قراءة اجتماعية سياسية في تجربة البناء الوطني للمدة 1962-1990م
المواطن/ كتابات ـ د. ياسر حسن الصلوي
أستاذ علم الاجتماع السياسي والحوكمة المساعد
رئيس قسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية – كلية الآداب
جامعة تعز
ورقة مقدمة إلى الندوة الفكرية التي نظمتها جامعة تعز بعنوان : الثورة اليمنية ( سبتمبر واكتوبر) تحديات الحاضر وآفاق المستقبل بتاريخ 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2020م
ترتبط مجمل التحولات التي عرفها المجتمع اليمني خلال ما يزيد عن الخمسة العقود الماضية بقيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962م في الشمال، وثورة 14 أكتوبر عام 1963م وإعلان الاستقلال في الجنوب في 30 نوفمبر 1967م. لقد شكل هذان الحدثان نقطتين فاصلتين في التاريخ الاجتماعي والسياسي للمجتمع اليمني، إذ ارتبطت بهما بداية ولوج اليمن مرحلة التحديث بمجالاتها وجوانبها المختلفة.
لقد نتج عن ثورة 26سبتمبر تغيير نظام الحكم الإمامي الثيوقراطي، كما نتج عن ثورة 14أكتوبر الاستقلال تغيير نظام الحكم الاستعماري السلاطيني، وبناء على ذلك تم الإعلان عن قيام دولتين وطنيتين في الشمال والجنوب، وهو ما مثل بداية الانتقال من مرحلة النضال الوطني من أجل التحرر والدعوة إلى إقامة الدولة الوطنية الحديثة- التي بدأت منذ الثلاثينيات حتى مطلع ستينيات القرن العشرين – إلى مرحلة الفعل والبناء الوطني، التي ظهرت أبرز ملامحها في بداية عملية التأسيس والبناء للدولة الوطنية الحديثة.
ونظرا لعدم وجود أي ركائز أو مقومات حقيقة للدولة الوطنية الحديثة قبل الثورة والاستقلال ؛ فقد بدأ تأسيس الدولة في اليمن بقيام السلطة (أي قبل الدولة) المتمثلة بنظامي الحكم (الحكومة، والجهاز الإداري، والجيش)، فبإعلان قيام الدولة في الشمال والجنوب واعتمادهما النظام الجمهوري تأسست سلطتان سياسيتان في الشمال والجنوب تولتا بناء الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، حيث تزامن نمو السلطة والدولة معاً.
غير إن القطيعة مع النظامين السياسيين السابقين( الإمامي في الشمال والاستعماري السلاطيني في الجنوب) وقيام نظامين سياسيين في الشمال والجنوب، كل ذلك كانت له نتائج مختلفة على البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولتين اليمنيتين؛ و ذلك بسبب الطبيعة المتناقضة و المتباينة لهما، وقد تولتا عملية البناء الوطني وقيادة عملية التحديث والتنمية، ارتبط هذا التباين بينهما بجملة من الظروف الداخلية الموضوعية منها والذاتية، والعوامل الخارجية، التي أثرت وحكمت مسار ذلك البناء، غير أن أهم تلك العوامل تمثلت في طبيعة النخب السياسية التي تولت السلطة وتصورها الفلسفي والأيديولوجي لكيفية بناء الدولة واتجاهات التطور الاقتصادي والاجتماعي.
الثورة وبناء الدولة الحديثة في الشمال قبل عام 1990:
عقب قيام ثورة 26 سبتمبر عام 1962م والإعلان عن أهدافها العامة- التي نُظر إليها بوصفها المنطلقات الأساسية الموجهة لبرامج التحولات اللاحقة لما بعد الثورة- بدأت عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة مرحلتها التأسيسية مباشرة. فقد أولت الثورة أهمية كبيرة لبناء مؤسسات الدولة، وذلك نظرا لعدم وجود أي ركائز تذكر في الواقع لدولة فاعلة قبل ذلك التاريخ، فالمملكة المتوكلية( 1918-1962) كانت بعيدة كل البعد عما تتصف به الدولة الحديثة، فقد كان نظامها السياسي( العهد الإمامي) يقوم على أساس تقليدي ثيوقراطي تمحورت سلطته وتركزت في شخص الحاكم- الإمام- مع اعتماده لفرض سلطته على بقايا تركة بيروقراطية كان قد ورثها عن الاحتلال العثماني قبل خروجهم من اليمن عام 1918م.
لقد بدأ تشكّل الأطر القانونية والهياكل المؤسسية للدولة مع صدور أول إعلان دستوري عام 1963م و بخاصة المؤسسات السيادية( الجيش الوطني والأمن والخارجية) حيث حرصت النخبة الثورية الحاكمة على بنائها لتأكيد وجود الدولة داخليا والاعتراف بها خارجيا، تلاه صدور عدد من الدساتير المؤقتة والإعلانات الدستورية التي أهتمت بمسألة تنظيم السلطة، والإقرار بالحقوق والحريات الخاصة والعامة، والتأكيد على مسئوليات الدولة تجاه المواطنين ووظائفها في مختلف المجالات.
وعلى الرغم من أهمية التغييرات التي أحدثتها الثورة في سنواتها الأولى إلا أن تشكل وبناء مؤسسات الدولة كان قد تأثر بطبيعة الأوضاع التي سادت في تلك الفترة التي اتسمت بعدم الاستقرار السياسي بسبب تعرض الثورة لثورة مضادة من قبل عناصر النظام القديم والقوى الداخلية والخارجية التي تحالفت معها في محاولة منها لإجهاض الثورة هذا من جهة، وبروز الصراع الداخلي بين صفوف الجمهوريين نتيجة لتعدد القوى السياسية والاجتماعية المتنافسة على السلطة والساعية إلى تحديد مواقعها في سلطة الدولة الجديدة ومؤسستها؛ أي جهازها البيروقراطي المدني والعسكري من جهة أخرى.
خلال هذه الفترة؛ أي منذ قيام الثورة وحتى نهاية الستينيات يمكن الوقوف على متغيرين أساسيين كان لهما تأثير كبير على بناء الدولة الوطنية الحديثة ومؤسساتها ، وبنية النظام السياسي الجديد و طبيعته، كأبرز مظاهر التحديث السياسي Political modernization أولهما يتصل بطبيعة الدور السياسي الذي بدأت تلعبه القبيلة والقوى التقليدية فيما يتعلق بسلطة الدولة وبناء مؤسساتها، فقد سعت النخبة الحاكمة – التي تولت السلطة بعد قيام الثورة مباشرة – إلى كسب ولاء القبائل ودعمها للنظام الجمهوري في مرحلة الصراع والمواجهة مع القوى الملكية فأدى ذلك السعي إلى فتح الباب على مصراعيه أمام المشايخ والرموز القبلية والنظام القبلي للمنافسة على السلطة السياسية في نظام الحكم الجديد، وتولي مناصب مهمة في مؤسسات الدولة بعد أن كانت السلطة في نظام الحكم القديم- أي قبل الثورة- مقصورة على الإمام وحده، لقد كان مشايخ القبائل في ظل النظام الإمامي القديم يؤدون دور الوسيط بينه وبين رعاياه، ولم يكن مسموحاً لهم ممارسة أي سلطة إدارية أبعد مما يعطيهم العرف القبلي التقليدي ، لكن نظام الحكم بعد قيام الثورة بما منحه للقبائل من سلطة أصبح كما وصفه بعض الكتاب الغربيين ” بالنظام الجمهوري القبلي “( ) .
لقد بدأت الجماعات القبلية ممثلة بالمشايخ والزعماء القبليين تلعب دوراً سياسيا فاعلا ضمن بنية الدولة الجديدة ونظام الحكم فيها بعد شهر من قيام الثورة، تمثل ذلك بصدور الإعلان الدستوري في 31 أكتوبر 1962م الذي عُد الوثيقة الرسمية الأولى للنظام الحاكم، حيث تضمن الإعلان عن تشكيل المجلس الأعلى للدفاع الوطني والذي يتكون من مشايخ القبائل ” الضمان”، الذين كانوا يمثلون كبار المشايخ، وتمثلت مهمة هذا المجلس في تولى مسؤولية الأمن في البلاد من خلال حفظ الأمن في حدود قبائلهم، كما أنيط بهم مهمة تمثيل سلطة الدولة في مناطقهم، في مقابل حصولهم على لقب وزير ودرجته المالية، وبذلك كان هذا الإعلان قد عمل على تقنين حق المشايخ في المساهمة في نشاط وفعالية هذا الجهاز- أي المجلس- الذي كان مساوياً لأعلى جهاز لسلطة الدولة ممثلا بمجلس قيادة الثورة آنذاك.( )
كما تمت مأسسة Institutionalization وضع القبيلة عبر القرارات والإجراءات التي تم اتخاذها لاحقا لتصبح المؤسسة القبلية فاعلاً أساسياً في التأثير على اتخاذ القرارات وقضايا السياسة الداخلية والخارجية للبلاد( ) وبذلك أصبحت القبلية في شمال اليمن مؤسسة من مؤسسات الدولة، من خلال النصوص القانونية والإجراءات العملية التي أكدت على موقعها في المنظومة السياسية، وتم تكييف الجماعات القبلية مع الظروف الحديثة ومأسستها بصفتها جزءاً من بنية الدولة( )، وقد مثل ذلك الأمر في الواقع ميلادا جديدا للمؤسسة القبلية اليمنية( ).
أما المتغير الثاني: فيتعلق بتوجهات النخبة السياسية الحاكمة بعد الثورة نحو المشاركة السياسية Political participation وممارسة العمل السياسي عبر أطر حديثة ففي مقابل جذبها للقوى التقليدية والقبيلة وضم رموزها وإشراكهم في المواقع المهمة ضمن سلطة الدول، اتجهت في المقابل إلى حظر ممارسة العمل السياسي والمشاركة السياسية،( ) وحصرها في إطار حزب سياسي وحيد تابع للسلطة الحاكمة( الاتحاد الشعبي الثوري) الأمر الذي كان يعني من الناحية العملية الإقصاء المتعمد للحركة السلمية للنضال الاجتماعي السياسي ممثلا بالأحزاب اليمنية المختلفة التي كانت موجودة في الساحة آنذاك، وحرمان قطاعات كثيرة من أفراد المجتمع من خارج الأطر والتكوينات التقليدية والمتمثلة أساسا بالقبيلة من حقوقها في المشاركة السياسية والتمثيل السياسي على الرغم من الدور الفاعل الذي اضطلعت به في الدفاع عن النظام الجمهوري، كما كانت تمثل قوى مناهضة للقبيلة والعقلية القبلية ذاتها( ).
لقد أدى فقدان النخبة التي تولت السلطة لرؤية واضحة وبرنامجٍ سياسي محدد وواضح المعالم ومتفق عليه لمرحلة ما بعد الثورة إلى ظهور الخلافات في صفوف الجمهوريين حول العديد من القضايا المتصلة بمسألة بناء الدولة وطبيعة النظام السياسي، وقد مثلت علاقة الدولة أو السلطة المركزية بالقبائل واحدة من أهم القضايا المركزية التي دارت حولها خلافات حادة. وعلى الرغم من أن التباينات بين قوى الثورة كانت قد بدأت منذ قيام الثورة إلا أن الانقسام النهائي في أوساط الجمهوريين تكرس منذ انعقاد المؤتمر الثاني للقبائل في عمران في 18 أغسطس 1963م، فانقسم الجمهوريون إلى جناحين: الأول تحديثي اعتمد موقفه على أهمية بناء دولة وطنية حديثة توفر الآليات التي تتيح لجميع المواطنين المشاركة السياسية دونما وساطة بينهم وبين الدولة ومؤسساتها، فيما الجناح الآخر محافظ قامت رؤيته على أساس بناء دولة تقليدية تحتكر فيها النخب المشاركة السياسية ( )، وقد حكم عمل النظام الحاكم في السنوات اللاحقة الصراع بين هذين الاتجاهين حول السلطة وتنفيذ برامجها ومطالبهما.( )
و نظرا لاستمرار لحالة الصراع على السلطة بين مختلف القوى ومواقفها من العملية السياسية وبناء الدولة؛ حدث الانقلاب العسكري في 5 نوفمبر1967م والذي آلت فيه السلطة إلى نخبة تقليدية محافظة تشكلت من تحالف جمع بين القوى التقليدية المحافظة والبرجوازية التجارية ورموز المؤسسة العسكرية وعمل على تصفية قوى اليسار وإقصائها من مؤسسات الدولة ومراكز صنع القرار( أحداث مارس في الحديدة وأغسطس في صنعاء 1968م) حيث رأت في وجود تلك القوى في مؤسسات الدولة أمراً يتعارض مع مصالحها، وفي الاتجاه المقابل عملت على التقارب ثم التصالح مع الملكيين ليتم تاليا إشراك بعض رموزهم في سلطة الدولة.
لقد كانت الحصيلة الكبرى لانتهاء الحرب الأهلية هي انتهاء الفصل النسبي الذي كان قائما بين الدولة والمؤسسة القبلية، بحيث برزت القبيلة بعد التصالح مع الملكيين كقوة اجتماعية مستقلة اقتصادياً عن الدولة، الأمر الذي مكنها تاليا من التأثير الفاعل في النظام السياسي( )، تجسد ذلك في الواقع بزيادة تمثيل المشايخ في جميع مؤسسات الدولة، وعلى المستوى المحلي ( المحافظين) والمؤسسة العسكرية والجهاز الإداري للدولة( )، وبذلك أصبحت المؤسسة القبلية جزءاً أساسيا من بنية الدولة والنظام السياسي.
أما فيما يتصل ببناء بقية مؤسسات الدولة State institutions فعلى الرغم من أن أولى معالم تشكُّلها كان قد بدأ بعد الثورة مباشرة ومواكبا لإنشاء المؤسسات السيادية ( الجيش والأمن، والخارجية) بوصفها آلية لتعظيم رضا المواطنين عن الثورة والدولة الجديدة لا سيما أن التخلص من الجهل والأمية والفقر والمرض كان قد مثل أحد أهم الشعارات التي ظلت ترفعها الحركة الوطنية خلال فترة نضالها الوطني ضد النظام الإمامي والذي جرى التعبير عنها في أهداف الثورة إلا أن ذلك لم يتم بصورة فعلية إلا مع مطلع السبعينات، فمع نهاية العام 1970م صدر الدستور الدائم الذي عُد من أهم الدساتير التي نظمت سلطة الدولة في الجمهورية العربية اليمنية، وتضمن تحديداً لطبيعة الدولة والمقومات الأساسية للمجتمع حيث ظلّ العمل به سارياّ حتى قيام الوحدة.
ومع ذلك شهدت تلك الفترة أي من العام 1962 حتى العام 1970م مرحلة التأسيس لدور الدولة التنموي، وذلك من خلال صدور جملة من القرارات المعنية بإنشاء وتنظيم الجهاز الإداري- الوزارات والمصالح الحكومية- والهيئات المعنية بالتخطيط للتنمية، ومؤسسات القطاع العام والمختلط، كما انضمت الدولة إلى عضوية بعض المؤسسات الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي 1969م) أما في مجال الخدمات الاجتماعية فشهدت بناء عدد محدود من المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية في بعض المدن الرئيسية بدعم وتمويل من بعض الدول التي ساندت الثورة.
مع مطلع السبعينات بدا واضحا أن المجتمع اليمني في الشمال كان قد شهد تحولاً تبدت أبرز ملامحه بما يمكن وصفه ” بالتحديث المحافظ ” ( ) الذي عكس توجهات النخبة السياسية التي سيطرت على الحكم من خلال التحالف بين القوى التقليدية والمؤسسة العسكرية، كما كان تأثير النفوذ السياسي السعودي على بناء الدولة وطبيعة النظام السياسي فيها واضحا و قد بدأت ملامحه بعد المصالحة مع الملكيّين ، واستمر تزايده بعد ذلك عبر استراتيجيتين تمثلت الأولى بالدعم المالي المباشر الذي كانت تقدمه السعودية كمساعدات اقتصادية للحكومة، حيث رأت في ذلك الدعم وسيلة فعالة لتقوية ودعم النظام السياسي الشمالي في مواجهة النظام الماركسي في الجنوب والذي كان يُخشى تمدده في المنطقة، حيث نظرت السعودية لليمن الشمالي كمنطقة عازلة بينها وبين النظام الماركسي في الجنوب، فضلا عن استخدامها لعدد كبير من العمالة اليمنية، إذ كانت قد بدأت الهجرة إلى السعودية في بداية السبعينات.
أما الاستراتيجية الثانية فتمثلت في دعمها المالي المباشر للمشايخ والزعامات القبلية لكسب ولائهم لها، وبقائهم كقوى مستقلة عن سلطة الدولة و سيطرتها ، وهو ما كان يعني قدرتها من خلالهم على التأثير في سياسات الدولة وبنائها واستقرارها،فضلا عن نشرها للتيار الإسلامي المتشدد ودعم الجماعات الدينية التي عبرت عن النزعة الدينية المحافظة، للتصدي للجماعات الدينية الزيدية ” الشيعية ” في مناطق الشمال.( )
خلال السنوات الأولى من عقد السبعينيات(1970م وحتى العام 1994م) اتسمت الدولة ومؤسساتها بالضعف الشديد بسبب هيمنة القبيلة والقوى التقليدية عليها، تجسد ذلك من خلال مظهرين أساسيين: تمثل أولهما بتعزيز وجود رموزها في مختلف مفاصل الدولة وجهازها الإداري، وباستنزاف الموارد المالية للدولة لمصلحة تلك القوى وعناصرها، وتمثل ثانيهما في محاولة استقلال القبائل عن سلطة الدولة المركزية وضعف الدولة عن بسط سلطتها على مناطق البلاد المختلفة، وبخاصة المناطق الشمالية والشرقية، وهو ما أدى إلى تفشي مظاهر الفساد والمحسوبية على مستوى الدولة والمجتمع، وحدوث انفلات أمني وتدهور في المستوى المعيشي للمواطنين.
لقد قادت تلك الأوضاع إلى حدوث انقلاب عسكري في13 يونيو1974م انتزعت فيه السلطة لصالح نخبة جديدة من المؤسسة العسكرية، شرعت بدورها في إصلاح مؤسسات الدولة فعلى الرغم من تركز السلطة واحتكارها ضمن فئة جيدة ينتمي جميع أعضائها إلى الجيش- مجلس القيادة الذي ضم جميع أعضائه عناصر عسكرية- فقد عرفت القيادة السياسية في تلك الفترة بتوجهاتها الحداثية في بناء دولة حديثة تقوم على أساس النظام والقانون، وبمحاولتها إخضاع مختلف المجموعات الاجتماعية في البلاد لسلطة الدولة المركزية وإنشائها نظاماً رقابياً على الأجهزة الإدارية للدولة- لجان التصحيح العليا- للحد من الفساد المالي والإداري الذي كان قد تفشي في الجهاز الإداري للدولة.
لقد شهدت تلك الفترة تقليصا لحجم القوى القبلية و نفوذها على مستوى مناطقها- المستوى المحلي- أو على المستويات العليا في الدولة من خلال بعض الإجراءات تمثل أبرزها باستبعاد الرموز التقليدية أو العناصر العسكرية التي ارتبطت معها بعلاقة ما من المؤسسات السياسية والعسكرية، ومنع صرف الميزانيات المالية التي كانت تعطي للرموز القبلية من خزينة الدولة. وقد مثلت تلك الجهود الرامية لاستبعاد المؤسسة القبلية وتهميش دورها السياسي المحاولة الأبرز في النظام السياسي الشمالي، غير أن هذه الفترة التي استمرت ما يقارب ثلاث سنوات شهدت صراعا بين القوى ذات الرؤية التحديثية، والأخرى التقليدية، انتهت باغتيال رئيس الدولة ( الحمدي) عام 1977م لتنتقل بعدها السلطة إلى قيادة عسكرية جديدة (الرئيس الغشمي، ثم الرئيس علي عبدالله صالح1978) حيث عملت على إعادة القوى التقليدية والقبلية إلي السلطة والتحالف معها لكسب ولائها ودعمها.
لقد مثل عقد السبعينات بداية انطلاق بناء المشاريع الحديثة، فقد أكد دستور عام 1970م على أخذ الدولة بالاقتصاد الحر، وبذلك كانت الدولة قد فتحت الباب أمام الأخذ بنمط التنمية الرأسمالية- وإن كانت الدولة قد وضعت بعض القيود القانونية في مجال التجارة والاستثمار- مما أتاح للقطاع الخاص حرية ممارسة نشاطه، خلال هذه الفترة شرعت الدولة بالتخطيط لإحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة، وتشغيل الموارد الطبيعية والبشرية المعطلة. وبالرغم من أن التخطيط المركزي للتنمية لم يكن يمثل التزاما أيديولوجيا للنظام السياسي- كما كان عليه الحال في الجنوب مثلا- فقد نُظر إليه كأداة وحاجة ضرورية لمواجهة حالة التخلف التي تشهدها البلاد عبر تدخل الدولة المباشر لإحداث التغييرات المطلوبة في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية من جهة، كما كان يمثل مطلبا للجهات والمؤسسات الدولية المعنية بالتنمية، للحصول منها على المساعدات والقروض لتمويل المشاريع الإنمائية من جهة ثانية.
لقد أتاح تدفق الإيرادات المالية من الخارج إلى الداخل( بفعل العمالة اليمنية المهاجرة، وبخاصة إلى المملكة العربية السعودية والقروض والمعونات) قيام الدولة بدورها التنموي، وفي هذا الاتجاه نفذت الدولة منذ السبعينات وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي برنامجاً إنمائياً ثلاثياً واحداً لمدة ثلاث سنوات (1973-1976م) وخطتين خمسيتين الأولى(1976-1981م)، والثانية( 1982- 1986م)، فيما كان قد مضى ثلاث سنوات منذ البدء بتنفيذ الخطة الخمسية الثالثة(1987- 1992م) والتي كان مقرر لها أن تستمر حتى العام 1992م.
لقد ركزت الخطط التنموية التي نفذتها الدولة والحكومات المتعاقبة على إقامة البنى والهياكل الأساسية وبخاصة في مجال النقل والمواصلات؛ لربط المدن بالمناطق المختلفة للتخفيف من حالة العزلة التي كانت مفروضة، وتوفير الخدمات العامة الضرورية والأساسية على مستوى الحضر والريف وبخاصة في المدن الرئيسية، وتطوير الإدارة الحكومية، كما اتسع دور الدولة بعد ذلك إلى القطاعات الإنتاجية الحديثة- الصناعة التحويلية، الزراعة الحديثة- والاستثمار في مجال النفط في أواخر الثمانينات، أما في المجال الاجتماعي فقد كان التركيز منصًّبا على توفير خدمات التعليم، والرعاية الصحية، وتوظيف العمالة في الجهاز الإداري للدولة ومؤسسات القطاع العام.
في مقابل دور الدولة في مجال التنمية كان المواطنون قد بدؤوا على المستويات المحلية- المناطق والمحافظات- بتكوين ما عُرف “بهيئات التعاون الأهلي للتطوير”، استنادا إلى مبدأ التضامن والتكامل الاجتماعي فيما بينهم، حيث بدأت هذه الهيئات العمل في المجال التنموي بتوفير الخدمات الاجتماعية في المناطق والقرى معتمدة على المبادرات الذاتية والطوعية للمواطنين، وقد مثلت تلك الهيئات المبادرات المحلية للسكان في مجال التنمية للقضاء على حالة التخلف الاجتماعي التي كانت تعاني منها مناطقهم، من خلال نشاط هذه الهيئات وإسهاماتها الإنمائية في مجال البنية الأساسية Infrastructure في مرحلة لم تكن فيها الحكومة المركزية متواجدة إداريا في هذه المناطق، علاوة على افتقارها للإمكانيات التي تمكنها من تقديم الخدمات العامة للمواطنين.( )
لقد مثلت “هيئات التعاون الأهلي للتطوير” في تلك الفترة أدوات مناسبة للتنمية على المستوى المحلي واستجابة إيجابية لاحتياجات السكان الحقيقة من المشاريع التنموية والخدمات الاجتماعية، كما لعبت دورا مهماً في دعم جهود الدولة في مجال التنمية الاجتماعية المحلية والقضاء على حواجز العزلة بين القرى والمدن من خلال تنفيذها لآلاف المشاريع الإنمائية التي أدت إلى تغيير واقع وشكل المدن والمناطق المختلفة، من جهة، وربط السكان المحليين بالدولة المركزية من جهة ثانية.( )
وبدلا من أن تعمل الدولة على تطوير هذه التجربة، فقد دفع تخوف النظام الحاكم آنذاك مما يمكن أن تنطوي عليه تلك التعاونيات المستقلة من إمكانيات وتهديدات لسلطته إلى العمل على احتوائها باتخاذه العديد من الإجراءات والتدابير التي توجت بصدور تشريع رسمي (قانون المجالس المحلية للتطوير التعاوني في العام 1985م) بضمها رسمياً إلى المجالس المحلية كسلطة إدارية على المستوى المحلي تتبع الدولة المركزية.
إن إحدى المفارقات ذات الصلة بتجربة و نشاط الحركة التعاونية التي شهدها الشطر الشمالي منذ أوائل السبعينيات وحتى منتصف الثمانينات تتمثل في أنه في الوقت الذي يمكن أن يتولد عن الأنشطة والفعاليات التي يقوم أو يضطلع بها المجتمع المدني Civil society – المستقل عن سلطة الدولة- رأسمال اجتماعي Social Capital يُستفاد منه في تنمية المجتمع، إلا أن الدولة ( النخبة الحاكمة) قامت بمصادرته عوضاً عن العمل على تثميره وتنميته. والسبب المفسر لهذا النمط من سلوك الدولة( النخبة الحكمة)؛ هو أنه حينما تكون الدولة غير متغلغلة في المجتمع وباحثة باستمرار عن الشرعية والهيمنة على المجتمع- أي لا تتمتع بشرعية ثابتة ومستقرة- فإنها تسعى باستمرار لمحاولة ضم المجتمع المدني إليها وإلحاقه بها.( ).
منذ مطلع عقد الثمانينيات وحتى نهايته شهد الوضع السياسي والاجتماعي في الشمال استقرارا نسبيا بعد أن كانت الانقلابات العسكرية والاغتيالات السمة الغالبة خلال الفترات السابقة، حيث اعتمد الرئيس على عبدالله صالح على تأمين وتدعيم سلطته باتباع أساليب متعددة ومتنوعة، تمثلت أبرز مظاهرها في تعزيز سيطرته على الجهاز العسكري والأمني من خلال إقامته لشبكة من التحالفات العائلية العشائرية والقبلية التي ينتمي إليها رئيس الدولة وتحديدا قبيلة( حاشد)، كما عمد إلى تعيين أفراد عائلته على رأس قيادات الأجهزة الأمنية والقمعية، والمناصب العسكرية لضمان ولاء الجيش والأمن.
و لشرعنة وجوده في الحكم عمل أيضا على خلق شكل من المشاركة الجماعية باستحداثه “للمؤتمر الشعبي العام” كتنظيم سياسي- تكون في أغسطس 1982م- حاول من خلاله توسيع قاعدته التمثيلية بضم كل الاتجاهات السياسية المعارضة للحكم في إطاره ليصبح بذلك التنظيم السياسي الوحيد في البلاد المتاح له قانوناً العمل في الساحة وظل هو المتحكم الفعلي في هذا التنظيم السياسي(حتى مقتلة في 4 ديسمبر 2017م ) حيث استعمله كشبكة واسعة لرعاية المصالح والمحسوبية.
لقد مثل هذا التنظيم الأداة المناسبة لتدعيم نمط من العلاقات الزبائنية السياسية clientelism Political التي اعتمدها النظام الحاكم في ممارسته للسلطة على مستوى الدولة والمجتمع، وقد استخدم النظام ورئيس الدولة لتعزيز هذا النمط من العلاقات في الواقع العديد من الوسائل مثل أموال الخزينة العامة للدولة، والمناصب الرسمية في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، وفي داخل المؤسسات الاقتصادية، وذلك بغرض كسب الولاء السياسي لحكمه على حساب الكفاءة في معظم الأحيان هذا من جهة، ولخلق مصالح مشتركة بين المجموعات الأكثر نفوذاً على مستوى الدولة والمجتمع والمتمثلة بالعسكريين، ومشايخ القبائل، والمسؤولين في المؤسسات الرسمية والحكومية من جهة ثانية ( ).
خلاصة القول إنه وعلى الرغم من مضمون بناء الدولة الحديثة في شمال اليمن منذ قيام الثورة وحتى العام 1990م كان قد أنحصر بدرجه أساسية في بناء الجيش في مقابل ضعف الاهتمام ببناء الدولة المركزية الحديثة بمعناها المدني (18) إلا أن ذلك لم يفضِ إلى وجود مؤسسة عسكرية وطنية حقيقية، يشكل وجودها قوة موضوعية حديثة معادلة لقوة المؤسسة القبلية، وذلك لأن القبيلة كانت قد اخترقت الجيش نفسه، وتولى العديد من رجال القبائل والمشايخ مناصب مهة فيه كما أن المساعدات المالية الكبيرة التي حصلت عليها البلد فضلا عن تحويلات المغتربين، كانت تأخذ في الكثير من الأحيان مسارات غير ما تقرر لها، لينتهي بها الأمر إلى بعض الميزانيات الشخصية الخاصة بأفراد السلطة الحاكمة، بدلاً من أن تذهب لإنشاء مشروعات التنمية، كما أن سهولة الحصول على الإيرادات قد أدى إلى الإفراط في الإنفاق على مجالات لم تكن تمثل أولوية تنموية، يتبين ذلك مثلا من نسبة الإنفاق العسكري فقد ظل بند الدفاع البند الأعلى في الموازنة العامة للدولة فيما بين عامي 1972م-1988م، حيث كانت على التوالي( 33.8– 31.2 بالمئة) في المقابل كانت نسبة الإنفاق على التعليم تمثل( 4– 17.6 بالمئة) للفترة نفسها وإن كانت قد شهدت ارتفعاً نسبيا، فيما ظلت معدلات الإنفاق على الصحة متدنية للغاية (2.9– 3.6 بالمئة) خلال الفترة نفسها ( )، وذلك بسبب زيادة التوظيف مجال الخدمات العامة في الجهاز الإداري للدولة، ومؤسسات القطاع العام لربط المواطنين بالدولة والنظام الحاكم، مما أدى إلى تضخم الجهاز البيروقراطي للدولة. في مقابل ضعف فعالية أدائه، زد على ذلك الفساد المالي المتعلق بتوظيف جزء من تلك الإيرادات لخدمة الأهداف السياسية لنظام الحكم، تمثل ذلك بالسياسة التي اتبعها الرؤساء الجمهوريون المتعاقبون على السلطة لشراء الشرعية، من خلال سعيهم لكسب القبائل وشراء ولائهم السياسي لضمان استمرارهم في السلطة،- وإن كان الرئيس “الحمدي ” قد مثل الاستثناء الوحيد في تاريخ اليمن الشمالي الذي حاول تهميش دور القبيلة وعدم شراء ولائها.( )
وإذا كان الريع الخارجي قد أتاح للنخبة السياسية شراء الولاء السياسي من المواطنين بتقديم بعض الخدمات العامة، أو من خلال الدفع المباشر للمال لشيوخ القبائل، أو تسهيل دخولهم المجال الاقتصادي، وممارستهم لأنشطة اقتصادية اتسمت بأنها أنشطة طفيلية، تركزت في مجال التجارة والاستيراد، أو المضاربات العقارية، والتي جرى تمويل الكثير منها من أموال الدولة أو عبره، في مقابل استمراريتها في السلطة ونزعتها التسلطية، فقد أدى ذلك إلى تغيب دور المواطنين في المشاركة السياسية في الحكم.
وعلى الرغم مما تحقق من تطور نسبي خلال ما يقرب من ثلاثين عاماً منذ قيام الثورة -وهي إنجازات يصعب إنكار وجودها في الوقع- إلا أن بناء مؤسسات الدولة والأداء التنموي في المحصلة النهائية كان قد اتسم بالضعف ، وأن مستوى الإنجاز الفعلي لم يكن يتناسب مع حجم التوقعات والطموحات، الأمر الذي أدى إلى ضعف الدولة و تراجع دورها التنموي وإلى انخفاض شرعية النظام السياسي ، وقد أدرك النظام ذلك ، فسعى إلى التفكير والبحث عن وسائل وسبل لتجديد شرعيته، وهو ما بدأ بتنفيذه من خلال سعيه للتقارب مع النظام الحاكم في الجنوب بهدف تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين.
الثورة و الاستقلال وبناء الدولة الحديثة في الجنوب قبل عام 1990:
بعد أربع سنوات من انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م تمكن الجنوب في 30 نوفمبر1967م من الحصول على الاستقلال فأعلن عن قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية دولةً مستقلة، الأمر الذي مثل بداية بناء الدولة الوطنية الحديثة في الجنوب، وعقب الاستقلال تولت الجبهة القومية السلطة بوصفها أبرز الأطراف الموجودة في الساحة و استناداً إلى ما اعتبرته شرعيتها الثورية كونها هي من حقق الاستقلال للجنوب بانتهاجها لخيار الكفاح المسلح في مقاومة الاستعمار وإجباره على الرحيل من الجنوب بعد 128 من الاستعمار البريطاني المباشر الذي خضعت له مدينة عدن والوصاية على المناطق الداخلية في البلاد.
بدأت السلطة الحاكمة في الجنوب أولى خطواتها نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة في عملية التوحيد لمختلف مناطق البلاد لخلق كيان سياسي وطني جامع، فاتخذت الحكومة قراراً بتوحيد الكيانات السياسية التقليدية التي كانت قائمة في ظل النظام القديم الاستعماري السلاطيني (25 كياناً سياسيا ما بين سلطنة وإمارة ومشيخة بالإضافة إلى مستعمرة عدن ) وإعادة تقسيمها إلى ست محافظات فقط، أعطت لها أسماء عددية، ابتداءً من المحافظة الأولى حتى المحافظة السادسة في دلالة سياسية عبرت عن توجه السلطة الحاكمة نحو تفكيك الكيانات السياسية والتكوينات القبلية التي كانت قائمة على أساس تقليدي( قبلية /عشائرية) وإلغائها لصالح قيام سلطة مركزية ممثلة بالدولة والمؤسسات المنبثقة عنها، كما تبع ذلك اتخاذ الحكومة إجراءات عديدة أدت إلى إقصاء العديد من النخب الريفية، وإخضاعها لسلطة الدولة وتحييد القبيلة، بحيث يمكن معه القول: أن من أبرز الايجابيات التي تحققت بعد الثورة والاستقلال هي إضعاف قوة القبلية وتحييدها في مواجهة الدولة منذ السنوات الأولى للاستقلال في الجنوب( )، وتبني الدولة لممارسة العنف الشرعي واحتكاره منفردة به دون سواها.
بيد أن الدولة في الجنوب بعد الاستقلال مباشرة واجهت العديد من المشكلات تمثل أولها في توجه الجبهة القومية التي بيدها نظام الحكم ونزوعها لاحتكار السلطة السياسية والانفراد بإدارة شؤون الدولة والمجتمع، وذلك استنادا إلى ما اعتبرته الشرعية الثورية،نتج عن ذلك التوجه استبعاد بقية الأطراف التي كانت موجودة في الساحة، لقد مثل ذلك السلوك السياسي- كما يرى البعض- “صفعة قوية ” لتاريخ طويل من نشاط النقابات والكفاح السياسي ضد النظام السابق، كما كان يعني من الناحية العملية نهاية للمؤسسات السياسية والقانونية والمدنية التي كانت قد نمت تدريجيا في ظل الاحتلال منذ ثلاثينيات القرن العشرين في عدن وفي حضرموت ولحج”.( )
وإلى جانب التوجهات الأحادية للسلطة الجديدة، بدأت تبرز في إطار الحزب الحاكم( الجبهة القومية) التباينات والخلافات حول المضمون السياسي والاجتماعي للدولة الجديدة ،أي حول طبيعة السياسات الداخلية والخارجية التي ينبغي على النظام الجديد اتخاذها لبناء مؤسسات الدولة وتحديث المجتمع ، يُعزى ذلك إلى ضعف أو غياب التجانس الفكري للنخبة الحاكمة وتعدد انتماءاتها الأيديولوجية، والاختلاف في أصولها الاجتماعية، وعلى الرغم من أن تلك التباينات كانت موجودة منذ نشأة الجبهة القومية في العام 1963م إلا أنها لم تكن لتظهر على السطح في الفترة السابقة قبل توليها السلطة، نتيجة لتوحيد الجهود باتجاه تحقيق الهدف الرئيسي المتمثل بإنجاز الاستقلال.
لقد تمحورت تلك التباينات الفكرية والمواقف السياسية في اتجاهين: أولهما كان يرى ضرورة تقويض مؤسسات الدولة القديمة وأبرزها الجيش والجهاز الإداري الموروث من النظام السابق، والبدء في تكوين الحزب القائد وتعميق فكرة واستراتيجية الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين والكادحين، حيث مثل أصحاب هذا الرأي القوى ذات النزعة أو التوجه الثوري، فيما رأي الاتجاه الآخر أن طبيعة المرحلة تستوجب أهمية مراعاة أوضاع التخلف وفقر موارد البلاد، ومن ثم التعامل مع مؤسسات الدولة القديمة، مع إدخال تحسينات بالتطهير والتطعيم بعناصر جديدة وقد صنف أصحاب هذه الرؤية بالاتجاه المحافظ أو المعتدل( ).
في بداية عقد السبعينيات وبعد ثلاث سنوات من الاستقلال والصراع بين أطراف النخبة الحاكمة اتضحت معالم النظام السياسي في الجنوب، حيث أعلنت الدولة نفسها بأن نمط الحكم فيها يقوم وفقاً لنمط الحكم الماركسي/ اللينيني أي على أساس الحزب الواحد، تبين ذلك بصدور أول دستور دائم في نوفمبر1970م والذي أكد على أن بناء المؤسسات الدستورية والسياسية تقوم على نمط المركزية الديمقراطية، والتي تعني أن البناء الدستوري لنظام الدولة إنما يقوم على وحدة سلطة الدولة (مركزة السلطة) ولا يعترف بمبدأ الفصل بين السلطات ذلك المبدأ المعروف في الأنظمة السياسية الليبرالية، ومن ثم فإن نظام الحكم في الدولة يقوم على مبدأ سيادة الشعب العامل والمركزية الديمقراطية، وتبعا لذلك التوجه السياسي؛ حظيت الدولة في الجنوب بدعم الاتحاد السوفيتي، والأنظمة الاشتراكية.
وتبعاً لذلك التوجه تكونت مؤسسات وهياكل الدولة، فعمل النظام الحاكم بعد ذلك على بناء المؤسسات والهيئات الحكومية المختلفة بدءاً بمجلس الشعب الأعلى، ومجلس الرئاسة، والحكومة، ومجالس الشعب المحلية، إلى جانب المؤسسات الاقتصادية والثقافية المختلفة، والمؤسسة العسكرية الوطنية التي حاولت من خلالها الدولة المساواة بين مختلف الأفراد وتجاوز الانتماءات الأولية لأفرادها لصالح الولاء للوطن/ الدولة ككيان سياسي.
واستمراراً لتوجه النخبة الحاكمة الاشتراكية التي تولت السلطة في حصر ممارسة السلطة والسياسية في المجتمع في إطار التنظيم الرسمي الوحيد التابع للدولة ؛ سعت هذه النخب إلى دمج بقية الأحزاب السياسية التي كانت موجودة في حزب واحد، فأعلن في أكتوبر1978 عن تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني بوصفه ” حزبًا طليعياً” يضم جميع التنظيمات السياسية السابقة، ليصبح هذا الأخير وكامتداد للجبهة القومية سابقاً هو الحزب الشرعي الوحيد التابع للدولة، هو القائد والموجه للمجتمع والدولة، لذا قام نظام الحكم في الجنوب على أساس نظام الحزب الواحد المهيمن بقوة على شئون الدولة والمجتمع وقد استمر وجوده بعد ذلك في السلطة حتى العام 1990م.
ولأن المجتمع اليمني يُعد واحداً من أكثر المجتمعات العربية التي تتصف بترسُخ الوعي القبلي فيها- واتساقا مع أيديولوجيته الاشتراكية المناهضة للبني التقليدية والإقطاعية- وضع النظام الحاكم في الجنوب مسألة “اجتثاث النزعة القبلية ” من أولويات اهتماماته وإحدى سياساته العليا- وهو بذلك كان قد اتبع سياسية مغايرة تماما مقارنة بنظام الحكم في الشمال الذي عمل على إعادة إنتاج القبيلة ودمجها في بنية ومؤسسات الدولة.
كما عمد نظام الحكم بعد الاستقلال إلى بناء مؤسسة عسكرية ونظام تجنيد جديد بنى بطريقة كان من شأنها اجتثاث النزعة القبلية من المؤسسة العسكرية من خلال نظام التعيين والترقية، لا سيما وأن الجيش في الجنوب قبل الاستقلال كان قائماً على أسس قبلية. كما عمل على إلغاء تراخيص جميع النوادي والجمعيات والمنظمات ذات الطابع القبلي وأغلقت فروعها، وبدلا عن ذلك حاول النظام إعادة تجميع السكان “بأسلوب شبة تشاركي “في منظمات” تقدمية ” مثل: ” الاتحاد العام للعمال اليمنيين” و” اتحاد الفلاحين”،” واتحاد الشباب” و” اتحاد نساء اليمن” وفي المناطق السكنية شكلت ” لجان الدفاع الشعبي” بصفتها مجموعات محلية تتمتع بمسؤوليات واسعة في الأحياء السكنية، ومع ذلك فإن الجهود الرامية إلى نزع السمة القبلية لم تنجح بصورة تامة وشاملة( ).
على المستوى الاقتصادي وباستثناء مدينة عدن التي اتسم الاقتصادي فيها بأنه اقتصاد خدمات ومرتبط بدرجة أساسية بنشاط الميناء كواحدة من أهم الموانئ العالمية في ستينات القرن العشرين فضلا عن بعض المشاريع الرأسمالية الزراعية في أبين ولحج المرتبطة باتساع زراعة القطن وإنتاجه وتسويقه، فقد اتسم الإنتاج الاقتصادي في المناطق الداخلية بالمتخلف القائم على الاقتصاد الزراعي التقليدي، حيث شكل الفلاحون أغلبية سكان المناطق الداخلية(المحميات)، في حين كانت ملكية الأرض تتركز بيد الإقطاعيين الكبار وزعماء القبائل، والطوائف الدينية، حيث كانوا يقومون بتأجير الأرض على الملاك الصغار (25).
لقد كانت أولى الخطوات والإجراءات في عملية التغيير الاقتصادية والاجتماعية الدالة على توجهات الدولة و النظام بالتحول نحو الاشتراكية هي صدور قانون الإصلاح الزراعي، ثم تأميم المشروعات الأجنبية والمنشآت التجارية-البنوك والشركات الأجنبية، وبعض منشآت البرجوازية المحلية ليتم تحويلها إلى ملكية عامة خاضعة لسلطة للدولة، وتدخل الدولة المباشر في الاقتصاد وفي عملية الإنتاج من خلال مؤسسات القطاع العام .
لقد ترتب على تلك الإجراءات الاقتصادية الراديكالية التي قام النظام بتنفيذها قطع الطريق أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية، وانتقال معظم التجار من أبناء الشمال- الرساميل المحلية- للعمل في الشطر الشمالي الذي كان نشاط القطاع الخاص فيه متاحاً، وانتقال التجار من أبناء الجنوب للعمل في الخارج وبخاصة في دول الخليج.
اعتمدت الدولة في الجنوب نهج التخطيط المركزي الشامل للتنمية- كجزء من أيديولوجية النظام- فبدأت مع مطلع السبعينات بتنفيذ أول برنامج إنمائي ثلاثي (1971م-1973م)، ثم بعد ذلك عملت على وضع وتنفيذ ثلاث خطط خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الأولى (1974م- 1978م) والثانية(1981م- 1985م) أما الخطة الخمسية الثالثة كان قد بدأت في( 1986م-1990م) وهدفت السلطة السياسية من هذه الخطط إلى رفع المستوى المعيشي للمواطنين، والتركيز على بناء الهياكل الاقتصادية في مجال الصناعات التحويلية، والزراعة والصيد وقطاعات النقل والمواصلات وخدمات البنية التحية والخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة.
مثلت فترة السبعينات وحتى مطلع الثمانينات- كما كان الوضع في الشمال- فترة تغييرات اقتصادية كبيرة، نمت فيها أنشطة القطاع العام غير أن النمو المطرد كان بالدرجة الأولى في قطاع الخدمات، مقابل التدني في بقية القطاعات الاقتصادية وبخاصة الاستثمارات الصناعية.
لقد اتسم الاقتصاد في الجنوب كما في الشمال بأنه اقتصاد ريعي إذ إن تمويل الخطط الإنمائية قد أتى معظمه من مصادر خارجية تمثلت بتحويلات المغتربين اليمنيين من العملة الأجنبية خلال عقد النفط أو الطفرة النفطية خلال الفترة ( 1974م- 1984م) إلى جانب القروض، والمساعدات وبخاصة من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية إضافة إلى تمويل بعض الهيئات الدولية، حيث أسهم ذلك في تمويل المشاريع الإنمائية التي قامت الدولة بتنفيذها في مجال البنية التحتية مثل الطرقات والموصلات، والمرافق العامة والخدمات الاجتماعية من تعليم،و صحة…إلخ، كما كان للنظام في الجنوب بعض الإنجازات فيما يتعلق ببعض مؤشرات التنمية البشرية مثل نشر التعليم، والحد من نسبة الأمية بصورة كبيرة- مقارنة بالشمال-وذلك منذ تسلمه السلطة، حيث استطاع خلال الفترة من1967م-1985م أن يخفض من نسبة الأمية من 97 بالمئة إلى59 بالمئة ( )، أما في مجال التشغيل كانت الدول تضمن توفير فرص العمل للجميع من خريجي المؤسسات التعليمية، وتوفر الخدمات الصحية بصورة مجانية للمواطنين.
وفيما يتعلق بتوجهات النظام نحو البنية الاجتماعية Social structure فقد سعى النظام لإحداث تغييرات اجتماعية جذرية فاحتلت مسألة إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية أولوية لدى النظام الحاكم إلى جانب الإصلاح الزراعي الذي هدف إلى المساواة بين المواطنين والحد من التفاوت الاجتماعي Social inequality في الملكية الزراعية في الريف، وصدر قانون رقم (22) لسنة 1969، بشأن قضايا الثأر الذي وضع نهاية لعادة قبلية ظلت لقرون قائمة في السابق، وقد فرض هذا القانون وجود الدولة المركزية بقوة في المناطق الداخلية وقمع النزعات التي تهدف الخروج عن سلطة الدولة ( ).
وفي إطار محاولة النظام الحكم في الجنوب لخلق هوية وطنية(سياسية) ولدمج بعض الفئات الاجتماعية في المجتمع والدولة استخدم لتحقيق تلك الغاية العديد من الوسائل تمثل أهمها بالمؤسسة العسكرية والحزب السياسي ومؤسسات التعليم العام وأجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة، وعلى الرغم من أن النظام قد اعتمد على عملية التعبئة الاجتماعية Social mobilization والتحشيد، لاسيما في ظل القيود القانونية التي فرضت على المجتمع المدني، غير أن الوضع في الجنوب قد اتسم بالمساواة بين المواطنين أمام القانون، كما وجد نمط من السلوك غير القبلي في المدن وبخاصة في مدينة عدن(28)، كما أعطى النظام في الجنوب أهمية لتغيير أدوار النوع الاجتماعي Gender Roles والمساواة بين الجنسين فأتيحت حريات أكبر للمرأة، وقدر أكبر للوصول إلى سوق العمل، وحصولها على التعليم ودوراً أكثر فعالية في مناحي السياسة، وفي تولي المناصب القيادية بما في ذلك مجال القضاء.
وعلى الرغم مما تحقق من مستوى تنمية مقبول وكفالة الدولة بتقديم الخدمات الاجتماعية لكل المواطنين، وإنجازات النظام الحاكم في مجال التعليم ومشاركة المرأة، فإن الدولة ونظام الحكم قد واجها وضعا اقتصادياً صعباً منذ منتصف الثمانينيات بسبب توقف مساعدات الكتلة السوفيتية، وتحويلات العاملين في الخارج، وهو ما أدى إلى تدني مستوى النمو الاقتصادي، و تدني في مستوى الدخل الفردي مما جعل الدولة في الجنوب تصنف ضمن الدول الفقيرة، والأقل نمواً في العالم.
نجحت الدولة/ الحزب في الجنوب في التغلغل في المجتمع ومأسسة موقعها فيه إلى حد ما من خلال عملية بناء المؤسسات التابعة للدولة ولتنظيمات الحزب والمنظمات التابعة له والتي تغلغلت في أوساط السكان بما في ذلك في المناطق الريفية،إلا أن النظام الحاكم في الجنوب عرف أزمات سياسية كثيرة، حيث شكل الصراع على السلطة منبعاً رئيساً لكثير من الصراعات التي نشبت بين النخب الحاكمة، حيث أخذت بعضها صورة الصراع المسلح، مع أن هذه الخلافات كان يجري تصويرها أو تبريرها على مستوى الخطاب السياسي بكونها تمثل خلافات بين القيادات الحزبية وهي تقع على المستوى الأيديولوجي-التيار الانتهازي مقابل التيار الوطني التقدمي- إلا أن جذور ومنبع الخلافات الحزبية في أوساط أعضاء الحزب وقياداته لم تكن ترتكز على الخلافات الأيديولوجية فقط، بقدر ارتكازها أيضا على الانتماءات المناطقية والقبلية، فقد كشف الأزمات المتوالية لنظام الحكم أن الصراعات السياسية كانت تستند إلى شبكات حشد وتأييد ذات قاعدة قبلية أو مناطقية؛ كما كان يتم إدخال هذه المجموعات المتضامنة أو إقصاؤها من الهيئات والمواقع القيادية، ومن جهاز الأمن وفق تنوع موازين القوى داخل الحزب والدولة.( )
لقد أفضت تلك الخلافات الحزبية التي تركزت حول تولي السلطة إلى دورات من العنف السياسي Political violence الذي أدى إلى سيادة حالة من عدم الاستقرار السياسي، تجلت أبرز مظاهره في إعدام رئيس الدولة ” سالمين” في العام 1979م، والحرب الأهلية التي عُرفت بأحداث 13 يناير عام 1986م التي راح ضحيتها قيادات بارزة في الدولة والحزب، علاوة على الآلاف من عناصر الحزب من العسكريين والمدنيين، وهي الأحداث التي أحدثت شرخاً عميقاً في الحزب والدولة، الأمر الذي أضعف من الشرعية السياسية لنظام الحكم وللدولة معا، كما دفع بالنظام -وفي محاولة منه لترميم تلك الشرعية – إلى التحرك باتجاه الإصلاح السياسي، حيث بدأت معه قبضة الحزب القوية على الحياة السياسية تتراخى بعض الشيء، فبدأ السماح النسبي لحرية الصحافة والتعبير التي كانت مقيدة، كما نظمت الحكومة في أواخر1989م انتخابات المجالس المحلية سمح فيها بالترشيح لأشخاص من خارج الحزب الاشتراكي( الحزب الحاكم).
وإجمالا يمكن القول إن الدولة في الجنوب كانت قوية وقد تجلت مظاهر قوتها في تجريد القبائل من سلاحهم في المناطق الريفية وفي المدن وتحييد القبيلة، وبتنظيمها للسلوك الاجتماعي من خلال سنها لقوانين صارمة، وفرضها بالقوة، وبقدرتها على استخلاص الموارد بفاعلية من محيطها، على الرغم من أنها لم تتمكن من استغلالها بكفاءة.( ) ، كما اتخذت العديد من الإجراءات المتعلقة بتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين والتي آتت ثمارها بترسيخ مفهوم الدولة وحكم القانون، كما استطاعت الدولة إلى حد ما اختراق المجتمع وتنظيمه بخضوعه لسلطة مركزية واحدة، إلا أن محاولة النظام تبني التحول في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفرضها من أعلى وبالأساليب السلطوية Authoritarian عبر استخدامه لوسائل قمعية وقسرية لإحداث تلك التغيرات، وتحول الدولة إلى مجرد أداة في يد الحزب والنخب السياسية التي عبرت عنه، كل ذلك أدى إلى انعزالية النظام السياسي وترفعه عن المجتمع، لينتج عن كل ذلك سيطرة نظام سياسي وصف بشموليته ونزوعه إلى الهيمنة على النظام الاجتماعي.
السمات المشتركة للنظامين السياسيين في الشمال والجنوب قبل عام 1990م وتأثيرها في بناء الدولة الحديثة:
على الرغم من التباينات والتناقضات بين النظامين السياسيين وتباين أيديولوجيتيهما في كلتا الدولتين (الشمالية والجنوبية) قبل عام 1990م فقد جمع بينهما قواسم مشتركة، تمثلت أبرزها في الصراع على السلطة في الشمال والجنوب؛ حيث شهد اليمن منذ تأسيس دولته الحديثة في ستينيات القرن الماضي حتى عام 1990م صراعا محتدما على الحكم إما بسبب الانقلابات والاغتيالات السياسية الناتجة عن الصراعات السياسية والاجتماعية على السلطة بين القوى السياسية المختلفة ،أوفي إطار النخب نفسها وبين أطراف النخبة الحاكمة، وهو ما أفضى إلى عدم الاستقرار السياسي وبالتالي إلى تبديد وهدر للموارد العامة، إما في صورة زيادة الإنفاق العسكري الأمني من الأموال العامة، أو في صورة شراء الشرعية والولاءات السياسية لتأمين البقاء في الحكم، وكان ذلك كله على حساب التنمية.
لقد أدى رفض النخب الحاكمة للمشاركة السياسية وتداول السلطة بشكل سلمي وسعيها للاستثمار الأيديولوجي للدين، وتوظيفها للبنى المجتمعية العصبوية ( القبلية والجهوية أو المناطقية) وللسياسية والاقتصاد من أجل بقائها واستمرارها في السلطة أدى ذلك كله إلى إحلال الممارسات السلطوية، وغياب الديمقراطية في الدولة الشطرية، وقد تبدت أهم المظاهر المعبرة عن تلك الحالة في سيطرة الدولة على مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي انتقال السلطة عبر دورات من العنف السياسي الذي مثل سمه ملازمة لكلا النظامين الحاكمين في الشمال والجنوب، وقد أكد استمرارية حالة الصراع السياسي تلك انعدام وجود قاعدة أو مجموعة قواعد تنظم كيفية الوصول إلى السلطة وتداولها بطريقة سلمية، الأمر الذي يُبيّن أن الدولة الوطنية الشطرية كانت ومنذ تأسيسها تعاني أزمة في تنظيم السلطة، فعلى الرغم من تبني النخب الحاكمة للمظاهر البنيوية للدولة- المتمثلة بإدخال التقنيات الجديدة على نظام الحكم وممارسة السلطة- إلا أن الغرض من ذلك كان بدرجة أسياسية تعزيز مواقعها في السلطة، ولذا ظلت تلك النخب الحاكمة مثلها في ذلك مثل غيرها من الدول، في دولة ما بعد الاستقلال تستند في ممارساتها للحكم على الشرعية الثورية والتأييد الشعبي، ثم في مرحلة تالية على شرعية وعودها بتحقيق التحديث الاقتصادي والاجتماعي، غير أنها لم تؤسس للانتقال لمرحلة الشرعية الدستورية وحكم القانون والديمقراطية ، ما جعل كلا الدولتين غير مستوعبتين ولا ممثلتين للتكوينات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وتعانيان من أزمة شرعية.
إن النظامين السياسيين في الشمال والجنوب لم يساعدا على بناء دولة مركزية ذات أطر مؤسسية قانونية بل أسهما من خلال سياساتهما وممارساتهما في إعاقة نمو تلك المؤسسات ومكوناتها. وذلك بسبب تدعيمهما للممارسة السياسية التقليدية وإعادة إنتاج القبلية ومنظومة القيم التقليدية المعززة لبنيتها، – وخاصة في الشطر الشمالي- وبمنعهما لمؤسسات المجتمع المدني وبخاصة الأحزاب السياسية من العمل بصورة علنية، ولذلك فإن جهود بناء الدولة في اليمن منذ ستينات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينات تمخض عنها بناء دولة مشوهة تمثلت أبرز مظاهر تشوهها في عدم الاستقلال الديني عن السياسي، وعدم التمايز بين النسق الاجتماعي والنسق السياسي، وعدم استقلال مؤسسات المجتمع المدني عن البنُى السياسية، والإخلال بمبدأ المواطنة( ).
ولما كانت السمة البارزة في تأريخ اليمن السياسي هي محدودية قدرة الدولة في اختراق المجتمع وتنظيمه، وامتداد لتلك السمة فإن الدولة الشطرية قد عانت هي أيضاً من ذلك الضعف مقابل استقلال المجتمع نسبياً، بل إن النظامين السياسيين في الدولة الشطرية قد عملا على توسيع تلك الفجوة بين الدولة والمجتمع بدلا من العمل على تجسيرها، وهو ما أدى إلى ضعف وتشوه عملية التحديث السياسي والمجتمعي.
وعلى الرغم من تباين المسار التنموي الذي اتخذه كلا النظامين- شبه الرأسمالي في الشمال والاشتراكي في الجنوب- فإن المحصلة النهائية لم تختلف كثيرا، حيث ظلت محدودة، إن لم تكن متدنية في الكثير من مجالات التنمية في كلا الشطرين، فمن جهة اتسم الاقتصاد في الدولتين -إلى عام 1990م – بكونه اقتصاداً ريعياً، فمعظم دخل البلدين قد أتى من مصادر خارجية وهي تحويلات المغتربين والمعونات والمساعدات والقروض الأمر الذي مكن الدولتين من السيطرة والتحكم على الاقتصاد والمجتمع، عبر تمويلها أنشطة القطاع العام، وتوسع أجهزة الدولة الإدارية التي شهدت تضخما كبيراً، وإن كان ذلك قد قابله ضعف في الفعالية والأداء.
خاتمة
يمكن القول أن النظامين السياسيين في الشمال والجنوب منذ الثورة والاستقلال مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى العام 1990م قد عانيا من أزمة شرعية متعددة الأوجه تمثل أبرز مظاهرها في أزمة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأزمة غياب المشاركة السياسية ، وأزمة غياب تنظيم السلطة وممارستها ، وأزمة ضعف النمو الاقتصادي، والإنجاز التنموي، الأمر الذي أدى إلى تشوه بناء الدولة الوطنية الحديثة وتدني دورها التنموي، وقد ترتب على ذلك اهتزاز شرعية نظامي الحكم ومعهما شرعية الدولة الوطنية ذاتها في الشمال كما في الجنوب، لاسيما في ظل سعي نظامي الحكم إلي المماهاة بينهما وبين الدولة، الأمر الذي خلق نوعاً من الانفصام بينها وبين المواطنين، وشوه مفهوم ومعنى الدولة لديهم.
ولأن جهود النخب السياسية الحاكمة في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتحديث المجتمع خلال هذه الفترة كانت قد أفضت إلى بناء دولة مشوهة وتحديث مجتمعي مشوه، فقد عول اليمنيون على الوحدة وتلازمها بالديمقراطية عام 1990م في أن تمثل مرحلة جديدة ِيتم فيها تصحيح التشوهات السابقة واستكمال مسيرة البناء والتحديث على أسس سليمة، يسهم فيها جميع الفاعلين الوطنيين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية غير أن النخبة السياسية الحاكمة لما يزيد عن خمسة وعشرين عاما فشلت أيضا في انجاز هذه المهمة الوطنية .
لأن طبيعة النظام السياسي والنخبة الحاكمة في دولة الوحدة قد أعاقا تحديث مؤسسات الدولة ونظامها السياسي والإداري والقانوني، ونشوء دولة مدنية تستند إلى حكم القانون، فإن التعثر في المسارين الاجتماعي والاقتصادي بدرجة أساسية إلى التعثر في المسار السياسي المتمثل في بناء الدولة الحديثة في اليمن.
إن ما وصل إليه اليمن في الوقت الراهن في حالته الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية يمثل امتدادا لأزمة بناء الدولة الحديثة في اليمن منذ مرحلة التأسيس في ستينيات القرن الماضي مرورا بمرحلة الوحدة وحتى العام 2015م، وهو ما جعل اليمن اليوم ضمن قائمة الدول الفاشلة.
المراجع والهوامش :
- أبوبكر السقاف، الوحدة اليمنية أزمة الاندماج، في: ريمي لوفو وفرانك مراميه وهوغوستانبخ (إشراف)، اليمن المعاصر، ترجمة علي محمد زيد، بيروت، كانون ثاني،2008م،ص 161 .
- جولوفكايا.ايلينا.ك، التطور السياسي في الجمهورية العربية اليمنية 1962-1985م، ترجمة محمد على عبد الله البحر، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني،1994م، ص 39 ،53 .
- صدر في 26/ 4/ 1963م مرسومٌ رئاسي قضى بتأسيس مجلس أعلى لشئون القبائل، ضم مشايخ وزعماء القبائل الرئيسية في البلاد، يرأسه رئيس الجمهورية، كما نظمت مجالس لشيوخ القبائل داخل كل قبيلة، بحيث يُنتخب منهم مجلس شيوخ على مستوى المحافظة، مُنحت صلاحيات قانونية محددة وسمح لها بعقد انتخابات نسبية منتظمة.
- نزيه ن . الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط ، ترجمة أمجد حسين، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، كانون أول / ديسمبر، 2010، صص486،487.
- أبوبكر السقاف، الوحدة اليمنية أزمة الاندماج، مرجع سابق ،ص 162.
- قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم( 7) لسنة 1963م بتحريم النشاط الحزبي وقيام الأحزاب.
- أبوبكر السقاف، في: ريمي لوفو وفرانك مراميه وهوغوستانبخ (إشراف) ، اليمن المعاصر، مرجع سابق، ص 164.
- عادل مجاهد الشرجبي وآخرون، القصر والديوان: الدور السياسي للقبيلة في اليمن، صنعاء، المرصد اليمني لحقوق الإنسان، أكتوبر،2009م، ص 36 .
- جولوفكايا.ايلينا.ك،، مرجع سابق، ص 59.
- إلهام مانع، القبيلة والدولة، ترجمات عن اليمن والجزيرة العربية، دمشق، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية ، العدد ( 11 )، إبريل، 2003م ، ص 11-12 .
- محمد محسن الظاهري، الدور السياسي للقبيلة في اليمن، 1962-1190م، القاهرة مكتبة مدبولي، 1996، ص 148- 160.
- التحديث المحافظ يرتبط أقله في بدايته بمحاولة الحكم التقليدي” الأمير” تكييف سلطته مع المعطيات الجديدة، أي مع مثال الحداثة بغرض أن يوفر ذلك أمران في وقت واحد الأول مزيد من المال، أما الأمر الآخر فمزيد من الشرعية لحكمة .للمزيد أنظر، برتنان بادي، الدولة المستوردة : غربنه النصاب السياسي. ترجمة شوقي الدويهي، بيروت، دار الفارابي،2006.
- جبريل فوم برك، زيدية بدون إمام : إعادة النظر في العقيدة والتعاليم الدينية، في: ريمي لوفو وفرنك مرميه وهوغوستانبخ، ( إشراف )، اليمن المعاصر، مرجع سابق ، ص195 .
- عبده علي عثمان، كتابات في التاريخ الاجتماعي اليمني، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، 2011م، ص216.
- المرجع نفسه،، ص217-219.
- شيلا كارابيكو، المجتمع المدني في اليمن، ترجمة كريم سالم الحنكي، ترجمات عن اليمن والجزيرة العربية، دمشق، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، العدد (7)، أغسطس، 2001م، ص 23 .
- نزيه ن .الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسية والمجتمع في الشرق الأوسط، مرجع سابق، ص 849.
- قادري أحمد حيدر، ثورة 26 سبتمبر: بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة 1962-1972م ،صنعاء، مركز البحوث والدراسات اليمني، يوليو، 2004م، ص 15 .
- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 1990م، مرجع سابق، ص230.
- عبد الله الفقيه، الاقتصاد السياسي ودوره في تشكيل الجماعات الفاعلة، في شفيق شقير ( محرراً)، الفاعلون غير الرسميين في اليمن: أسباب التشكل وسبل المعالجة، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات،2012م، ص34 .( سلسلة أوراق الجزيرة؛26)
- تشالز دونبار، توحيد اليمن: الخطوات- السياسات- والآفاق، في: عبده حمود الشريف ( محرراً)، التحولات السياسية في اليمن، مرجع سابق، ص 49 .
- أبوبكر السقاف، الوحدة اليمنية أزمة الاندماج ، مرجع سابق ، ص171 .
- سعيد أحمد الجناحي، أنظمة اليمن: بين الشورى السبئية وديمقراطية الوحدة ،صنعاء، مطابع دار التوجيه المعنوي، مايو 2005م، ص.12
- نزيه ن. الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسية والمجتمع في الشرق الأوسط، مرجع سابق، ص 854 .
- ل.فالكوفا، السياسة الاستعمارية في جنوب اليمن، مرجع سابق، ص 10-22 .
- تشالز دونبار، توحيد اليمن: الخطوات، السياسات، والآفاق، في: عبده حمود الشريف (محرراً )، مرجع سابق، ص45.
- صدر في 31/5 / 1969 م/ قانون رقم (22) لسنة 1969م، بشأن قضايا الثأر الغي بالقانون رقم (3 ) لسنة 1976م، كما صدر في 11/ 9 / 1969م قانون رقم (32) لسنة 1969،م بشأن تشكيل محكمة خاصة للنظر في قضايا القتل في الريف الغي بالقانون رقم ( 12) لسنة 1971م.
- أحمد القصير، التحديث في اليمن والتداخل بين القبيلة والدولة، القاهرة، دار العالم الثالث، 2006م، ص122.
- فرانك مرمييه، اليمن: موروث تاريخي مجزأ، في: ريمي لوفو وفرانك مراميه وهوغوستانبخ (إشراف) ، اليمن المعاصر، مرجع سابق، ص17 .
- الهام مانع، اليمن: القبيلة والدولة، ترجمة كريم الحنكي، سلسلة ترجمات عن اليمن والجزيرة العربية، دمشق، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، العدد ( 11)، أبريل 2003م، ص19.
- عادل مجاهد الشرجبي، أزمة التحول الديمقراطي في اليمن، صنعاء، مؤسسة العفيف الثقافية، 2006، ص35 .