المواطن / كتابات _ فهمي محمد
على مستوى واقعنا العربي قد يكون الحديث عن فكرة إحراق المسافة الزمنية التي استغرقتها الصيرورة التأريخية للدولة المدنية شيء مقبول وممكن لكنه يظل مشروطاً بضرورة التقيد بالخطوات السليمة والعملية في الواقع السياسي والتي تعني عدم القفز على تلك الشروط الموضوعية التي نتوخى منها بناء الدولة المدنية لاسيما في تلك الأقطار التي شهدت أحداث الربيع العربي، بمعني آخر قد يجوز لنا وفق هذا المنطق أن نختصر الزمن الذي استغرقه فعل التحول والتغيير في التجربة الأوروبية والمقدر باكثر من ثلاثة قرون هن عمر التحولات الحرجه التي دارت رحاها بين ثلاث مؤسسات فاعلة ومؤثرة في التجربة الأوروبية ، لاسيما وقد ظلت مسألة التراتبية بين تلك المؤسسات في سلم الهرم السياسي لشكل السلطة والدولة وكذلك في اتخاذ القرار السياسي المؤثر فيهما وحتى التأثير في حركة الجماعة السياسية وفي بنية المجال السياسي العام مؤشر طبيعي لوجود مفهوم الدولة من عدمها وعلى وجه التحديد الدولة المدنية الحديثة .
هذه المؤسسات الثلاث التي خاضت غمار التحولات الحرجة لمدة ثلاثة قرون على حد وصف ” رالف إم غولدمان ” مؤلف كتاب ” من الحرب إلى سياسة الأحزاب ، التحول الحرج الى السيطرة المدنية ” تتمثل اولاً بالمؤسسة العسكرية التي كان يقف على رأسها قبل ثلاثة قرون الرئيس أو الملك، وتتمثل ثانياً بالمؤسسة التشريعية ، ثم تتمثل ثالثاً بالمؤسسة الحزبية التي اندفعت موخراً في معادلة التغيير ، وقد تموضعت تلك التحولات الحرجة في ظل صراع هذه المؤسسات الثلاث على السلطة والقرار السياسي أو أنها أدت في نهاية المطاف إلى أن تصبح المؤسسة الحزبية بمشروعها السياسي والمدني هي المؤسسة الأولى المؤثرة في القرار السياسي وفي حركة المجال السياسي العام ، بل أصبحت هي المؤسسة الحاكمة في الدولة المدنية ، بعد أن كانت قبل ثلاثة قرون تقع في المرتبة الثالثة، يومها كانت المؤسسة العسكرية هي الحاكمة وصاحبة القرار في السلطة والدولة ، في حين ظلت المؤسسة التشريعية هي المؤسسة رقم أثنين قديماً وحديثاً ، تلكم هي مجمل الأفكار التي يدور حولها كتاب صاحبنا ذو العنوان المركب وهي افكار ومعطيات تتعلق بصلب موضوع الدولة المدنية وإن أتت في سياقات أخرى .
من نافلة القول أن أحداث الربيع العربي قد كشفت بشكل كبير هشاشة وجود تلك الشروط أو العوامل الموضوعية المتعلقة بصيرورة الدولة المدنية على غرار تلك التي تحايثت وتكاملت بشكل إيجابي في واقع التجربة الأوروبية ،
ففي المقام الأول لم تشهد تجربتنا السياسية الدولة بالمفهوم المؤسسي أو الدولة الوطنية كمقدمة سياسية تأتي في سياق التطور لمفهوم الدولة المدينة الحديثة ،
وفي المقام الثاني لا وجود لمؤسسة تشريعية فاعلة قادرة على إحداث الفارق في معركة التغيير كما هو حال مجلس النواب الأطول عمراً في اليمن ،
وفي المقام الثالث لاوجود لأحزاب سياسية مؤسسية ديمقراطية قادرة على خوض معركة التغيير والتحول على غرار تلك المؤسسة الحزبية التي خاضت غمار التحولات الحرجة نحو المدنية في كلاً من انجلترا وامريكا والمكسيك والتي يخبرنا عن دورها رالف في كتابه المذكور سابقاً ،
وفي المقام الرابع لاوجود فاعل أو مؤثر لسلطة اهل الفكر في المجتمع العربي على غرار تلك التي يحدثنا عنها المفكر علي امليل في كتابه ” السلطة السياسية والسلطة الثقافية ” ، فهذه السلطة حتى اليوم غير قادرة على توظيف الجماهير العربية وبشكل إيجابي في معادلة الصراع والتغيير كما فعلت سلطة اهل الفكر في أوروبا ،
وفي المقام الخامس لا وجود لنظام معرفي ثقافي عام أو عقل جمعي عربي مشبع بالقيم المدنية = ( ثقافة الحرية ، ثقافة القبول بالآخر ، ثقافة التسامح ، ثقافة الحوار ) ،
وفي المقام السادس مازالت المؤسسات التقليدية العصبوية حتى اليوم تمارس دورها التأريخي والوظيفي في نفس الوقت ليس على المستوى الأفقي داخل المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج = ( القبيلة والمذهب والطائفة ) بل نجد هذا الحضور السلبي والتقليدي موجود ومؤثر وحتى مهيمن بشكل كبير على المستوى الرأسي داخل بنية السلطة السياسية الحاكمة ، كما هو الحال مع ظاهرة القبيلة السياسية في اليمن على حد وصف الباحث سمير العبدلي في كتابه “ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية لقبائل اليمن”
وفي المقام السابع مازالت السياسية كفكرة ومفهوم مدني غير قادرة على تجاوز محنتها أو معضلتها مع الممارسات العربية التي دائما ما تمارس الفعل السياسي مع وجود محرم من الدين أو رقيب من السلطان ، أي أن السياسة لم تمارس في مجتمعاتنا العربية كأفكار مدنية مستقلة بذاتها وبمفهومها الدنيوي المدني إنطلاقا من مصدرها الطبيعي المجتمعي والإنساني وليس الديني الأيديولوجي المذهبي الذي يربط المنطق السياسي الدنيوي بما هو متعالي ومقدس وحتى غيبي ، فالفعل السياسي في مجمل الأقطار العربية وفق المفهوم العقلاني الذي يجب أن تكون عليه السياسية كفكرة عامة مازال غير قادر حتى اليوم على تأسيس مجاله السياسي العام والمفتوح والمتعدد أمام المكونات والقوى الإجتماعية لأن السياسة كفكرة وكممارسة مازالت حتى اليوم خاضعة لسيطرة الدين والسلطان ،
ناهيك عن المشكلة الكبرى المتعلقة بالجانب الاقتصادي التي تأتي هنا في المقام الثامن وليس الأخير ، لكون هذا الترقيم لايعني تقديم عامل على آخر بحسب الأهمية أو قوة التأثير في تلك العوامل الموضوعية التي يضاف إليها بالضرورة عامل خارجي يتمثل بقدرة ألا وطني على اختراق السياجات الوطنية التي بنيت في جميع أقطارنا العربية من القش ومن خيوط العنكبوت بتلك الأدوات السياسية السلبية والمتراكمة لهذه الأنظمة العربية الحاكمة منذ عقود بقوة الحديد والنار .