المواطن/ كتابات _ وسام محمد
قبل ثلاث ساعات من الان بينما كنت افكر في ذلك المشهد الذي رأيته في بداية المساء والذي كدر مزاجي وبسببه فشلت في التركيز مع قراءة الكتاب الذي بين يدي. بعد عدة محاولات قررت ترك الكتاب ثم بدأت بتصفح بعض المواقع. في موقع السفير العربي وجدت مقالة تتحدث عن مصير الكتب في زمن الحرب, لباحث يمني يدعى صفوان التميمي.
المصادفة هي ان المشهد الذي افزعني أول المساء تكرر في مقالة ذلك الباحث لكن مع تناقض جذري في التفاصيل.
بالطبع لابد انكم سمعتم عن ايام الجبهة الوطنية وصراعها مع السلطة على فترات متقطعة, خلال عقدي السبعينات والثمانينات.
كانت مرحلة صراع محتدم لم يتبقى منها سوى تفاصيل مشتتة عن احلام كبيرة تسربت وقصص بطولية نسيت ومآسي كثيرة لا تزال مفتوحة الى اليوم. هذا من جهة. من جهة اخرى لا تزال رواسب دعايا السلطة الحاكمة حينها حاضرة بين الناس عن المخربين في المناطق الوسطى وتلك التفاصيل عن تسميم مياه الآبار وغيرها من القصص غير المثبتة.
في المقالة التي صادفتها على موقع السفير العربي وجدت رواية توثق احد جوانب تلك المرحلة وقد انتزعتها كاملة في الاقتباس التالي:
“في مطعم للعصيدة، التقيت يساري خمسيني. كان يعيش لحظات خدر، مسنداً ذراعيه إلى طاولة خشبية، وساهماً في برميل قمامة على مرمى بصره. لا بد أنه ينتظر “رفيقاً” يقرضه قيمة وجبة غداء.
حييته، وجلست بمحاذاته. قال وعينيه مقرورتين:
- هل ترى كومة الكتب تلك المبعثرة في أطراف برميل القمامة؟ لقد أعادتني إلى السبعينات، أيام العمل السري. كنا نقوم بمهام تسييس الناس في الشمال بطرق مبتكرة، ومن ذلك رمي الكتب بجانب براميل القمامة، لتقع عفوياً في أيدي من يصادفها.
وبحسب هذا الحزبي، لم يكن طموحهم ينحصر بتنظيم الناس في اليمن فقط:
- أرسلنا كتبنا إلى الخليج، مستغلين صفحات القراء والتعارف في المجلات الخليجية التي حوت بيانات وعناوين بريدية، فنقوم بإرسال الكتب عشوائياً إلى تلك العناوين”. انتهى الاقتباس.
ليس الحديث عن ارسال كتب الى عناوين مجهولة في الخليج هو ما استوقفني رغم ان هذا موضوع بحاجة الى تأمل ومقارنة مع وضعنا الحالي. ما استوقفني هو حكاية رمي الكتب بجوار براميل القمامة حتى يتمكن أي عابر من التقاطها كأحد طرق تسيس وتثقيف الناس خلال تلك المرحلة.
ايا يكن الامر. فان سياق نشر المعرفة يومها كان واضحا, بينما تلك الكتب التي استثارت ذاكرة الرجل ربما يكون قد القى بها شخص اضطر للنزوح ولم يكن بوسعه الاحتفاظ بها لأن سياق المرحلة الحالية واضحا هو الآخر. غير أن المشهد المقتبس من ذاكرة الرجل أعادني للمشهد الذي صادفته اول المساء. وقد كان على هذا النحو:
بالقرب من دورية تتبع الشرطة العسكرية في شارع جمال وسط مدينة تعز, رأيت جنديا يقفز فزعا ناحية الرصيف المقابل شاهرا سلاحه باتجاه رجل بيديه اكياس سوداء. وعندما وصل اليه آخذ الجندي يفتش الاكياس بحذر. حينها عرفت انها قمامة اراد الرجل ان يرمي بها بجانب الرصيف الامر الذي افزع الجندي وجعله يسارع لتفتيشها خوفا من أن يكون بداخلها عبوة ناسفة كتلك التي آخذت تنتشر خلال الايام الماضية وغالبا وسط أكوام القمامة. بعضها انفجرت وخلفت قتلى وجرحى وبعضها جرى تفكيكها قبل انفجارها.
انتشار هذه العبوات بات يشير الى نوع الصراع الدائر اليوم وأي أدوات قذرة تستخدم فيه. ثم ان هذا يعيدنا الى تلك الفترة التي سبقت الحرب عندما كان يراد إفشال حكومة الوفاق وايضا نشر الذعر والارهاب بين الناس وجعلهم يفقدون الثقة في كل شيء كمقدمة لإحلال واقع بديل كان يتم التخطيط له بعناية فأنتهى به المطاف الى حرب شاملة لم تتوقف.
تكدر المزاج لم يكن سببه فقط ذعر الجندي ولكن الى جانب ذلك وجود هذه الاجندة القذرة التي تريد نشر الخوف بين الناس واضافة معاناة جديدة الى معاناتهم. ثم التأمل في أداء القوى السياسية وأجهزة الدولة الذي اصبح اسوأ من ذلك الاداء الذي شاهدناه قبل الحرب عندما ظلت الجرائم تتناسل ولم نرى ايا من الجهات الحكومية تتحرك بجدية ليس فقط لكشف ملابسات تلك الجرائم (معظمها آخذ طابع الارهاب) ومن يقف خلفها ولكن _ وكان هذا ضروريا _ توضيح الاجندة المشبوهة التي تقف خلف تلك الاعمال ثم التعامل بمسئولية لحماية الناس وحفظ السكينة العامة.
هذين المشهدين سيظلان بمثابة توثيق لمرحلتين, وصورة بورترية توضح الفرق بين نوعين من الفاعلين: واحد من الماضي واخر من الحاضر لكنه يمثل امتدادا لذلك الزمن ويكشف زيف كل تلك التلفيقات التي جرى ترويجها عبر اعلام الدولة وأجهزتها. ليس لأن ذلك لم يحدث ولكن لأن التوجه العام للجبهة الوطنية الديمقراطية كان شديد الاختلاف مع ما تم ترويجه ومع التسليم ان الأخطاء تظل واردة. لم تصبح الجريمة توجها عاما وطريقة في الحكم إلا في عهد صالح ويبدو ان هذا سيمتد الى عهد بقاياه وبالمجمل كنتيجة للتركة الثقيلة التي خلفتها سنوات حكمه.
غير ان الامر لا يتوقف على مجرد المقارنة, فهذه الجرائم يجب ان تؤخذ على محمل الجد ولابد من كشف الاطراف التي تقف خلفها وجعلها في مواجهة مباشرة مع المجتمع. لأن الاكتفاء بالكلام العام ومحاولة كل طرف القاء التهم على الطرف الاخر, هذا الاستهتار بأرواح الناس سيجعل كل الاطراف مدانة. ثم أن سياق الصراع واضح واطرافه ليست خافية على أحد.