المواطن/ كتابات – أبوبكر السقاف
لا تخطئ حتى العين غير الفاحصة تبين علامات الأفول في الأنظمة العربية القائمة، رغم تفاوت تطورها ونصيب كل واحد منها من الاستبداد. وليس أدل على ذلك من أن غير قطر عربي يبدأ من جديد مسيرة بناء الدولة من كتابة دستور جديد، كما هي الحال في العراق والسودان، ومن الحديث عن ضرورة تجاوز «ديمقراطية» الطوائف إلى ديمقراطية المواطنة السياسية، التي لا تدخل الأعراق، والأديان، والجنس، والمذهب الديني، والجهة الجغرافية في تعريف حقوق المواطن، فتكون الدولة دولة كل المواطنين.
إن أزمة الأنظمة العربية في جوهرها أزمة وجود، وليست أزمة نمو أو تطور، وساعد على جعلها كذلك أن أحد وأخطر علة وجودها آخذ في الاهتزاز، ألا وهو البعد الدولي، فهذه الأنظمة منذ سايكس – بيكو تصنعها الشروط الدولية، ولأنها في الداخل غول مستبد لم تستطع أن تبني، ولو من بعض الوجوه شبه شرعية داخلية، ولذا تبدو حتى قبل أحداث 11/9/2001 عاطلة من السيادة، ولذا لم تقم بمشروع نهضة، فهي بحكم النشأة والتكوين أنظمة أقليات على تنوع غزير في هذه الصفة.
النظام السياسي القائم في اليمن قبل الحرب كان في أزمة مستديمة، ولكن حرب العام 1994م نقلت الأزمة إلى مستوى الوجود، وليس مبالغة أو جموحاً في الخيال الكلام، الذي يتردد منذ سنوات عن مستقبل الصوملة. ذلك لأن المشترك بين البلدين إنما هو احتكار تحالف قبيلي للسلطة والثروة، وتركيز كل السلطات في يد التحالف، وأداة الاحتكار ومصدره الجيش، مصدراً للسيادة قبل السلطات، لأن نهج الحكم يمارس، لاسيما في الجنوب منذ نهاية الحرب السيادة قبل الحكم، لأن الثاني ملحق بها، ومن هنا هذه الملامح الاستثنائية: وجود عدد من الفرق العسكرية لا يتناسب مع عدد سكان الجنوب، الحضور الكثيف للموظفين من غير أبنائه، وتفريغ كل الأجهزة والإدارات منهم، الأمر الذي جعلهم يشعرون بالانزلاق اليومي إلى خارج دائرة المواطنة، كما حدث مع إخوتنا في تهامة منذ عشرينات القرن الماضي. وتزيد وتيرة النهب والعنف الاقتصادية الوضع سوءاً، فهي قد أوصلته منذ بضع سنوات إلى درجة الاختناق، وليس ازدياد معدلات الانتحار هناك إلاّ تعبيراً عن درجة اليأس القاتلة، التي أودت بحياة أكثر القادرين على الإنتاج، وصنع الخبر من المدرسين والجنود، والضباط، والموظفين، والفنيين في غير مجال. فالقمع والحرمان، ثم الإلغاء كان ولايزال بحجم دولة وبلد ومجتمع، إنه في جوانب عديدة منه يشبه ما فعله بول برايمر عندما حل الدولة في العراق، لصوغ عراق يكون جزءاً من خريطة جديدة تعدها دولته للمنطقة العربية. هل درس برايمر تجربة الوحدة اليمنية الرائدة، التي توزع خبرتها على الدول التي تعاني من ويلات التجزئة، ليرشدها إلى جنة وحدتنا.
إن عدم القدرة على اكتشاف ويلات وحدتنا أقوى برهان على وطأة الأيديولوجية التي تعمي، ولذا عدت وعياً زائفاً، لأنها لا ترى الواقع، بل تصورها للواقع.
طرحت الفدرالية قبل أشهر من توقيع وثيقة العهد والاتفاق في عمان، وقيل فيها أكثر مما قاله مالك في الخمر، إذ أعلن شيخ تكفير معروف في الإصلاح أنها مقدمة لنشر الكفر في المناطق اليمنية، لأنه لا يرى إسلام اليمنيين إلا في وجود حكم مركزي خانق، يمارسه مسلم وفقاً لتعريفه الإسلام الرسمي، وتحدث المؤتمر عن مؤامرة على الوحدة من قبل شريكه، الذي كان يعد العدة مع الإصلاح لإخراجه من المجال السياسي برمته.
لا تعرف الذهنية السياسة العربية الإسلامية الحكم إلا ملكاً وامتلاكاً كاملاً للمشيئة والإرادة والفعل، ومن هنا فإن كلمة سلطان تغني عن الشرح، إذ توحد الحكم نظاماً وإدارة بالفرد صفة ومصدراً في الدلالة اللغوية، وجبروتاً في الممارسة اليومية، لاسيما وأن الاستبداد الذي ساد في عصور الانحطاط، خلا حتى من مبدأ التفويض الذي جعله بعض فقهاء الإسلام (الماوردي) أسلوباً للإدارة.
أذكر أن أبا الأحرار الراحل أحمد محمد نعمان كان يقول مبتسماً، في القاهرة في منتصف الخمسينات إن الإمام يغضب عندما نقترح عليه تشكيل وزارة يرأسها، لأن في ذلك انتقاصاً من شأنه ومقامه. والأمر إذاً في التصور الذي يجعل أي تنظيم نفياً للملك، وهذا جوهر القضية والمشكلة التي طال امتدادها في الزمان، في اليمن، فتغيير الأسماء والأوصاف لم يلغ طبيعة العلاقات القائمة بين الحاكم والمحكوم. ولب كتيب «مطالب الأحرار» (النعمان والزبيري) هو اللامركزية.
يعترف اليوم شيخ التكفير، الذي ساهم بهمة ونشاط مع شيخ حزبه في تدمير الجنوب بالحرب وبعد الحرب، بأن المواطنين لو استفتوا على الوحدة سيصوتون بـ لا . وهذه حقيقة أصبحت شديدة الوضوح حتى للذين لا يتابعون الشأن العام، فقد تناسلت أخطاء البداية التي انطوت عليها الوحدة الفورية الاندماجية، حتى بلغنا هذا الأفق المسدود، والواعد والمبشر بالكوارث.
النظام في أزمة وجود عمقتها وفاقمتها الحرب في جبال صعدة، وثبت أن اللعب بالنار خطير وقاتل. قد يُنصح النظام بالعودة إلى لعبة الكراسي الموسيقية التي أجادها منذ اليوم الأول لدولة الوحدة المباركة، فيلجأ إلى توظيف قضية الجنوب للخروج من الأزمة، وكان إعلان دعوة العطاس السياسي الرشيد والكفيء لحضور «عيد» الوحدة في المكلا بداية العودة إلى تلك اللعبة. والمفروض ألا يلدغ المؤمن من جحر واحد حتى مرة واحدة، وكان عدم الاستعجال منه حكمة. فمن الواضح أن شيخ التكفير، الذي تذكر أنه «عدني» يناور مثل السلطة بقضية الجنوب، التي ينكرون وجودها، ويدمغون من يقول بوجودها بالانفصالية والحرب على الوحدة، مع أن جميع المواقف اجتهاد ورأي ووجهة نظر .
يجب أولاً إخراج قضية الجنوب من مجال المناورات، والاستقواء بظروف الأزمة إلى مستوى الحق، وتقدم أبنائه للدفاع عن هذا الحق، فجلادو الأمس لا يمكن أن يكونوا منقذي اليوم، فمشعل الحرائق ليس إطفائياً منقذاً. فليس المطلوب إعادة تأهيل مشعلي الحرائق، ليكونوا إطفائيين صالحين، بل خلق شروط سياسة مدنية سلمية ترغمهم على الكف عن توظيف القضية، والمشاركة في حلها، لأن هذه المشاركة وحدها يمكن أن تنقذ لا النظام بل الدولة، التي تشير علامات كثيرة على أنها بلا مستقبل. وهذه ثمرة الحكم بالأزمات، ونهج دولة الحروب الأهلية.
عقدت في نوفمبر 1993 ندوة في هاواي بمبادرة من مؤسسة كارينجي، شاركت فيها الولايات المتحدة، وروسيا ، وبعض دول شرق أوروبا، وصدر عنها تقرير «كون»، وفحواه أن تجربة سويسرا، وأسبانيا (فرانكو) والهند، تؤكد أن الفدرالية تحول دون نشوء نزاعات سياسية، كما تضمن الاستقرار، وأن الإقصاء، والاستبعاد القانوني والفعلي لأية جماعة عن المشاركة في إدارة الدولة يؤدي إلى قدح شرارة المطالبة بحق تقرير المصير. إن الصياغات المفرطة في عدوانيتها كثيراً ما تكون استنفاراً لاندلاع الصراع.
وهل هناك ما هو أكثر إفراطاً في العدوانية على المنطق، ورشد السياسة المدنية العقلانية من الفورية الاندماجية، التي عبدت الطريق إلى الجحيم، أليس عدواناً اتهام من نادى بعدم الاستعجال بخيانة الحلم، وعدم الوفاء للتاريخ. ألم تثبت الفورية الاندماجية، أم الوحدة بالحرب، صدق قول عربي قديم «من طلب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه».
إن مقتل «الفكر السياسي اليومي» عند ساستنا أنه ارتجالي بامتياز، بدوي بامتياز، ونفي كامل للعقل الجمعي. أما الفدرالية فهي لم تنقذ دولاً متعددة القوميات والثقافات بل دولة قومية موحدة بالعرق والمذهب الديني والثقافة مثل ألمانيا الاتحادية، وأمريكا الشمالية التي انصهرت فيها أقوام وأعراق وثقافات في دولة سياسية واحدة لمواطنيها.
المخلاف وصف فلكوري تاريخي لكلمة الفدرالية الحديثة، المحملة بدلالات قانونية واضحة، والمسألة ليست في الكلمات، والمواثيق والعهود، فقد تعودنا أن يضرب بها عرض الحائط، بعد أن تقوم بدورها، وأما انتعاش سوق قوانين الشرف، والانقاذ في الكلام السياسي في بلادنا في الأشهر الأخيرة، فهو دليل تفاقم أزمة وجود النظام. بيد أن المهمة هي الانتقال من ذهنية التبشير إلى العمل السياسي المدني السلمي: الاعتصام، والتظاهر والمسيرات، وجمع التوقيعات. المطالبة بالفعل إلى جانب المطالبة بالقول، ذلك لأن الفكرة تصبح قوة مادية عندما تتغلغل في وعي الجمهور، ويعيها في مستوى الممارستين النظرية والعملية معاً.
يجب الحرص على عدم خروج العمل السياسي عن دائرة السلم، والعقلانية والمدنية، إذ تكفينا درجة الغليان من العدوانية التي تحقق بها السلطة حياتنا ومشاعرنا وأفكارنا، والنبرة العدوانية بداية العنف المادي. وهذا مرفوض تحت أي شعار كان، لأن الوسيلة تشكل الغاية.
لا توجد جهة جغرافية في اليمن غير ساخطة، كما لا توجد طبقة/ شريحة/ فئة/ اجتماعية غير ساخطة بما في ذلك التجار الذين نشر اتحاد غرفهم بياناً حكيماً ونذيراً. إن قاعدة النظام تضيق بدلاً من أن تتسع منذ سنوات، بسبب الجشع والإفراط فيه، لأن النهب السمة المائزة للأنظمة الاقتصادية التقليدية، التي لا تستفيد من العصر الحديث، إلاّ لتحسين طرق الجباية. لم تكن هذه البلاد بعيدة عن الاندماج الوطني، والوحدة، والسلام، كما هي اليوم.
إن ما يسمى بـ «الإصلاح» لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أصبح تغييراً شاملاً، لأن البنية الدستورية – القانونية – الإدارية القائمة منذ يوم 7/7/1994 جاءت بانقلاب على الدستور، والديمقراطية، والسلم، التغيير لا يقبل الترقيع، أو الاتفاقات الملتبسة، أو تصوره استبدالاً لشخص أو أشخاص بآخر أو آخرين، أو جماعة بجماعة.
الإصلاح شعار ممكن التحقيق في بيئة قانونية وثقافية مستقرة تعرف أسلوب الإدارة بالمؤسسات. ذلك لأن الديمقراطية ممكنة في مجتمع ديمقراطي، لأن الناس إذ يمارسونها تنتجهم كما ينتجونها، إنها كما في قول أحد المؤرخين مثل الدين، لا يمارس إلا في وسط متدين، فهي إذاً نمط حياة، وأسلوب وجود، وليست مواسم ومناسبات دورية، كما هي الحال في «ديمقراطية» الانتخابات.
إذا لم يكن التغيير معادلاً في العمق والشمول لأزمة الوجود التي تخترم النظام، فإن أي حل دون هذا لن يكون إلا استمراراً له بوسائل جديدة، ولكنها لن تخرجه عن أزمة الوجود. إن المطلوب ليس أقل من عقد اجتماعي جديد، يحرر الجميع ثم يوحد الجميع.
تردد شعار حق تقرير المصير بقوة في الخارج (بريطانيا) منذ العام 1997، واستمر لغط تصحيح مسار الوحدة محتدماً في وجه الإصلاح السياسي، الذي يراد به إلغاء شعار التصحيح، ولم يفطن رافعو الشعارين داخل الاشتراكي وخارجه، أن شعار تقرير المصير قد تجاوزهم نظرياً، ولكن الأهم أن الوعي الذي نضج على نار الطغيان الاقتصادي والسياسي والرمزي في وجدان وعقل الجنوبيين تجاوزهم عملياً، بل إن كثيرين في المحافظات الشمالية يتعاطفون مع هذا الشعار.
قطار الوعي السياسي بالمشاكل المحورية المصيرية في الحياة السياسية العربية يأتي إن أتى متأخراً دائماً. يكفي أن ننظر إلى حيرة وارتباك ومغالطات البعث السوري، لنتذكر قول الكاتبة الروائية السيدة جورج اليوت (اسم مستعار) إن هناك من لا يتعظون «إلا في لحظات الدمار الشخصي والعام، أي بعد فوات الأوان».
أما المواطن فهو في أفق آخر، فما من شيء في نظره أمرّ من أن يرى وطنه يموت.
أزمة الوجود مركبة وشاملة وتطحننا برحاها، والأمل في الخلاص معقود بخيط واه. الممانعة العربية في وجه التغيير قوية، لأنها تصدر عن غور بعيد في «الشخصية الأساسية» ولذا فهي تجمع الفرد السلطان، والطبقة السياسية الحاكمة وتدمجهم في وعي مشترك جامع.
والخيط الواهي قد ترفعه المصادقة التاريخية إلى مستوى الضرورة، فقد نتعلم من حكمة الصين. يقول من يعرف اللغة الصينية إن كلمة الأزمة تحمل في وقت واحد دلالتين: فهي تعني أزمة وإمكاناً للحل. لكل لغة عبقريتها. وهذه عبقرية الصينية. ويبقى السؤال: هل يتعلم من يفكر داخل لغته حصراً عبقرية لغة أخرى؟ ثبت في التاريخ العام أن الثقافات عندما يكون أصحابها ضيوفاً (ماسينيون) عند بعضهم بعضاً يمكن أن يتعلموا الكثير. هذا الخيط الواهي يشير في وقت واحد إلى التشاؤم والتفاؤل.
وعلى أية حال أقول مع جوجل في مسرحية «المفتش العام»: إذا كان الوجه قبيحاً فلا تلم المرآة. فشلنا حتى اليوم في إزاحة كل ما يتعارض جوهرياً مع العالم من حولنا في أنفسنا وفي واقعنا، وفي عقولنا.
نعم. علينا أن نحسن ونهذب ملامح الوجه، قبل عرضه على المرآة.