المواطن/ كتابات ـ أنور العنسي
ذهبنا جميعاً لصنعاء من كلِّ حاضرةٍ وواد ، حملنا إليها قصائدنا ، قصصنا ، رواياتنا ،ولوحاتنا عابقةً بفلِّ الحديدةِ ، كاذي عدن ، (مشاقر) تعز ، عسل جردان ، ، شذاب ذمار ، بخور المكلا ، رائحة البرتقال المأربي ، أغاني القمندان ، وحلاوة رمان صعدة .
لُذْنا بصنعاء شُبُّاناً فقراءَ ، لا نلوي على شيئ إلاَّ مِن مشاريعنا النشوى وأحلامنا الزاهيات الكبار ، نحلم بيمن جديدٍ ، ووطنٍ عربيٍ رحبٍ ، وعالم إنساني كبير.
كان أحمد قاسم (دماج) قد سبقنا جميعاً إلى ذلك ، وكان هو أولَ الحداةِ في سٍفر أسفارٍ لم تنته ، وأقدمَ سراةِ قوافلنا نحو وطننا الأخضر المستحيل.
كان بِدُنُوِّهِ من الأرض أعظمَنا جميعاً ، وكان بإدراكه قيمة الإلتصاق بها أغلانا قيمةً ، بل أَعلاناً هامةً وقامه.
قبل ذلك كان “دماج” هو “الرهينة” الأشهر في سجون الإمامة كما خلدته رواية ابن عمه”زيد مطيع دماج” وذلك يعني في الذاكرة الوطنية لجيلنا ما يعنيه.
منذ أول لحظة إنفُكت فيها أغلال سجنه وخروجه من محبسه ، ألقى “دماج” خلفه بندقية القبيلة وخنجرها ورداءها ، وارتدى بدلته “السفاري” متوجهاً إلى عدن ليبدأ منها لتسطيرقصة مثيرة في الكفاح ضد الاستبداد الإمامي والاستعمار البريطاني معاً ، متخذاً من القلم سلاحاً ، ومن العقل وسيلة في مقابل سيف الجلاد.
لم يكتب “دماج” الكثير من الشعر رغم جودة ماكتب لكن حياته نفسها كانت “الكثير ” من الشعر ، ملحمة في الاستبسال بالفكرة والقصيدة والسياسة دفاعاً عن حرية الإنسان وكرامته . . ملحمة أترك الحديث عنها لنقاد الأدب ومؤرخي السياسة ، وأكتفي هنا بما رسخ في وعيي عن هذا الشاعر الفذ ، صاحب المبدأ الصلب ، والعقل المرن القابل للتعامل مع مستجدات الحياة ومتطلبات التغير في زمن متغير.
عندما التقيته لأول مرة إرتسم لدي انطباع بأن هذا هو الأب “الروحي” الملهم الذي أحتاج إليه للاستمرار في مخاض الحياة بعد الرحيل الفاجع لوالدي في مقتبل عمري.
وضعت يدي في يده دون تردد ، وسرنا في ذات الطريق معاً رغم كل الفوارق بيننا ، عمراً ، وتعليمًا ، وغير ذلك ، فقد كان الأهم أن القيم والمثل المشتركة هي ما تجعلنا واحداً ، وأكثر نبدو معها عضلتين في قلب واحد ، وفُصّين في عقل مشترك ، وجناحين لروح أوحد.
فض “دماج” أكثر من اشتباك بيني وبين بعض متاعب الحياة ، خصوصاً مع عدد من الرفاق والزملاء والأصدقاء طوال كل الأزمات التي عصفت بحياتي كلها ، المهني منها والسياسي حينذاك ، وفي المقابل كنت له على الدوام عصاه ، عكازه ، والحائط الذي يسند إليه ظهره حين يتعب ، وكان لا يتردد بأن يصفني أمام خاصته بأنني عصى موساه ،يهش بها الذئاب والأغبياء من حوله.
كان “دماج” لا يبدو قلقاً من أن شهرتي كمذيع معروف في التليفزيون يمكن أن تأخذني بعيداً عن مشروعي الأدبي الذي كان يحثني على الاستمرار فيه ، ولا يعتقد أن اقترابي من السلطة سيغير من ميولي الأدبية المتأصلة ، كما كان ينافح عني ، ولكن عندما خرجت من اجتماع في وزارة الإعلام وصادفته في بوابتها ، كان كعادته يرتدي بدلته السفاري المعتادة ، بينما كنت أرتدي بدلة أنيقة وربطة عنق جميلة فسألني ساخراً :”من معي؟ ؟أنور أم رئيس وزراء بلجيكا؟”.
أدركت حينها خوفه عليّ من أن تتلوث يداي بدسم السلطة ، ومن حسن الحظ أنني ذهبت في طريق آخر مختلف بعد أشهر من هذا اللقاء.
مضت السنوات تباعاً وأنا خارج البلاد لم أتمكن من التواصل معه إلا من خلال إبنته النجيبة الدكتورة سلوى قبل وبعد أن أكملت دراستها في ماليزيا.
أرسلت إلي صوراً لوالدها في أيامه الأخيرة ، قائلة إنه يريد سماع صوتك ، ثم ساعدتني في الاتصال هاتفياً به ، إنكسرت من داخلي بحدة عندما سمعت صوته القوي ذاويا ، إذ لم أكن أريد ولا أتصور أن “دماج” الطود الشامخ العملاق سوف يهوي بشدة بفعل الحزن الذي اعتراه في أواخر عمره على انهيار احلامه الكبار بسقوط الجمهورية بعد العام ٢٠١٤!