المواطن/ فن – هويدا اليوسفي
مثًّل فلم 10 أيام قبل الزفة للمخرج اليمني عمرو جمال ، الذي عرض و ما يزال في مدينة عدن حدثاَ ثقافياَ استثنائياَ حرك المياه الراكدة في الوسط الثقافي اليمني ؛ إذ لم تشهد البلاد حراكاَ ثقافياَ بهذا المستوى منذ ابتداء الحرب في السادس والعشرين من مارس 2015 م ، فقد طال الجمود الحياة على كافة المستويات منها المستوى الثقافي ، في وقت ارتفع فيه صوت الرصاص ،و نالت صورة الموت مرتبة الصدارة في سُلًّم الأحداث ، فامتلأت قلوب اليمنيين الآما و جراحا ، وفي عتمة هذه الأحزان يظهر هذا الفلم كشعاع من نور يضيء؛ فتأنس به القلوب ، ويتجدد الأمل باستمرار الحياة ، فقد وجدوا فيه متنفسا لهمومهم و آلامهم الكثيرة ، فللفن سحره الذي يسلب الألباب، فلا عجب إذن أن يلقى اقبالاَ جماهيرياَ واسعاَ أدى الى استمرار عرضه حتى الآن ، متجاوزاَ الزمن الذي حدد لعرضه في مدينة عدن ؛ ليعرض من ثم في بقية المحافظات الأخرى ؛ وهو أمر أظهر مدى تعطش اليمنيين للفن و الثقافة ، للحياة بعد موت جرته حرب عبثية من مكمنه.
يصور الفلم جانباَ من مآسي الحرب، التي وإن توقف صوت صواريخها ومدافعها في مدينة عدن ، فإن الشعب مازال الشعب يكتوي بلهيب أضرارها الجسيمة ، و نتائجها السلبية ، فكما تركت خلفها ركاماَ من البيوت المهدمة ، و الأسر المشردة ، فقد تركت أيضا ركاماَ من القلوب المحطمة ، و النفوس المتألمة ، و شباباَ حائراَ يريد أن يحيا حياة طبيعية كريمة، ولكن العقبات تحاصره من كل مكان، فالخطيبان اللذان أرادا إتمام الزواج بعد تأجيله بسبب اندلاع الحرب يجدان كل شيء قد تغير أمامهما ، والحياة أصبحت تقسو عليهما كل يوم أكثر فأكثر، أحداث تراجيدية تتصاعد وتيرتها حد الاختناق ، تختزل صراعاً نفسياً عميقاً تعانيه النفس البشرية ذات الفطرة السليمة بين الأمل في العيش الكريم ، و اليأس من شدة الآلام التي تزداد كل يوم، وتمر الأيام العشرة قاسية، وتقترب حلقة الأحزان من الانغلاق، وفي الأخير ينتصر الحب، ينتصر الأمل، وتنتصر الإرادة اليمنية التي تصنع الحياة من رحم الموت، فمهما تعاظمت الأحزان والآلام فإن الأمل باق، والنصر قادم ، ومهما طال الليل فلابد أن ينبثق الفجر .
أبرز الفلم كثيرا من القيم الأصيلة التي اتصف بها المجتمع اليمني ،فحسن الجوار و الصداقة والوفاء والتعاون و الحب قيم نبيلة مازالت جذورها مغروسة في المجتمع، تخفف عن المواطن بعضا من همومه ،كما أبرز دور المرأة اليمنية ، فوسمها بالحكمة و بقوة الإرادة والإيمان و العزيمة، فهي عامة لا تبيع مبادئها و قيمها من أجل المال مهما عانت من ويلات الحروب وتتحمل وحدها أحيانا مسؤولية الأسرة ، وعرض نماذج لهن؛ فبعضهن عاصرن حرب 86 م و حرب 94م، وهذه الحرب الأخيرة ، وتجاوزنها رغم قساوتها ، في حين انكفأ بعض الرجال على أنفسهم لمرض نفسي أو إحباط شل حركتهم، مثلما حدث لوالد البطلة “رشا ” بعد حرب 86 م ؛ فاضطرت والدتها أن تتحمل المسؤولية لوحدها فتقوم بتربيتهم في عناء وفقر شديد .
و رغم الصعوبات التي تحيط بالبطلة من جوانب متعددة ، أشدها قساوة إجبار الوالدين لها لتتخلى عن حبها، فترفض أن تبيع حلمها مقابل المال بالزواج من رجل ميسور الحال ، وتصر على الانتصار لمبادئها و حبها إصرارا غير مجرى الأحداث، وغير رأي الوالدين ، ورأي كل من حولها ، إنها قوة الأنثى صانعة الأحداث، صورة إيجابية مؤثرة للمرأة في المجتمع لعله يغير نظرته القاسية تجاهها .
بُني الفلم على المستوى الفني على محور الزمن في علاقة عكسية ؛ ففي الوقت الذي يبدأ فيه العد التنازلي للأيام العشرة التي تسبق يوم الزفاف ، تتصاعد وتيرة الأحداث ، وتزداد دائرة الأحزان و الهموم تضيقاَ حتى تكاد أن تنغلق ، فيما يعرف بالتصاعد الهرمي للحبكة الدرامية حتى تصل إلى قمة هرم ، ومن ثم تبدأ بالانفراج ، إنها عشرة أيام تختزل حياة شعب بعد حرب ألقت بظلالها على كل شيء سلباَ ، تغير طال الفرد و الأسرة والمجتمع ، وما صورة الخطيبين اللذين يواجهان كل يوم ألم جديد، و محنة أعظم إلا احدى صور هذه المآسي ، مشاهد تراجيدية تتكرر طيلة الأيام العشرة ، لكن الفكاهة التي تخللت الحوار بين الشخصيات استطاعت أن تخفف من حدة الأحداث وقساوتها ، و أن تزيح جزءا من عتمتها، وتعمل على جذب المشاهد و تبعد عنه شبح الملل .
و مشاهد الفلم طبيعية و واقعية ؛ فقد تم تصويره في الأحياء التي شهدت قصفاً و دماراً هائلاً في المباني و الممتلكات، ومنهم بيت “رشا ” ، والمشاهد الأخرى تم تصويرها في البيت العدني، ليظهر صغيراَ بسيطا َ تملأه الأنفس البشرية، ويغمر الدفء والحنان أفراد الأسرة الكبيرة الممتدة ، في صورة للتماسك في حياة الأسرة اليمنية .
وربما كانت لقطة أو لقطتين بجانب البحر تبرز ارتباط اليمني في الجنوب به، فهو عادة ما يشاركه أفراحه وأتراحه، و يبثه همومه و أحزانه ، ويستمع بتأمل لصوت أمواجه و هي تتلاطم انفعالاَ لحالته، و تضفي جمالاَ على لقطات الفلم ، تخفف بها جزءاَ من صور الدمار والخراب التي عرضت .
كان أداء الممثلين رائعاَ قياساَ إلى قلة التجارب والخبرات في هذا المجال، فقد أدى هؤلاء الشباب أدوارهم بتفوق، ولاسيما الشخصيات المحورية، فالبطل ” مأمون ” مأمون الجانب ، فقير ماديا غني بالأخلاق الحميدة و السمعة الطيبة .
وتخللت الفلم أغانٍ وطنية حزينة ترافقت مع التصاعد الدرامي للأحداث ؛ الأمر الذي أثار شجون المشاهدين؛ فقد لمست هذه الأغاني مكنون قلوبهم التي صارت مشطورة بين قساوة الحياة في ظل الحرب وبعدها ، وبين وطن يحبونه ولا يبغون عنه بديلاَ .
بداية موفقة للنهوض الثقافي في اليمن- بعد غيبة طويلة – وفي مدينة عدن بالتحديد، فلربما استطاعت هذه المدينة استرداد جزءٍ من صورتها القديمة المشرقة، ودورها الثقافي القديم ؛فقد كانت منارة للثقافة و الفن، و ملجأَ لفناني اليمن في مطلع القرن العشرين، وقبيل ثورتي سبتمبر وأكتوبر ، إذ كانت تعرف بفتاة الجزيرة .