المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
الإهداء إلى: عبدالله عبدالرزاق باذيب والشهيد عبدالله عبدالمجيد السلفي, مثقفان ثوريان, وقائدان عماليان, ومناضلان خالدان..
المحور الثاني: تحولات الحركة العمالية والنقابية اليمنية خلال الفترة (1938 – 2019م)
(ب – 1) تشكُّل الطبقة العاملة اليمنية:
بدأت الطبقة العاملة الحديثة بالنمو وبشكل ملحوظ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين في الشطر الجنوبي من الوطن, وبالتحديد في مدينة عدن, التي كانت ــ حينها ــ تخضع للاستعمار البريطاني منذ العام 1839م.
وقد ساهمت عدة عوامل في هذا التشكل, أبرزها:
1- انتشار العلاقات الرأسمالية والعلاقات السلعية ــ النقدية بفعل تدفق السلع الأجنبية إلى عدن.
2- قيام المستعمر البريطاني بإنشاء شركات احتكارية, أبرزها: شركة البترول البريطانية “موبيل” (B.P), وشركة “لوك توماس” وشركة “كوري براذرز” وشركة “البس” وشركة “شل” وشركة “كالتكس”, وغيرها.
بالإضافة إلى تطوير ميناء عدن لأغراض خاصة به, فمن خلاله سيطرت الشركات البريطانية الاحتكارية “على تجارة كل جنوب الجزيرة العربية”. [9]
3- نشوء مزارع إقطاعية كبيرة, مثل: مزارع القطن في أبين ولحج, التي أرسى أساسها الانجليز, وقد أعطت دفعة لتطور العلاقات البضاعية ــ النقدية في الزراعة. [10]
4- تدهور الزراعة ومردودها, وتقلص فرص العمل في الريف, وتنامي عدد السكان, كل ذلك دفع بالعديد من أبناء الريف لشد الرحال إلى مدينة عدن للبحث عن فرص عمل فيها.
فقد مثلت عدن ــ آنئذٍ ــ قِبلة للمهاجرين الريفيين ــ ولا سيما أبناء محافظتي تعز وحضرموت ــ نظراً لما احتلته من مكانة خاصة لدى المستعمر وشركاته الاحتكارية, وهو ما جعل منها أول مركز تجاري وصناعي على مستوى اليمن.
5- قيام الإدارة الاستعمارية بتأسيس مكتب العمل عام 1938م, وأطلق عليه اسم (لابُر أوفيس Labor Office ), وذلك بعد أن ازداد تجمع العمال في مرافق وأماكن عمل مختلفة كالميناء والمملاح والبناء والتجارة وشركات التصدير والاستيراد الأجنبية وشحن وتفريغ البواخر, حيث كان على إدارة مكتب العمل القيام بدور الوسيط لتسهيل مهمة طلبات أصحاب الأعمال من الشركات والدوائر الحكومية والمقاولين وغيرهم.[11]
أما في الشطر الشمالي من البلاد, فقد بدأت الطبقة العاملة بالتكون بوقت متأخر نسبياً, وبالتحديد في مستهل خمسينات القرن الفارط. ويعزى سبب هذا التأخر إلى سياسة العزلة التي انتهجها الإمام يحيى حميد الدين, الذي حكم اليمن الشمالي خلال الفترة (1918 – 1948م), إذ قام بسد الطريق أمام تغلغل التكنيك المعاصر في البلاد ومنعها من اللحاق بالتقدم الاجتماعي[12], كما أعاق قيام صناعة وطنية, وبناء الهياكل التي تدخل في تراكيب الفروع الاقتصادية.[13]
لقد عانت “اليمن المتوكلية” إبّان حكم الإمام يحيى من التخلف الشديد في كافة مناحي الحياة, فالمدن اليمنية ظلت من حيث شكلها الخارجي شبيهة بمدن القرون الوسطى, إذ أُحيط الكثير منها بأسوار عالية, حيث لا يُسمح بالدخول إليها إلا من البوابة التي تغلق في الليل وأثناء تأدية الصلاة.[14]
ولم يكن هناك نظام نقدي, ولم يكن ثمة بنك في اليمن المتوكلية, وكانت خزينة الدولة هي خزينة الإمام, فقد كان الإمام يتصرف بها حسبما يشاء بدون رقيب.[15] بل كانت خزينة الدولة ــ بيت مال المسلمين كما كان يطلق عليها ــ عبارة عن غرفة تقع في قصر الإمام!
غير أن هبوب رياح التغيير واندلاع الثورة الدستورية “الموءودة” في فبراير 1948م واغتيال الإمام يحيى, قد أرغمت وريث العرش الملكي الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين, الذي حكم اليمن الشمالي خلال الفترة (1948 – 1962م) على “تخفيف” سياسة العزلة والانفتاح الجزئي على العالم.
فبدأت البضائع الأجنبية تتدفق إلى مختلف مناطق البلاد, مما تسبب بتدهور الكثير من الصناعات الحرفية الصغيرة, وأفلس أصحابها وأصبحوا لاحقاً عمالاً مأجورين.[16]
كما قامت حكومة الإمام أحمد بعقد الاتفاقات الاقتصادية مع الدول والشركات الأجنبية, ففي عام 1950م مُنحت شركة أرامكو حق احتكاري بالتنقيب عن النفط في مناطق مختلفة من اليمن, وفي 1955م مُنحت الشركة الأمريكية (يمن ديفلوبمنت كريدش أف واستجين) حق المسح والتنقيب عن المعادن بما فيها النفط في بعض المناطق اليمنية.[17]
كما أنشأ الإمام أحمد عدداً من الشركات المساهمة في مجال الخدمات والمواصلات من أبرزها: شركة المحروقات اليمنية, نشأت في أغسطس عام 1961م، وشركة طيران اليمنية, أسست في يناير 1962م, وقد حدد الإمام أحمد حصته بـ (51%), واشترك في هذه الشركات كبار التجار, منهم من كانوا مهاجرين عادوا إلى الوطن مثل عبدالغني مطهر[18], ومنهم من ارتبطوا بصلات وثيقة بالأسرة الحاكمة مثل: الجبلي والشيخ الإقطاعي هادي هيج وآخرين.
ونشأت شركات تجارية أخرى تابعة للبرجوازية التجارية, مثل: شركة هائل سعيد أنعم وشركاؤه التي احتكرت توكيلات الشركات الاميركية والبريطانية في توزيع البضائع الموردة كالنفط والاسمنت والكبريت والسكر…إلخ, وشركة محمد الزغير التي نشطت في مجال استيراد مشتقات النفط والبضائع الغذائية… إلخ.[19]
وأبرمت سلطة الإمام أحمد عدداً من الاتفاقيات مع بعض الدول الرأسمالية والاشتراكية, اتفق بموجبها على إنشاء ميناء في الحديدة, وبناء مصنع الغزل والنسيج بصنعاء, ومصنع الزجاج في تعز, ومصنع الأسماك في الحديدة, ومجموعة أخرى من مصانع دباغة الجلود والسكر والاسمنت والسجائر ومعمل الألمنيوم, ومع ذلك بقيت أغلب هذه المشاريع حبراً على ورق؛ باستثناء ميناء الحديدة الذي قام ببنائه الاتحاد السوفياتي, وقد بدأ فيه العمل منذ خريف 1957م. واستطاع الميناء في ربيع 1961م استقبال ورسو البواخر وجهز الميناء بعدة آليات حديثة الصنع وجيدة التصميم.[20]
مثّل بناء ميناء الحديدة عاملاً هاماً لاجتذاب الأيدي العاملة وتأهيلها, فقد عُدّ بمثابة مدرسة لتهيئة الكوادر المحلية, إذ اكتسب العمال المعرفة ببعض الاختصاصات وأصبحوا عمالاً ماهرين, نجارين وبرادين وغواصين وكهربائيين… إلخ.[21]
وإلى جانب هؤلاء العمال الأجراء, تشكّلت شريحة اجتماعية أخرى: الحمالون, وكانوا يقومون بأعمال الشحن والتفريغ في الميناء.[22]
كان من المنطقي أن يستمد هذا التشكّل الأولي والبطيء للطبقة العاملة من خصائص البنية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد ــ جنوباً وشمالاًــ, وطبيعة السلطات المسيطرة على كلا الشطرين.
على أن النصف الثاني من الخمسينات شهد نمواً عاصفاً للطبقة العاملة في عدن[23] وبدأت تبرز كقوة منظمة من خلال نشوء النقابات.
(ب – 2) ولادة الحركة النقابية اليمنية وسيرورتها (1950 – 2019):
i. توطئة:
يعد ظهور نقابات عمالية (Trade Union) منظمة مؤشر على تطور في وعي الطبقة العاملة في أي بلد, فالنقابة العمالية هي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الحديث ووعاء ديمقراطي ينظم العمال, ويمارسون من خلاله عمليات التفاعل والاتصال البيني مما يولد لديهم وعياً طبقياً بمصالحهم.
ونشأت النقابات في العالم إثر انبثاق الثورة الصناعية, وظهور العمل المأجور, وتسيد الشعار الليبرالي “دعه يعمل” الذي أتاح للبرجوازيين استخدام العمال وتشغيلهم في المصانع والمعامل وفق الشروط التي يفرضها عليهم أولئك البرجوازيين.
وقد شهد العام 1720م ظهور أول نقابة عمالية على مسرح التاريخ الإنساني في بريطانيا. وكان الدافع وراء إنشائها, حاجة العمال الواقعين تحت سطوة الاستغلال البرجوازي إلى التكاتف والتضامن للدفاع عن حقوقهم والمطالبة بتحسين ظروف وشروط العمل, ورفع الأجور, وتخفيض ساعات العمل… إلخ.
لم تكن الطريق معبّدة أمام العمال, فقد استخدمت الطبقة البرجوازية والسلطة السياسية القمع الوحشي في محاولة منها لإثناء العمال عن ذلك, وأصدرت قوانين تحرّم إنشاء نقابات وجمعيات عمالية. وظل هذا التحريم قائماً طوال ما يزيد عن قرن من الزمان, حتى تمكّن العمال ــ أخيراً ــ من انتزاع الحق في تشكيل جمعيات عمالية عام 1829م بعد أن خاضوا صراعاً مريراً مع مستغليهم الطبقيين.
ومنذ ذلك التاريخ شهدت النقابات تطورات كبيرة, حتى أصبحت ظاهرة عالمية الطابع وحق عمالي تنص عليه دساتير الدول والمواثيق والمعاهدات الدولية.
تمثل النقابة العمالية حاجة موضوعية للعمال, فهي الوعاء التنظيمي الذي يمنح العمال إحساساً بقيمة وجودهم كتكوين اجتماعي طبقي وكوحدة تضامنية.
ويفترض أن تنشأ النقابة العمالية على أساس الإرادة الحرة للعمال دون تدخل الدولة وأصحاب العمل, كما يفترض بها أن تكون مستقلة وتقوم على أساس ديمقراطي وبشكل علني.
ويقع على عاتق النقابة القيام بالعديد من المهام والأدوار, فهي معنية بالدفاع عن حقوق أعضائها وتبني قضاياهم وتمثيلهم في مواجهة رب العمل والسلطة السياسية وإزاء القوى الاجتماعية الأخرى, كما تُعنى بتوعية العمال وتثويرهم لانتزاع حقوقهم المشروعة والحصول على الأجور العادلة والإجازات المدفوعة الأجر وتحسين ظروف العمل وتخفيض ساعات العمل والحصول على التأمين والضمان الاجتماعي والتعويض العادل في حالة الإصابة, فضلاً عن ضرورة قيامها بتقديم الدعم والرعاية لأعضائها في الظروف الصعبة, وحمايتهم من صنوف القهر والعسف والاستغلال, ورفع مستواهم المهني, والمشاركة في رسم السياسات الاجتماعية التي تضمن للعمال وللمجتمع بصفة عامة حياة كريمة.
وعرفت الحركة النقابية في العالم اتجاهات متباينة ومتصارعة يمكن حصرها في اتجاهين رئيسيين, هما: الاتجاه التريديونيوني, والاتجاه الثوري.
الاتجاه التريديونيوني (الإصلاحي):
يحصر مهام النقابات في النضال المطلبي, كالمطالبة برفع الأجور وتحسين شروط العمل وتخفيض ساعات العمل والحصول على التأمين الصحي والاجتماعي والتعويض في حال الإصابة, ويرفض النشاط السياسي للنقابات بدعوى أن النقابات منظمات حيادية.
وقد كانت النشأة الأولى للنقابات العمالية في العالم ذات طابع تريديونيوني (إصلاحي) نظراً للظروف الموضوعية السائدة حينها وبساطة الوعي العمالي.
ومع اتضاح حقيقة التحالف الوثيق بين الرأسمال والسلطة السياسية ضد العمال, بدأ هذا الاتجاه يضمر ويفقد قدرته في الانتصار لقضايا العمال, وبالتالي بات نشاط النقابات “التريديونيونية” ــ وفقاً لفريدريك انجلز ــ يمثل سلسلة طويلة من هزائم العمال, يتخللها القليل من الانتصارات المنفردة.”
الاتجاه الثوري:
ظهر هذا الاتجاه ونمى بعد أن وصل الاتجاه التريديونيوني إلى حالة إفلاس كما رأينا. وانطلق من مبدأ تأسيسي مؤداه: ليس بمقدور النقابة العمالية على مواجهة التحالف الوثيق بين الرأسمال والسلطة السياسية وتنتصر للطبقة العاملة ما لم تجمع بين النضال المطلبي والنضال السياسي في وحدة جدلية متسقة.
وقد عرفت الحركة النقابية في اليمن كلا الاتجاهين, كما سيتضح ذلك لاحقاً.
ii. والنقابة العمالية والنقابة المهنية والمنظمة الجماهيرية.. هل ثمة فروق بينها؟؟
يخلط الكثيرون بين الأشكال التنظيمية الثلاثة: النقابة العمالية والنقابة المهنية والنقابة الجماهيرية, ومن أجل ذلك ارتأينا توضيح الفروق الأساسية بين كلِ منها وعلى النحو الآتي:
النقابة العمالية: تضم في صفوفها ــ حصراً ــ العمال المأجورين بغض النظر عن نوعية القطاعات والمؤسسات التي يعملون بها.
النقابة المهنية: وتشمل أعضاء من أصحاب المهنة الواحدة، مثل: نقابة الأطباء، نقابة المهندسين، نقابة المعلمين … الخ.
المنظمة الجماهيرية: ينضوي في صفوفها أعضاء ينحدرون من مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية, وتجمعهم أهداف وقواسم اجتماعية وفئوية مشتركة، مثل: اتحاد النساء، واتحاد الطلاب, واتحاد الشباب, واتحاد الكتاب والأدباء… إلخ.
ودراستنا هذه مكرسة بدرجة رئيسية للنوع الأول “النقابة العمالية”, لكنها لا تغفل عن العلاقة النضالية الوثيقة التي جمعتها وتجمعها بالنقابة المهنية وبالمنظمة الجماهيرية.
نشأت النقابات العمالية في اليمن لأول مرة في مدينة عدن مطلع خمسينات القرن المنصرم. وقد نمت في بداية الأمر بصورة بطيئة؛ نظراً لطبيعة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة آنذاك, وضعف الوعي الطبقي للطبقة العاملة وعدم الإدراك بأهمية العمل النقابي كأداة لتحقيق أهدافها والدفاع عن مصالح وحقوق أعضائها.
وشهدت الحركة النقابية العمالية اليمنية طوال تاريخها المديد الكثير من التحولات, فقد حققت صعوداً ناهضاً خلال مراحل تاريخية معينة وبخاصة الفترة الممتدة (1957 – 1967م) التي ترافقت مع تصاعد زخم النضال الثوري والتحرري في الجنوب والشمال على السواء, وأسفر عن اندلاع ثورتين عظيمين هما: ثورة 26 سبتمبر 1962م التي طوت صفحة النظام الإمامي الثيوقراطي في الشمال, وثورة 14 أكتوبر 1962م ضد الوجود الاستعماري في الجنوب, وصولاً إلى تحقيق الاستقلال الناجز في 30 نوفمبر 1967م.
كما مُنيت الحركة النقابية في اليمن بنكسات وإخفاقات خلال مراحل تاريخية عديدة بفعل عوامل سياسية بدرجة أساسية.
في الحلقة القادمة عرض لأبرز التحولات والمحطات التاريخية التي شهدتها الحركة النقابية العمالية اليمنية.
يتبع...
الهوامش والإحالات:
[9] عمر الجاوي, الصحافة النقابية في عدن (1957 – 1967م), مؤسسة 14 أكتوبر, عدن, (د.ت), ص5.
[10] فيتالي ناؤومكين, الجبهة القومية في الكفاح من أجل استقلال اليمني الجنوبية والديمقراطية الوطنية, دار التقدم, موسكو, 1984م, ص19.
[11] عبدالله علي مرشد, نشوء وتطور الحركة النقابية والعمالية في اليمن, دار ابن خلدون – بيروت, وزارة الثقافة – عدن, ط1/ 1981م, ص112.
[12] ايلينا جولوبوفسكايا, ثورة 26 سبتمبر في اليمن, ت: محمد قائد طربوش, دار ابن خلدون, بيروت ــ لبنان, ط1/ 1982م, ص127.
[13] نفسه, ص43.
[14] نفسه, ص127.
[15] نفسه, ص77.
[16] ينظر: نفسه, ص130.
[17] ينظر: نفسه, ص61.
[18] بتصرف: سعيد الجناحي, أوائل المغتربين وحكايات العبور إلى الوطن, مركز عبادي للدراسات والنشر, صنعاء, الطبعة الأولى, 2002م, ص175
[19] ايلينا جولوبوفسكايا, مرجع سبق ذكره, ص137, 148.
[20] ينظر: نفسه, ص59 – 60.
[21] نفسه, ص130 – 131.
[22] نفسه, ص132.
[23] فيتالي ناؤومكين, مرجع سبق ذكره, ص22.