حمود محمد المخلافي
الحلقة ( 1)
بعد فشل الحوار مع النظام تم إستدعائي من قبل إدارة الأمن الوطني للإعتقال.. بداية قابلت مدير الأمن الوطني في تعز احمد الأنسي في مكتبه.. كان الوقت صباحًا بحدود الساعة التاسعة يوم 17/ فبراير 1983م في مقر الأمن الوطني أعلى المستشفى الجمهوري، أستقبلني بإبتسامة لم أعهدها من قبل في كل اللقاءات التي تمت معه، خاطبني مباشرة (انت لم تستجب لما طلبته منك) أجبته انا في مهمة رسمية ومكلف بالحوار مع الدولة ممثلة باللجنة المعروفة بأشخاصها وكل ماتم الإتفاق عليه في اجتماعاتنا ألتزمنا فيه وتم تنفيذه وما طلبته انت خارج الإتفاقات كان رده مقتضبا يعني أنك تفضل الإعتقال.. خذه يا خلقي عندك..
سحبني الشاؤوش الخلقي من يدي وصعد بي سلما خشبيًا تسمع فيه قرقعة الأقدام أثناء السير، الدور العلوي الخشبي تحيط فيه غرف تنبعث منها روائح كريهة تبعث على الغثيان، عرفت فيما بعد انها غرف يتم استجواب وتعذيب المعتقلين فيها، ثم هبط بي درج تؤدي الى مؤخرة المبنى، أسفل السلم الخلفي يجلس بعض العساكر بلباس مدني لاتظهر عليهم سمات الجندية في مظهرهم وحركاتهم..
سلمني الشاؤوش الخلقي لأحدهم يدعى مغلس من المقاطرة قائلًا له خذه عندك قيده وادخله داخل.. بكل بساطة وضعت قدمي على حجرة كبيرة موضوعة وسط الصالة الصغيرة.. ظل مغلس يفتش مجموعة قيود ليختار لي الأنسب من وجهة نظرة، وضع القيد في قدمي وانهال عليها ضربًا لتلتئم حول القدم أكمل مهمته وقال إنهض، سحب مفاتيح مربوطة إلى حزامه وفتح بابًا دافعًا إياي إلى الداخل
بإنفتاح الباب لسعت وجهي الحرارة المنبعثة من الداخل محملة برائحة بخار ودخان صادرًا من الداخل منبعثًا من أجساد بشر يقبعون داخل المبنى الذي يطلق عليه الفرن بسبب شدة حرارته، هو عبارة عن إسطبل يقع تحت المبني، كل نوافذه مغلقة، ليس له فتحات للتهوية سوى الهواء الذي يدخله أثناء فتح باب الإسطبل وإغلاقه، أدخلني جنديًا آخر اسمه راوح من ماوية، أختار لي زنزانة كانت غرفة بجانب الباب من الداخل دافعًا إياي إلى الداخل مغلقًا الغرفة بالقفل من الخارج.. كانت الغرفة ضيقة تتسع لسجينين ليس لها نوافذ أو فتحات للتهوية..
لم يكن لدي فراشًا او لوازم شخصية، أفترشت الأرضية الإسمنتية متلفتًا داخل الغرفة التي كان يوجد فيها سجينًا آخر عرفت فيما بعد أنه الدكتور عبدالرحمن حيدر أحد اطباء مستشفى الثورة في تعز، قاعدًا على فراشه، لم نتخاطب معًا فقد كان من طبيعته التعفف عن الحديث بالإضافه إلى مايفرضه السجن من صمت وتجنب الكلام حماية للنفس
تمددت على أرضية الغرفة مفكرًا بوضعي كمعتقل بينما انا في مهمة رسمية باتفاق رئيسي الشطرين وذهبت بتفكير عميق أرهقني إلى حد أني نمت عميقًا
كانت الحركة في الممشى من قبل السجناء على أشدها، الكل في ترقب لمعرفة الوافد الجديد هل هو مخبر مندس للحياة بين السجناء أم هو رفيق جديد تم إعتقاله يحمل معه إعترافات جديدة ستنزل سياطًا وعذابًا إضافيًا على بعض السجناء، كنت حذرًا وأعيش حالة مخاوف اثقلتني من القادم الذي أجهله، حاول البعض شد الباب للتخاطب معي والتعرف عليا.. لم اتجاوب مع طلباتهم خوفا وحذرًا، كان الجميع قلقًا بما فيهم انا..
في نفس اليوم عصرًا فتح الباب من قبل أحد العساكر الذي طلب مني الخروج إلى الحمام بسرعة والعودة.. ناولني فراش اسفنج ممزقًا يحمل لونًا رماديًا من كثر التعرق عليه من قبل سجناء سابقين
أثناء المرور بالصالة عائدا من الحمام نظرة خلسة.. كان بعض السجناء الذين تجاوزوا الحكم عليهم بالسجن الإنفرادي.. يجلسون معًا، تجمعهم التخزينة.. يتبادلون الحديث والنكات وكأنهم خارج السجن، لم اتعرف على أحد فيهم.
في اليوم الثالث كلمني الشاؤوش احمد الخلقي أن هناك أصحابك قابلوا المدير يسئلون عنك وأنه أكد لهم أنك لست في سجنه وليبحثوا عنك في مكان آخر…
تمكن أحد السجناء الذي يكتب المعلومية بإعتباره الأقدم..أدين لهذا الشخص بحياتي..تواصل معي من تحت الباب أجبت على اسئلته وحكيت له قصتي فأطمئن وبدوره نقل الخبر إلى السجناء الآخرين، هذا الشخص أحد شباب الحزب من عزلة الأثاور أعتقل اثناء ماكان مجندًا في الحرس الجمهوري هو الدكتور مفيد قائد احمد، في جامعة تعز حاليًا، كان بإعتباره الأقدم موسوعة في قصص السجن والسجناء وأساليب التحقيق والتعذيب بكل مايكتنفها من الآم وعذابات واعترافات وتضحيات، وهمزة وصل بين السجناء في الزنازن ورفاقهم.
أبلغني إن هناك توجيهات بعدم رفع إسمي ضمن المعلومية التي ترفع مساء كل يوم، أقلقني الخبر الذي شاركني إياه موضحا أن عدم رفع الإسم ضمن المعلومية لايبشر بخير وأن هناك خطة للتخلص منك.. تعززت قناعتي بذلك عندما عدت الى حديث الشاؤوش بإنكار الإدارة لوجودي.
دبرنا خطة انا ومفيد لإفشال ذلك
تمكن مفيد من اقناع أحد العساكر المستلمين في البوابة، حمل رسالة لأحد الأصدقاء مني لطلب مصاريف وتم وعده بمصاريف منها، الهدف من الرسالة ابلاغ ادارة الامن الوطني ان وجودي لديهم لم يعد سرًا، اعطانا سنة قلم رصاص ووريقة باكت سيجارة.. أخترت كتابة الرسالة لأحد العاملين في الأمن الوطني يدعى أمين فيصل من الوزيرة كان أحد أفراد الجبهة وأصبح متعاونًا مع الأمن الوطني، أعرفه جيدًا، مضمون الرسالة أنني كما تعرف موقفا في الأمن الوطني وأحتاج لمصاريف ولم أجد غيرك لإبلاغه بحاجتي.. سارت الخطة كما رسمناها فلم يقصر صاحبي.. إذ بمجرد استلامه للرسالة أنطلق مفزوعًا الى مدير الامن الوطني واضعًا الرسالة بين يديه قائلًا كيف هذا مخفي ورسائله تنطلق من داخل السجن إلى خارجه؟!..
أقتلبت الإدارة رأسا على عقب وصدر تكليف لضابط أمن الإدارة اسمه عبدالجبار نعمان من ذبحان لتفتيش السجن والسجناء.. أقتحم السجن (الفرن) غاضبا معلنا حالة طوارئ.. كل السجناء في غرفهم بحالة رعب.. الجميع تعرضوا لتفتيش عنيف وشتائم والفاظ عنيفة، تم سلب السجناء كل شئ ماعدى ملابسهم التي يرتدونها بعد تفتيشها..
عندما وصل الضابط إلى غرفتي وبعد خلع ملابسي سألني أهو انت؟ قلت نعم أنا، لم أكمل الإجابة لشدة وقع الملطام الذي أوقعني أرضًا، غادر الغرفة وانا ممدد على الأرض بسبب الدوران الذي أصابني
مساء تم إستدعائي من قبل المدير احمد الأنسي الذي سألني لمن بعثت رسائل؟ أجبته لأمين فيصل وللأسرة في المنطقة ورفاقي أطمئنهم على وجودي وطلب مصاريف، لم يكن عنيفًا معي، لحظتها طلب الشاؤوش موجها إياه باعادتي إلى السجن وصرف خمسة الف ريال مصاريف..
من لحظتها تم خروجي من الزنزانة والسماح لي بالحركة والبقاء مع السجناء.. وكانت مفاجأتي كبيرة لحظتها عندما كان أول سجين ألتقيه هو الرفيق احمد غالب من الأمجود الذي اعتقل قبلي..
الرفيق احمد غالب سيف أحد شباب الجبهة الوطنية الديمقراطية الذي وقع ضحية العفو الذي أعلنه النظام والحوار الذي كفل حل كل قضايا الصراع المختلف عليها.. بما في ذلك معالجة كل المشاكل الناتجة عن الصراع السياسي.. وكان ضحيته ليس الرفيق احمد غالب وانما العشرات والمئآت من المناضلين..
اثناء الحوار كنت مهتمًا بمتابعة الإفراج عن مجموعة من خمسة عشر فردًا تم ترتيب عودتهم من عدن إلى مناطقهم وتسليمهم عبر الأمن الوطني في تعز.. الذي احتجزهم في معتقل الفرن وتعامل معهم كمعتقلين.. لذلك كنت اتابع الافراج عنهم.. كونهم عادوا بتنسيق بين النظامين ولا داعي لإستمرارهم في المعتقل، وفجأة أجد نفسي معتقلًا كأحدهم، جميعهم شبابًا تعرفت عليهم لا أذكر اسماؤهم وإنما كان أحدهم الفقيد احمد حسن حاتم من قرية الحمري.. توفى بحادث مروري فيما بعد، كان يتصف بالمرح والضحك لايضع حسبا لكونه في السجن، لم يتم التحقيق معهم أو ممارسة التعذيب معهم ولم يتم تبليغ أسرهم بوجودهم.. استمروا في المعتقل فترة قصيرة تم الإفراج عنهم بعدها.. أتذكر لحظة الإفراج عنهم ومغادرتهم السجن أن المرحوم احمد حسن أهداني مخدة موروثة من سجناء قبله، قطعة من القماش لزجة واصبحت سوداء من كثر استخدامها وتعرق السجناء عليها
يتبع…