجأنا بالسؤآل ياجماعة قولوا لي ماهي الماركسية..فهمونا حتى اجاوب المقراني ليتخلى عن تعذيبي.
حاول أحد السجناء مجاراته..ياعم عبدالعليم قل للمقراني (الليلة سأحدثك بكنه الماركسية هي وجبة روسية تشبه بنت الصحن عندنا يأكلوها ليس بالأيدي وإنما بملاعق من خشب هذه هي مافيش داعي تعلقنا ولا تضربنا.).عندما عاد من التحقيق حمل على بطانية ليقذف به الى داخل السجن في حالة يرثى لها..تم سحبه الى الغرفه وعندما أفاق كانت اولى كلماته يابني…. كذبتم عليا بفهم الماركسية، كنت فرحان وأنا أصفها للمقراني كما فهمتمونا، أستمع إلي بصمت بمجرد ما أكملت ..ترك التحقيق مع السجناء وتفرغ لي لم يرحمني، تشتي والا ماتشتيش..بعد فترة تم إطلاقه وتوفي الله يرحمه - محمد هزاع عقلان من الأكروف عمره يقارب السبعون عاما…جسمه هيكلا عظميا بحكم العمر تم إعتقاله من قبل الجماعات المتطرفة وإيصاله الى الأمن الوطني بدلا عن إبنه الدكتور سعيد محمد هزاع، هو الآخر لم يرحمه الجلاد من التعذيب أي وحشية هذه التي يحملها أناسا تم فرزهم ليتحولوا إلى وحوش مسعورة تنهش في أجساد اباءهم واخوانهم وشركاءهم في الإنسانية أي ضباع هذه لاتفرق بين حيوان وإنسان
لم يعد رفاق الإقامة الأولى موجودين مفيد، واحمد غالب والدكتور ابوبكر والدكتور عبدالرحمن حيدر…لكن شاهر مجاهد كان لايزال مرابطا في إنتظار المجهول
ضيوف جدد من مناطق مختلفة في المحافظة
كان محور التحقيقات مع المعتقلين الحزبيين او من يشك بعلاقتهم بالحزب يتركز بحثا عن إعترافات تؤدي إلى الإمساك بالمرحوم الدكتور محمود المعمري أو الفقيد ابو النصر والرفيق جبران كونهم رأس منظمة الحزب في تعز وإب حسب تقديرات الأمن الوطني
تم إعتقال مجموعة من بني عمر هم:-
• راشد……. المعمري لم تسعفني الذاكرة بكامل إسمه صاحب ورشة سيارات بيجو في قبة المعصور..رجل مثالي بصبره وجلده وعطفه على السجناء قاسى ألوانا من التعذيب بحثا عن الدكتور محمود..ارتبطت مع راشد بزمالة حميمية خارج السجن حتى وفاته ولازالت علاقتي جيدة بأولاده.
• محمد أمين ميكانيك سيارات في ورشة بالخيامي..عذب تعذيبا شديدا لليالي متواصلة..حتى أدميت يديه وساقيه..كان شابا متدينا يصرف معظم وقته في الأيام التي لايستدعونه فيها بالصلاة والإكثار من صلاة النوافل
• ضحية أخرى هو الزغير محمد االزغير من بني عمر..رجل نحيل لايمتلك جسما للتحمل..ومع ذلك عانى كل صنوف التعذيب التي كان يقابلها بإستهجان..خفيف الدم..لاتفارقه النكتة..كان يجاهد لإحالة حياتنا إلى مرح وتناسي لهمومنا، بعد خروجه من السجن عمل في الهيئة العامة للبريد فرع تعز بلغني العام الماضي أنه غادر دنيانا رحمة الله عليه
هذه المجموعة وبين يدي المقراني ظلت ترفض الإقرار والاعتراف بعلاقتها بالحزب او معرفة الدكتور محمود.صمدت رغم العنف بحقها والتي أصابت الجلاد بهستيريا..حتى كانت الكارثة اعتقال أحد الأفراد هو الزغير محمد ابراهيم الذي كان مهزوما فأعترف بوضع زملاؤه الثلاثة ووضعهم الحزبي حيث تحولت تلك الإعترافات إلى سياط جديدة أنهالت على رفاقه.. إحساسا بالذنب من قبل الزغير محمد ابراهيم حاول إحراق نفسه في غرفته المغلقة عليه..خصوصا عندما تم مقاطعته من قبل كل السجناء..تداركه السجناء واطفأوا الحريق الذي كاد دخانه يتسبب لنا بالإختناق في فرن لايملك تهوية
• عبده عمر هواش من بني عمر موظف في المخبز المركزي التابع للمؤسسة العامة للحبوب، أعتقل مع موظف مولد…يتميز عبده عمر بجسم نحيل لايقوى على تحمل التعذيب، ورغم ذلك خضع لكل صنوف التعذيب من قبل المقراني الى درجة أنه كان أحيانا ومن شدة عبثه ينساه معلقا في الهواء لينتبه له الحراس متأخرين ليقوموا بإنزاله..كان عبده عمر صلبا رغم بنيته الضعيفة ولم يتمكن الجلاد من انتزاع اي إعترافات منه
ذات مساء بارد من مساءات تعز تم إطلاق سراح هذه المجموعة من السجن في 14فبراير 1984م مع الرفيق شاهر مجاهد سالم بعد منتصف الليل بلامبالة من قبل إدارة السجن وتوقع ما سيلاقونه، ماعدى عبده عمر هواش تم ارساله إلى صنعاء
بخروجهم أصبح السجن الفرن حكرا على أبناء شرعب فيما المعتقلين من مناطق ماوية ينزلون في غرفة أمام البوابة لانلتقي معهم الا في أوقات دخولهم الحمام مرة واحدة في اليوم عصرا
تركزت التحقيقات مع الجبهويين بشكل أساسي حول مخازن السلاح أين ومع من؟
يتبع الحلقة الخامسة