المواطن/ كتابات – محمد فائد البكري
يزعم البعض أن الدفاع عن القومية اليمنية وإحياءها ليس إلا إحياء للقيم المناهضة للمشروع السلالي المتغوّل على المجتمع، والهوية الجامعة.
ونسي هؤلاء أن ما يدعون اليه هو أيضا تغوّل على المجتمع، وإحياء لعصبية خارج العصر وخارج ما يحتاجه الواقع. وضد القانون، وضد قيم التعايش و السلام.
في مفهوم القومية:
كانت القومية العربية في زمنٍ ما إطاراً موضوعيا للدفاع عن الذات الجمعية بمواجهة المحتل، ولعبت دوراً فاعلاً في العبور على التباينات المجتمعية و الهويات الصغرى، وأصبحت مجالاً حيويا لمفهوم الأمة في معركتها مع الإحتلال. ونشأ مفهوم العروبة كمرادف له في الأدبيات السياسية. وبعد نجاح حركات التحرر الوطني في طرد المحتل، انكفأ مفهوم القومية وأخذ طابعاً وطنياً بحدود الجغرافيا السياسية التي نشأت عنها قومية قُطرية، مالبثت أن تضخمت إلى حد الشعور بالتمايز بين الدول العربية، وكوَنت هويات قُطرية موجههة بقوة السلطات السياسية الحاكمة، وبالنتيجة لذلك بدأت حدود مفهوم القومية تتقلص و شرع مدها العاطفي ينحسر لحساب مفهوم الوطنية.
وظهرت الشخصية الاعتبارية للدولة القُطرية، بمحدداتها القانونية المعترف بها في منظومة الأمم المتحدة. وبقي شعار الوحدة العربية الشاملة حلماً تتغنى به الشعوب العربية، و عاطفةً قوميةً قارة في الوجدان الجمعي للأمة العربية.
كل ذلك عرضٌ سريعٌ لتاريخ مفهوم القومية في سياقه العربي، وبكل ما أصابه من تآكل، ظل مفهوماً يحظى بالتعاطف الشعبي، و يمنح الوجدان الجمعي بعض التعويض النفسي عن الخيبات التي مُني بها مشروع الدولة الحديثة في كل قُطرٍ من الأقطار العربية.
جدل الهوية والقومية:
في سياق الجدل بين الداخل والخارج في دائرة العلاقات الدولية والقانون الدولي، تكوَنت هويات مجغرفة، ونشطت من داخل الجغرافيا هويات ثقافية وإثنية و دينية، شكلت هويات صغرى على حساب الهوية القُطرية الجامعة كما هو الحال في لبنان. ونتج عن ذلك صدامٌ بين الهويات الصغرى،وتآكلٌ في مفهوم القومية الذي صار في الجغرافيا القُطرية يرادف مفهوم الوطنية.
تظهر الهويات الصغرى- وهي هويات عمياء- في ظروف تصدّع الهوية الكبرى وتمزق المجتمعات وتحللها وتفسخها؛ لأنها في لحظة نفسية تستشعر بعض الجماعات خطراً داهماً يدفعها لنبش الجذور و يستنفر قواها ويعمل على تكتيلها وتوجيهها ككيان مستهدف، وغالبا يسلب أهل العقول عقولهم، وتتم تهيئتهم للعدوان على بعضهم بعضا؛ فيتماهون مع أي دعوة طائفية ببعد سلالي أو مذهبي، ويظنون أنهم من خلالها يفرضون على الآخر احترامهم، بل إن البعض من دعاة التمايز يظن أن هذه الدعوات تفرض التوازن الاجتماعي، وتجعل كل طرف يحسب حساب الآخر، ولكن حقيقة الأمر أن هذا التوازن المزعوم ليس إلا صراعا مؤجلا، يراكم شروط اندلاعه، و يعد العدة للمواجهة، أي أنه علاقة تربص، وحالة مهادنة تظل رهينة تكافوء القوى، و تجعل كل طرفٍ مشدوداً إلى عصبيته، مشغولا بهواجس الصراع عن مطالب التنمية.
القومية والشوفينية:
حين تصبح القومية عقدة تفوَق، وشعوراً متحيزاً إلى حد الشطح، يقع المؤمنون بها في شرك الغواية،- بما يشبه غواية الإيدلوجيا – ويفقدون التمييز بين الجانب الضار منها والجانب الضروري لتكوين الهوية. وهكذا تصبح القومية غطاء للشوفينية بكل وحشيتها و صلافتها، وشعاراً يسلب المؤمنين بها قيمة الإنصاف. وينتج عن ذلك خطابات الإقصاء والتنمر والكراهية؛ فتصبح هذه الخطابات وعياً زائفاً بالقومية و عبئاً على الوطن والمواطن، و تهيئ المجتمع للتشظي والصدام.
السلالية والقومية:
بمواجهة شعارات سلالية وتعيينات سلالية مارستها جماعة الحوثي، رفع بعض الشباب على قنوات التواصل الاجتماعي شعارات مضادة تنادي بالقومية اليمنية بحسب زعمهم، وادعوا أنهم الحميريون والسبئيون و القتبانيون والأوسانيون والأقيال والأذواء… إلخ.
وانصرف النداء إلى الاستقواء بالتاريخ، و تنشيط النعرات، وتقسيم المجتمع اليمني إلى قحطانية وعدنانية، ويمانية وهاشمية، وارتفعت بعض الأصوات إلى حد الدعوة إلى طرد كل هاشمي خارج الجغرافيا اليمنية باعتبار أن الحوثيين ومن يدّعي دعوتهم هم دخلاء على البلد وعليهم الرحيل، وإخلاء المكان لأهله!
وهذا الخطاب الذي يظن نفسه مُحِقاً- وكثيرٌ منه يصدر عن كُتّاب ومثقفين وصحفيين وناشطين وحقوقيين ومتعلمين – خطاب تمييزي يزرع الكراهية ولو غلفها بأسباب دفاعية، و صبغها بصبغة هوياتية.
بل إن التواصي بهذا الخطاب يحجب الرؤية ويشحن المجتمع بالضغينة ويشرذم الطاقات والقدرات التي يؤمل منها أن تبني دولة مواطنة، وتدخل بمواطنيها عصر العولمة.
قد يكون من المقبول أن مستوىً من التباين ضروري لحيوية المجتمع، و قد يبدو مغرياً ومحفزاً لمعرفة الآخر المختلف داخل المجتمع و إدراك خصوصيته، من قبيل أن الاختلاف قد يعلمنا كيفية الإئتلاف والتعايش، ويفرض علينا المسارعة لإيجاد صيغة للعيش المشترك، و من جهة ثانية قد يخلق حالة تنافس وتنوع .لكن من المؤسف أننا مجتمع عصبوي لم ينشأ تنشئة ديموقراطية ويفتقر للقيم المدنية، وغالباً ما تتحول هذه التباينات إلى دعوات تناحر و مهاترات لا مثاقفات، و يتعمق الشعور بالفرقة والاختلاف، و ضمناً تنتج عن ذلك خطابات عدوانية تبني تحيزات وتساعد الخطاب المضاد على تبرير نفسه وتمنحه حجة الاستمرار في التحريض والشحن السلالي والطائفي.
ومثل هذه الدعوات حتى وإن جاءت لاحقة كردة فعل وبهدف مضاد؛ فإنها تتيح للطرف الذي يعيش على الوهم السلالي أن يقوي نفسه، وأن يثبت للمتعاطفين معه أنه مستهدف وأنه أقلية مضطرة للدفاع عن نفسها بالسلاح، وأن عليه التماسك عبر عصبية السلالة بغرض الدفاع عن نفسه، بل وتمنحه حق أن يظهر نفسه كمظلوم وينتج خطاب مظلومية يعتاش به ويجمهر نفسه ويكسب به بعض التعاطف الداخلي والخارجي.
وأما حجة أن الطرف الآخر قد رفع السلاح على المجتمع وسفك الدم، و قسم المجتمع إلى سادة وعبيد، وزنابيل وقناديل… إلخ. و أعاد بناء التراتبية المجتمعية، ويعمل على توسيعها و تغذيتها بالشعارات العنصرية، والمقولات التمييزية، ولاسبيل لإيقاف خطابه السلالي بخطاب مدني، فإن الرد على تلك الحجة يقتضي أن نلتفت لمقاربة جدوى خطاب المدنية، وخطاب الكراهية المضاد والترجيح بينهما، وفي الخلاصة سنجد أن الممارسات الحوثية و نشوء ما يسمى بالهاشمية السياسية لا يبرر أن يكون الرد عليه تنمية لعصبية من أي نوع، ولا يبرر أن يوصف الخطاب الحوثي بخطاب الغرائز ويكون الرد عليه بخطاب الغرائز.
ومهما يكن من الحوثي فإنه يكون قد نجح لو انجر الآخرون إلى العداء والاستعداء و إنتاج خطاب إقصاء وتحريض.
وعلينا أن لا ننسى أن المواطن اليمني هو الضحية،حتى وإن وُجِد بعض الحمقى المزايدين على الوطن والمواطن؛ فعلينا أن نرفع خطاباً عابراً للتمايزات، خطاباً يعيد الإعتبار للشراكة في الوطن، ويعود بالنفع علينا في عمومنا كمواطنين يمنيين، ولابد أن تتظافر الجهود حثيثةً في سبيل إنتاج خطاب المواطنة لأنه ما من خطاب غيره يمكن أن يعيد دمج المجتمع وتنظيمه وبنائه على أساس التعايش والتنوع.