المواطن / كتابات _فهمي محمد
1- الدولة
ربما تُعد الدولة هي الكائن السياسي الوحيد الغير قابل للتعريف الدقيق والمتناهي في القاموس السياسي، فالدولة بحد ذاتها ليست سوى إختراع ذكي من إنتاج الفكر الإنساني القابل بحد ذاته “للتطور” والطموح تجاه المسألة السياسية التي غالباً ما تحدد مسار المستقبل في أي مجتمع أمتلك بالضرورة شروط التحول والتغيير إجتماعياً وسياسياً .
فالدولة وإن كانت تمارس السلطة السياسية بالمفهوم المادي في واقع الجماعة المحكومة، كما هو حال السلطة = { الكائن السياسي الأسبق لها تاريخياً في الحكم } فإن ما يميز ممارسة الدولة لمسألة السلطة السياسية يظل دائماً محكوماً ومقيداً بقوة الفكرة التى بررت وجودها سياسياً وقانونياً وليس بقوة السلطة، التي حكمت الجماعات السياسية قرون طويلة قبل أن يهتدي الإنسان في رحلة كفاحه الطويل مع حكام السلطة إلى إخترع فكرة الدولة التي يختفي وجودهم في ظلها.
فالدولة بالمفهوم الحديث هي كائن سياسي ( ناظم لأجهزة السلطة ) ناهيك عن كونها تعمل على تغطية المكون الجغرافي والإجتماعي وتحافظ على وحدتهما وديمومتهما داخل الإطار الوطني هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية فإن الفكرة التي بررت قيام الدولة في أي مجتمع هي نتاج لحالة “عاقلة” من الوعي الإجتماعي المتجدد، تجاه ممارسة السلطة والحكم، وتجاه المسألة السياسية بشكل عام، وفي نفس الوقت تعد الدولة تعبير عن الإرادة السياسية للجماعة المحكومة التي بدأت تتوخى تحقيق مصالحها العامة في إطار إندماجها المشترك، لاسيما حين بدأت هذه الجماعة تعي ذاتها سياسياً – بمقتضى التفكير والوعي الإجتماعي – لذلك نجد بعض المحاولات الحديثة تعرف الدولة، أو تصفها بكونها ” عقلنة التفسير السحري للسلطة” كما نجد ذلك عند جورج بوردو مؤلف كتاب الدولة ما يعني أن الدولة كفكرة حديثة في حال قيامها في أي مجتمع تشكل كيان سياسي عاقل يضاف إلى السلطة من خارج أجهزتها وبشكل يجعل من هذا الوجود الحاكم مسألة سياسية فكرية ( كيان سياسي) يتجاوز مفهوم السلطة القائمة تاريخياً، بل تتحول السلطة نفسها مع هذه الإضافة النوعية = { الدولة } إلى أداة رشيدة بيد الدولة وفي خدمة فكرتها، فالدولة بموجب هذا التحليل أو التوصيف تعد كيان سياسي قابل للإنفصال عن السلطة وجوداً وعدماً بمقياس الفكرة نفسها، وبالمعنى الذي يمكن تلخيصه بهذه المعادلة السياسية القائلة = { كل دولة حاكمة، في الواقع هي سلطة سياسية، وليس كل سلطة سياسية هي دولة }
واذا كانت الدولة في المقام الأول هي فكرة تدرك بالفكر الذي أنتجها في سبيل عقلنة السلطة السياسية وتحويلها إلى كيان سياسي وطني، فإن هذا الإدراك يتطلب في نفس الوقت “أذهان قادرة على التفكير فيها” بالمعنى الذي يميزها عن السلطة، ومع ذلك فإن ما يجب فهمه أن الحديث عن الدولة وفق هذا المفهوم الفكري لايعني قط، أننا بصدد الحديث عن كائن سياسي هلامي أو أننا نتحدث نظرياً عن يوتوبيا معلقة بالهواء غير قابلة للتطبيق، بل يعني أننا بصدد الحديث عن فكرة ( ناظمة بكل المقاييس ) لها وجودها وحضورها المؤثر، أكثر من أي وجود آخر مؤثر في مستقبل الجماعة المحكومة سياسياً، زد على ذلك أن الدولة كفكرة وككائن سياسي في حال قيامها في واقع الناس، تعبر دائماً عن قدرتها وعن نفسها بوجود سلطة سياسية تعمل في المقام الأول على إعادة بلورة وصياغة العوامل التي شكلت تاريخياً مجمل الشروط الموضوعية في كينونة الدولة = { الارض والسكان والسلطة الحاكمة } وبالتالي فإن الحديث عن تعريف الدولة لاسيما في حال أن نكون كما هو حالنا مع هذه الدراسة، بصدد تعريف معاصر يميز مفهوم الدولة عن مفهوم السلطة، فإن التعريف يكون أكثر نجاعة وواقعية في حال أن تم التعاطي مع تعريف الدولة من الزاوية الوظيفه لها وقدرتها في نفس الوقت على ترجمة هذه الوظيفة ={ غاية الدولة المعبرة عن فكرتها } إلى مخرجات واقعية تمس الإنسان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بعكس مخرجات السلطة التي لم تتحول بعد إلى دولة ناظمة وضامنة في نفس الوقت.
الدوله التي نحن بصدد الحديث عنها في هذه الدراسة نستطيع أن نعرفها بالقول ” أن الدولة هي فكرة ناظمة غير ملموسة ولكنها ذات وظيفة مؤسسية ووطنية تجعل منها أو من فكرتها كيان سياسي وقانوني حاضر بقوة الحق في كل تفاصيل حياتنا وبالشكل الذي يحول هذا الحضور الشامل إلى اصول ثابته يصعب تجاوزها أو إختراقها من قبل الحاكم والمحكوم على حد سواء .
فالدولة لا تعني سوى الإنتصار السياسي والوطني للإنسانية على الإنسان في معركة التغيير السياسي التي بدأت في الماضي البعيد مع تحول الإنسان إلى جماعة سياسية بدأت تستوطن الأرض وتستقر فيها، والإنتصار على الإنسان في هذه المعركة السياسية، يعني في حقيقته الإنتصار على ممارساته لمفهوم السلطة التي بدأت قابلة للحيازة والنفوذ السياسي ، كما أن هذه المعركة السياسية نحو التغيير قبل السلطة الحاكمة قد تسلحت إبتداءً بالوعي الإجتماعي لاسيما وأن فلسفة ما قبل الميلاد قد عرفت الإنسان بذاته بالحيوان السياسي والسياسة بحد ذاتها ممارسات عقلية أو هكذا يجب أن تكون، وعطفاً على ماسبق فقد تحولت فكرة الضمير السياسي والحق الإجتماعي بموجب هذا الإنتصار للوعي الإجتماعي إلى كيان سياسي وطني حاكم بقوة العدل والقانون = { الدولة الغير قابلة للحيازة والنفوذ السياسي لأنها أي الدولة ملك الشعب وحده } أو دولة الشعب على حد وصف محمد صالح الحاضري.
ما يجب أن نفهمه أن الدولة كفكرة سياسية نشأت إبتداءً في سبيل مواجهة مُشكلة السلطة السياسية بعد أن أثبتت الأحداث أن الحكام لا يتورعون عن الإساءة في إستخدام السلطة السياسية حين يتربعون على رأسها ويحكمون بأدواتها، بل إن المجتمعات قد دفعت في الماضي ثمن كبير بسبب قرار طائش اتخذه الحاكم هنا او هناك بعد أن أمتلك مقاليد السلطة المطلقة، أو السلطة الخالية يومها من فكرة الدولة، وهذه المفارقة بحد ذاتها تعطينا فارق جوهرياً بين مفهوم السلطة وبين مفهوم الدولة، الذي نجده يتجسد في إحدى مظاهره بعدم قدرة الحكام على ممارسة الإساءة في استخدام السلطة السياسية أو تجييرها للمصالح الشخصية، في حال وجود الدولة الناظمة، وإن حدث ذلك من قبيل الإستثناء فإن القانون يكون قادراً على المحاكمة وتكون مؤسسات الدولة المناطة بها دستورياً قادرة على الإقالة من المنصب السياسي أو الموقع القيادي في هرم الدولة ، ولهذا يقول شبنهاو “أن الدولة هي اللجام الذي يهدف إلى منع عدوانية هذا الحيوان الضاري الذي هو الإنسان” وهذا مايؤكد أو يعني “بأن الدولة تعني الإنتصار السياسي والوطني للإنسانية على الإنسان” ومسألة الإنتصار على الإنسان أو منع عدوانيته، تنصرفان بدرجة أساسية تجاه الحكام أكثر منها إلى المحكومين، لأن السلطة السياسية بدون دولة تكون قادرة على منع عدوانية المحكومين فيما بينهم وإن تخلل ذلك شئ من الإنتقائية الناتجة عن المحسوبية السياسية التي تشكل دائماً عصبية سياسية داخل أجهزة السلطة، لكنها تظل دائماً وأبداً عاجزة عن منع عدوانية الحكام وإساءتهم في إستخدام أدوات السلطة الحاكمة ونفوذها السياسي القادر على خلق مصالح غير مشروعة للحكام والنافذين في أجهزتها وحتى المحسوبين عليهم، ولهذا تخلقت فكرة الدولة ( في وجه السلطة ) التي أخذت تتطور مرحلياً من نسخة سياسية وفكرية إلى أخرى = { دولة المؤسسات ، الدولة الوطنية ، الدولة المدنية } وبالشكل الذي يعكس نجاعة وفاعلية الوعي الإجتماعي تجاه مشكلة السلطة الحاكمة ومخاطرها بدرجة أساسية، وتجاه المسألة السياسية بشكل عام .
إن الدولة كما يقول بوردو ليست إقليماً أو شعباً ولا مجموعة من القواعد الملزمة، كل هذه العوامل ليست بالتأكيد غريبه عنها ولكنها تضعها فوق المعرفة المباشرة، فوجودها لا يتعلق بالظاهرية الملموسة إنه شأن ذهني، فالدولة بالمعنى الكامل للكلمة هي فكرة، وبما أنها ليس لها غير حقيقية إدراكية فهي ليست موجودة إلا لأنها تدرك بالفكر .
2- السلطة
السلطة السياسية المقصودة في هذه الدراسة القائمة أساساً على جدل المفهوم بين السلطة والدولة ليست هي السلطة التي درستها وحللت أشكالها كتب ومراجع النظم السياسية والقانون الدستوري، بل هي الكائن السياسي الذي حكم في الماضي البعيد وحتى في الحاضر لدى بعض الشعوب عبر أجهزته السلطوية الخالية فعلياً من أي وجود سياسي لفكرة الدولة، والحديث عن السلطة السياسية بهذا المعنى يعني الحديث عن السلطة السياسية التي تختفي بالضرورة في ظل وجود الدولة الناظمة، بمعنى آخر السلطة التي نحن بصدد الحديث عنها هي التي تحكم الناس في مجتمع مازال يناضل حتى اليوم من أجل بناء دولته التي يرتضى بها سياسياً وفكرياً في حكم حاضره ومستقبله .
عدم وجود الدولة في أي مجتمع لايعني وجود الفراغ السياسي في مسألة الحكم بل يعني أن المجتمع سوف يخضع لوجود سلطة سياسية تحكم الناس وتمارس سلطة الإكراه عليهم بمرجعيات مختلفة في هذا المجتمع أو ذاك، لكنها جميعاً تظل في حال تعارض شديد مع فكرة الدولة التي شكلت في الأساس مفهوم سياسي وفكري يتجاوز مفهوم السلطة ويعالج مخاطرها التي لا يمكن أن تختفي في أي حال من الأحوال إلا في حال أن تتحول السلطة نفسها إلى أداة بيد الدولة وفي خدمة فكرتها التي شكلت نقطة مفصلية في مسار هذا التحول السياسي لدى الشعوب التي تعيش اليوم في ظل حكم الدولة، وعطفاً على ذلك فإن السلطة في حال غياب الدولة تكون أداة في يد الأشخاص بذواتهم وفي خدمة مشاريعهم الخاصة أو المشاريع الصغيرة على وصف ياسين سعيد نعمان، ناهيك عن كونها تصبح قابلة للحيازة والنفوذ السياسي القادر على خلق المصالح الغير مشروعة .
إن مقولة “أنا الدولة” المنسوبة للحاكم لويس الرابع عشر في فرنسا لم تكن سوى تعبير مكثف لحقيقة غياب فكرة الدولة ومفهومها السياسي في فرنسا قبل مجئ الثورة، وآية ذلك ما قاله لويس السادس عشر من بعده “انا وبعدي الطوفان” وتلك هي مألآت مؤكدة وسمجة في نفس الوقت، ناتجة بلا شك عن حكم السلطة وأثرها ولو بعد حين على الشعوب التي لم تنتصر بعد لفكرة الدولة كما هو حال اليمن التي تغرق اليوم في طوفان ما بعد سلطة الرئيس صالح .
فالسلطة المقصودة هنا هي حكم المجتمع عن طريق سلطة سياسية تتجلى فيها سلطة الأشخاص ونفوذهم السياسي المهيمن على حساب سلطة المؤسسات، وسيادة القانون. بل أكثر من ذلك على حساب الفكرة الوطنية بشكل عام.