المواطن/ كتابات – طه العزعزي
من يعرف الروائي والقاص اليمني الكبير وجدي الأهدل عن قرب دون أن يكون قد قرأ له أي مجموعة قصصية أو أي رواية من الروايات التي أبدعها ، سيشك في مقدرة هذا الرجل في كتابة وصياغة قصص وروايات كالتي أجاد كتابتها ، من بينها هذه التي بين يدينا مجموعة قصص ” ناس شارع المطاعم ” التي صَدرت عن دار ” أروقة ” في مصر عام 2017م ، فوجدي الأهدل ما إن تلتقيه لأول مرة ، ستحس بمدى المساحة التي سيعطيك إياها هذا الكاتب المتواضع للتحدث ، تستطيع أن تثرثر أمامه كثيراً كعجوز هرم ، تستطيع أن تمسك بجميع خيوط حديث الكلام العادي والأدبي أيضاً ، وهكذا لن تزيد عدد كلمات هذا العملاق الكبير عن عدد كلماتك التي ستطلقها ، إن القاص والكاتب وجدي الأهدل عرف قيمة الصمت كرياضة عقلية وذهنية ، لذا هو كاتب وقاص ومثقف ممتلئ على عكس كثيرٍ من الأدباء والمثقفين الغوغائيين ، الذين يعومون في مستنقعات الكلام المحموم .
في هذه المجموعة ” ناس شارع المطاعم ” التي نحن بصدد الحديث عنها ، إلتقيت _ ليس للمرة الأولى _ في الشارع المذكور بالقاص الجميل وجدي الأهدل من أجل أخذها كثالث عمل قصصي أقرأها له بعد مجموعتيه القصصيتين الجميلتين ( رطانة الزمن المقماق ، ووادي الضجوج ) ، في هذا الشارع أيضاً وأنا أمعن في أخذ هذه المجموعة القصصية من يد القاص المدهش وجدي الأهدل قطعت عليه وعداً وأنا أبتسم خلال ذلك اللقاء بأنني سأقرأ هذه المجموعة وسأعيدها إليه في أقرب وقت ممكن ، ولكنني بعد أن تلذذت بطعامة هذه القصص ” الأهدلية ” الرائعة ، قررت أن أحتفظ بها طوال جوعي المستمر لقراءة وإلتهام مزيداً من الروايات والمجموعات القصصية ، أنا أيضاً لص كتب محترف ! ، هكذا حدثت نفسي وقد وقعت بين يدي هذه المجموعة القصصية اللذيذة .
في هذا العمل القصصي ، نجد أننا أمام “ناس ” و ” شارع ” أيضاً هو ( شارع المطاعم ) الذي يعتبر عن حق لسان مدينة صنعاء ، وهو شارع ٌ مختلف ، لذلك نجد أن القاص وجدي الأهدل أجاد كيفية وصف هذا الشارع عبر شخوص هذه المجموعة كلاً من منطلق وفضاء مارءاه ، فمكي بطل القصة الأولى ( المتصل بالطبيعة ) يرى بأن شارع المطاعم من ” الناحية الفلكية ” ” يقع تحت تأثير برج الدلو” ، الذي يجذب الشباب المحب للحرية والطبقة المثقفة ، ويكون الجو في هذا النطاق مُولِداً للأفكار الجديدة والصراعات الغريبة ” ، ولكن بطل قصة ( حياة بلا ثقوب ) يرى بأنه “شارع فرعي مسدود ، قذر ، ومزدحم في الصبح والمساء ، ودائماً هناك صياح وضجيج لايهدأ يصدر عن جيرانه ، وهم أصحاب المطاعم ومحلات بيع الشاي بالحليب ” ، أما ” عبير ” الفتاة المتسولة فإنها ترى أن هذا الشارع ” السد ” كما تصفه ” يشبه عشاً كبيراً للطيور ” ، أو كما تقول ” كنا نذهب إلى شارع المطاعم ، في قلب المدينة ، وهناك نفطر بالطعام الذي يجود به علينا النُدل والطباخون ، كنا نكسب جيداً ، مايكفي لدفع إيجار المسكن والماء والكهرباء ” ، وفي هذا الشارع أيضاً يلتقي ” الإنتحاري ” بشيخ _ٍ رمز له المؤلف بالرمز (م ) _ أثناء جلساته مع عدد من ” شبان الحارة الملتزمين ” الذي قام هذا الشيخ بإستقطابه في التنظيم ، أيضاً عن هذا الشاعر وبطريقة فلسفية يتحدث حسن القوطي قائلاً ” إن فيه روحاً تواسي الحزانى والمتعبين من الحياة . الذين يأتون إلى هذا الشارع هم غالباً أشخاص خسروا شيئاً ما .. وحين يجد المرء أمثاله تستريح نفسه وتهون عليه خسارته ، إذ بعفوية ودون تخطيط يتقاسم أحزانه مع الآخرين وحتى دون كلمة واحدة ” ، هو أيضاً كما يقول حسن القوطي ” شارع المهزومين ، وليس للهزيمة ذاك المعنى السلبي .. أحياناً يسعى الإنسان إلى الهزيمة بإرادته .. ولعل هذا هو خياره الذي يمليه عليه ضميره ” .
إن شخصيات هذه المجموعة تعاني من الضياع الحائل إلى التشرد وإلى ماهو أعظم من ذلك ، إنها شخصيات متعثرة ومرتبكة وفي صراع دائم وعنيف مع الواقع ، لذلك نجد أن هذه الشخصيات في كفاح دائم على ( أن تكون أو لاتكون ) كما يقتضي المفهوم الوجودي للإنسان .
يشكل القاص وجدي الأهدل عوالم قصصه المختلفة بأبعادها الفكرية والفنية وبتكوينها الثقافي . متكأ على الواقع في رسم شخصياته ذات الصفات والأسماء التي تتطابق جيداً على مستوى اللفظة اليمنية ( القوطي ، المُتحكك ، العصاد ) ، أيضاً يبرز مدى إرتباط شخصيات هذه المجموعة بمستوى التفكير الوجودي و الثقافي المستمد غناه من طبيعة التجربة التى تخوضها هذه الشخصيات ، لذا نجد أننا أمام أفكار وثقافات كثيرة موسومة ( بثقافة الوهم ، والعنف ضد المرأة ، والغوغائيية الدينيه ، البرجماتيه النفعية ، العدميه ، وفلسفة الوجود ) ، عبرَ عنها القاص وجدي الأهدل بلغة سردية في أتم لذتها وفنيتها ، مفسحاً في سرديته هذه ذكر الشارع كفضاء مكاني والتعبير عنه وعن ناسه بلغة حادة غالباً ماتتمثل الإنفجار إذا إستدعى موطئ الحدث والإنفعال الوجداني ذلك .
وفي هذه المجموعة أيضاً ، إنطلاقاً من راهنية واقعنا الفوضوي والمزري هذا ، عَمل القاص وجدي الأهدل على تخيلٍ لإستشراف مستقبلي بجهد لامردود ، نجد هذا الإستشراف في قصتيه ” ثورة الريحان ” و ” الوضع الأخلاقي في عام 2100″ ، هنا في هذين العملين يطير بنا وجدي الأهدل صوب زمن غير الذي نحن عليه الآن ، ولكنه في هذا الزمان لايتزحزح عن المكان الذي هو ” شارع المطاعم ” .
في ثورة الريحان إنطلاقاً من عام 2011م وحتى عام 2021 ، نجد أنفسنا أمام إستشرافات متتالية يصف فيه القاص مآل ثورة فبراير التي بدأت عام 2011م والتي قام برسم مآلاتها المتتالية بدءً من عام 2011 عام الثورة و حتى عام 2021 العام الذي ستقوم به ” الحكومة الجديدة مشكورة بطبع مجلد تذكاري عن شهداء الثورة ” ليكتشف السارد أنه وجد نفسه أحد شهداء الثورة المذكورة أسمائهم في المجلد التذكاري فتنتهي القصة أيضاً برمي هذا المجلد والإعتراف بحقيقة الأمر الكائن فعلاً ” حقيقة لا أتذكر أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث ” ، هذا النتيجة تبقى ربما هي الوحيده للأسف في طريق ثورة كان الكثير يراهن عليها . أيضاً في هذا العمق الإستشرافي نجد بطل قصة ” الوضع الأخلاقي عام 2100″ جالساً ” في مقهى مدهش ، بشارع المطاعم ” يكتفي هذا الجالس فقط بمراقبة البشر ” بتقزز ” وسلقهم بلسانه الساخر ، إضافة إلى ذلك ينضم هذا الكائن ” الساخر ” عبر تتابع حدثي سردي لتشييع ماسورة صرف صحي مع زمرة من المشيعين ، هنا يسلط القاص الأضواء بمهارة كبيرة على وضع المستقبل القائم على المنفعة وتبادلها ، فماسورة الصرف الصحية في نظر باكيها كانت ” أعظم من أي كائن بشري ” و ” أحب إلى قلبي من أي مخلوق آخر على وجه الأرض ” ، والسبب في ذلك بسيط يعدد مناقبها بكل حرفية باكيها فيقول ” واماسورتاه… عشرون سنة وأنتِ تعملين دون توقف ، لم تأخذي إجازة أبداً ، لم تتوعكي وتتمارضي طالبة حضور السباك لمعاينتك طيلة مدة خدمتك .. ماسورتي الأصيلة ، يابنت الحسب والنسب ، أواه ياماسورتي الأعز على قلبي من زوجتي .. يامن كشفت لها عن سوأتي خمس أو عشر مرات في اليوم وهو شرف نلته أنتِ ولم تنله زوجتي البغيضة ، آه كم أنتِ نبيلة ياماسورتي ، تحملي أوساخي بصبر وطيبة خاطر ولم تشتكي أبداً .. أطنان من القاذورات مرت من جوفك ولم تطالبيني بأي مقابل ” ، وهنا نتبين مدى بشاعة العلاقة النفعية التي ستجعل من القطعة المعدنية ماسورة الصرف الصحي ، أفضل من الكائن البشري . بل إن مثل هذا النداء ” واماساورتاه ” الشبيه بنداء ” واعروبتاه ” و ” واإسلاماه ” وو ” عالماه ” دليل على المكانة التي أُعطيت لهذه الماسورة ، ووصفها بالحسب والنسب التي لم تنل شرفه الأم ولا الزوجة والنبل الذي لم ينله الإنسان والخدمة بلا كلل أو ملل الذي لم ينله موظفي الدولة دليل على الفقر الأخلاقي الذي يعمد وجدي الأهدل على رسم صورة له في العام 2100م.
إن وجدي الأهدل كاتب كبير ، أكبر من كل الجوائز كما نعرف ، مضئ بلا حدود ، قطرة نقية ولكنها أعلى من البحر ، رائحة الورد في الحدائق وتمثالاً معجوناً بالضوء ، يدٌ موضوعة هنا على الجرح ، جرح الضياع والتشرد والأخلاق ، ويدٌ أخرى موضوعة هناك ، تماماً بالقرب مما نصبو إليه .
طه العزعزي .