قادري أحمد حيدر
المواطن – كتابات
مفتتح :
حين أردت الكتابة عن “ذاكرة الشعر أبجدية الإنسان” ، كان حافزي أن تكون ورقة أو قراءة في سوسيولوجيا الأدب ، ولكن لظروف عديدة خرجت في صورتها التي بين أيديكم .
“أبجدبة الروح ذاكرة الشعر” هي سفر إبداعي ينجزه عبدالعزيز المقالح على طريق التأسيس التكويني لمعنى أبجدية الإنسان ، وهي أبجدية لا متناهية من أجل الإنسان … هي ارتياد صعب في درب صيرورة القصيدة المتعبة التي تبحث عن أفقها الإنساني أو عن نفسها ، تقود الشاعر إلى حتفه أو خرابه الجميل -حسب تعبير “أدونيس” -فيه يحاول المقالح اختراق النص الصوفي في صورة وحدة الشهود ، لا وحدة الوجود ، لأنه محاولة لمقاومة الواقع عبر الفناء في الروح ، الفناء والتوحد في الآخر لأن لا وجود للأنا إلاَّ بوجود الآخر.
نصوصه تبحث في الضياع والفراغ عن معنى ، مستأنسة بإشراقات الروح . يبحث عن الإبداعي داخل النفس . الحداثة في شعره ، من أول قصيدة إلى أخر نص في دواوينه الأخيرة ، تحكي قصة أبجدية الروح ، وفي مجموع دواوينه التالية للأبجدية وما بعدها . و حتى قصيدة “أعلنت يأسي” . هي أبجدية تبحث عن الإنسان ، وليست انسحابا من “الحفر على الجدار” التي أطلقها في باكورة الرحلة “سنظل نحفر في الجدار” ، بل مواصلة لذلك الحفر بالكتابة ، بالشعر ، وهو كما تقول د/يمني العيد “مسؤولية إنطاق الصامت اليمني وخلق تعبيره ولغته ، يحاول تحويل المحسوس إلى قول ، والمعيشي إلى كتابة ” من مقدمة أعماله الكاملة الجزء الأول ص15 ، لأنه لم يكن مهجوساً بالحداثة الشكلانية ، في محاولة للحاق بصيحات الموضة الفنية والجمالية واللغوية ، كما هو عند البعض ، بل هي حركة إبداعية ، وعملية فنية جمالية إنسانية تقوم على الحوار الثقافي المعرفي المفتوح مع إشكالات الواقع المعقدة ومع اعتمالات الروح الصافية الموصلة إلى نور الإبداع .
هذا ، حتى وإن كان المدى الواقعي لتحقق ذلك محاصراً كما نتكشفه في نص المقالح الشعري من خلال رحيله الدائم إلى داخل الروح إلى الله ، وإلى داخل ذاكرة الشعر لاستنطاق الجمالي والبحث عن الإنساني فيه ، أي محاولة الكشف عن الظاهر بالعودة للباطني .
مدد، مدد، مدد،
غيرك في الوجود لا أحد
الأزل القديم أنت والأبد
يا سيد الزمان
والمكان
لا شريك، لا ولد
أنت الجمال والكمال
والسلام
والصمد
مدد، مدد، مدد
حين تضيق الروح في الجسد
وينهض العدو من عباءة الحبيب
ناشرا صحائف الحسد
تنهدم القباب في ندى الروح
وتعتري الحياة رعشة
وظلمة من الكمد،
ومثلما تنكسر المياه في النهر
وتطرح الزبد
و لا أحد
* * *
(اغنية للروح / ديوان أبجدية الروح ، الأعمال الكاملة الجزء الثاني /ص)286 .
أبجدية الروح- الديوان والنص- وكل ما تلا ذلك من إبداع شعري ، هو صعود في التشكيل نحو اختزال فضاء الجسد في مفردات قاع الروح الطالعة باتجاه شمس معرفة النفس ، معرفة الله أكثر ، وتصفية لدراما الهيئة الحسية للصورة الشعرية عبر حوار داخلي ، استعاضة عن صعوبة أو قهرية حوار الصمت الخارجي الواقعي الذي يكون ثمنه اغتيال الروح ، ومقايضة العقل والشعر بالرصاصة ، وكأن أبجدية الشعر / الروح ، نص واحد مفتوح يتناسل تقدماً وإبداعاً في جل ما يقوله شعراً ، أبجدية وذاكرة شعرية حاضرة أبداً تغتلي في مرجل المواجهة مع باطل الجسد الساقط نحو الهاوية التي لاخلاص منها إلا َّبتوق الروح المشتعلة حباً في قاع نفس الشاعر ، وهي اللحظة التي يرمم بها الشاعر ما يتساقط من سقف العمر ، وتعب العيش ، وعبث الصداقات وانهيارات معاني الكلم ، حين تتجه أو تتوحد بطوفان الجسدي والأرضي في معناه الزائد عن الحاجة .
فالصداقة والوفاء لها شيء أصيل في تكوين المقالح الذاتي ، ومراراتها قاسية عليه وهو ما يتسرب في العديد من قصائده في دواوينه المختلفة . يكفي أنه جعل من الصداقة عنواناً لأحد دواوينه الشعرية “كتاب الأصدقاء” .
إن أبجدية الروح هي ذاتها أبجدية الشعر ، هي ذاتها أبجدية الإنسان ، وليست نصاً أو ديواناً ، بل مشروع ابداعي مفتوح في عقل المقالح الإنسان : هي ذاكرة الشعر أبجدية الإنسان التي تجدها حاضرة في أخص خصوصياته : ماثلة في الشعر والسلوك الشعري اليومي وفي جل تصرفاته الاعتيادية ، وتتجلى أعمق في صداقاته –كما المحنا- التي تبدأ من ينبوع الصداقة الأول –حسب تعبيره_ في صورة المتنبي الصديق إلى المعري ، إلى النفري ، عبدالله البردوني ، سلمان العيسي ، أدونيس ، عبدالودود سيف ، صلاح عبدالصبور ، إلى الزبيري ، يمنى العيد ، عزالدين اسماعيل ، محمود درويش ، أمل دنقل ، قاسم حداد ، جابر عصفور ، عبده عثمان ، زيد دماج ، أحمد قاسم دماج ، عبدالتواب يوسف، حسن اللوزي ، اسماعيل الوريث ، شوقي سفيق ، محمد عبدالسلام ، جابر عصفور ، عبدالكريم الرازحي ، محمد حسين هيثم ، ، جودت فخر الدين ، إلى صداقاته الشابة المتجددة ، (انظر ديوان الأصدقاء الأعمال الكاملة الجزء الأول) . وهي جميعاً محاولة للإحتماء بالصديق الإنسان محاولة للإحتماء بالأنا الذاتية / الإنسانية وما يوافقها لتتويج كرنفال تيجان الروح في طقوسها الخالدة .
ولعشقه للصداقة والوفاء ، ومحبته للأصدقاء ، أفرد ديون / كتاب كله للأصدقاء فيه الكثير من المحبة ، والقليل من العتب ..
في قصيدة بعنوان : إلى أصدقائي الذين رحلوا عام 1997م يقول :
فاتحة :
يرحلون ..
وتبقى روائحم
ومواقفهم حية
ومعلقة في فضاء القلوب
في الشروق تراهم إذا شعشع الضوء
تلمح أحزانهم في جدار الغروب
بعضهم يترحل في أول العمر
والآخرون يضيئون بالعمر حتى يذوب
(الأعمال الكاملة الجزء الأول ، ص152 من ديوان “بلقيس وقصائد لمياه الأحزان” )
وفي قصيدة بعنوان:
“عندما تنكسر شمس الصداقة
يقول وكأنه يرثي بعض صداقاته .
للصديق الذي باعني أنحني مشفقاً
خاشع القلب أقرأ في وجهه أمسنا
وأخضرار طفولة أيامنا
يا أعز الرفاق
لماذا يصير الندى حنظلاً
والشفاه جراحاً
لماذا تصير اللآئى محار؟
كنت في زمن غير هذا
القبيح التجاعيد
تدخل كالضوء للقلب
لاتتسلل
تدخل مثل الهوى
(الأعمال الكاملة الجزء الثاني من ديوان أوراق الجسد العائد من الموت ص449-450).
وفي قصيدة مهداة إلى الصديق الذي كان بعنوان “أغنية للرماد”
يقول فيها :
قبل أن ترفع الخنجر المتوغل
في الظهر
دعني أراك
فإن دمي حين عانقه
شم في نصله مقطعا منك
أدرك إيماءة للعناق القديم
وأدرك آثار رائحة للصداقة
الأعمال الكاملة الجزء الثاني من ديوان “أوراق الجسد العائد من الموت” ، ص447 .
وفي ديوان / كتاب الأصدقاء يقول عن بعض أساتذته الأصدقاء وعن بعض الأصدقاء .
عن الزبيري يقول :
كان أولنا في البكاء
و أولنا حين يغضب للوطن المستباح
أولنا في الكتابة
أولنا في المهابة
لا يشتهي لؤلؤاً
أو إمارة
عن محمد عبده غانم الأستاذ والشاعر يقول :
في زمن الكآبات
والخوف
كنا نراه ،
نحدق في مقلتيه
فتخضر أيامنا
وتذوب مخاوفنا
عن صلاح عبدالصبور يقول :
لم يكن شاعراً
بل ملاكاً يطير بأجنحة الشعر ِ
كيف ،
ومن أين تدخل آفاقهُ الكلماتُ ؟
وماذا ستمسك من ضوئه
فَنهِ ، أم بساطتهِ
حُبَّه الناسَ في شوقِهم
وبساطتِهم
يا صديقي :
لماذا تعجََّلْتَ موتَكَ
واخترت أن تشربَ الكاس
َ
منفرداً ؟
أنتَ من كانَ يؤثرُ أصحابَهُ
ويقاسمُهم – في المودةَّ-
وردَ الحياة !
(الأعمال الكاملة الجزء الأول “كتاب الأصدقاء” ص292+ 293).
وعن عبدالودود سيف الصديق يقول:
أماَمكَ بحرُ
وخلَفكَ بحرُ
ولم يبق إلا الصعودُ إلى الغيم ِ
فاصعدْ بنا
وأتجِهْ بخيو لكَ نحو فِجاج الفضاءِ
وسَمَّ البلادَ التي خذلتك بأسمائها
وإذا شئتَ فاصنعْ “زفاف الحجارةِ
للبحر”،
وعن حسن اللوزي الصديق يقول :
ساحرُ الحرفِ
يسألُني الآخرونَ :
ترُى كيفَ تهطلُ كِلْمِاتُه
تشكَّلُ تحتَ أنامٍلٍه مثلَما شاءَ
يحرثُ بالمفردات
ويزرعُ أوديةً للقصائدِ والحُلْمِ
حتى استقرَّ على قمةِ
لا يحطُّ عليها الظلام
ْ
(الأعمال الكاملة جزء”2″ “كتاب الأصدقاء” ، ص379)
وعن محمد عبدالسلام منصور الصديق يقول :
كان يخشى من الشعر
يهرب من وجع الكلمات
إذا ما أتته القصيدة
أغلق أبوابه دونها
يبد أن القصيدة ظلت تطادره
وتحاصره بهدير الحروف
فأيقن ألا مفر من الشعر
الاَّ مفرَّ من الاحتراق
وهكذا هو في جميع صداقاته ، سفر ذاتي إنساني لمعنى الوفاء للأصدقاء وللصداقة وستجد عنوان الصداقة حاضرا في العديد من دواوينه،حتى آخر قصائده.
الجديد في “أبجدية الروح” ومعظم قصائد دواوينه التالية ، ومنها ما نقرأه اليوم -في بعض وسائط التواصل الاجتماعي – هو تلك المصادمات الخلاقة والمبدعة بين الأنا والآخر ، الحياة والموت ، الروح والجسد ، الأرضي والسماوي ، الديني والدينوي ، حيث لا تدرك ولا يصبح مفهوماً إلاَّ عبر اتحاده بالأنا الشاعرة الخاصة ذاتها ، وكأن الآخر –وهو كذلك- جزء أصيل من الأنا في تصور عبدالعزيز المقالح الشاعر ، تحديداً عندما يصبح الآخر مشوهاً ومزيفاً ومدمراً للآخر ولنفسه ، ولا يتحقق الخلاص من الجسد ، هيئته وشكله ، إلاَّ بتعالي الروح على صور الانحدارات الأرضية .
والهم العظيم في أبجدية الروح/ ذاكرة الشعر / أبجدية الإنسان، أن مفهوم الموت يقترب من مفاهيم الموت الفلسفية والوجودية الخالدة ، فهو موقف روحي فلسفي يتخطى عقبة الموت المادية كإشكالية في الوعي والنفس ، بعد أن صار الموت في رؤية المقالح محاولة لصقل أو لزرع واستنبات روح المقاومة لإشكالية الموت ، وهو المقدمة الأولى للحياة تجاوزاً للموت “الفيزيقي” وهو المعادل الموضوعي للحياة ، بالتعالي الرمزي / المعنوي لقوة الروح على الموت .
واللجوء هنا إلى اللغة الصوفية وطقوس الحالة الشعرية في واقعيتها الجديدة هو بمثابة استعارة معنوية روحية لمقاومة عبث الجسد أو انحطاط السياسي المازوم في عمومه ، وعجزه عن حل إشكالات الحياة المقدسة ، وفشله المرير في التواؤم والتوافق مع تجليات أحلام الروح الصغيرة . ولذلك يعود الجسد من الموت أوراقاً ، كما في تسميته لأحد دواوينه الشعرية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي ” أوراق الجسد العائد من الموت” .
استعانة الشاعر أو محاولة اتكائه على المفردة الصوفية أو اللغة الصوفية الراقية الشفافة التي تجمع بين الغنائية ، والدرامية العميقة الغور في خفايا الحالة الإنسانية ، هو تعبير عن عجز قاموس اللغة الاعتيادي عن استبطان أشياء الشاعر ومكنونات اللحظة الشعرية في قاع نفسه ، حيث المفردة الصوفية لها عالمها الداخلي وإيقاعها الخاص وإحالاتها الوجودية ، الرمزية والميثولوجية ، والتاريخية الخاصة ، لها مناخها وطقوسها في تكوين إشراقات نفس الشاعر وترطيب وجدانه المحاصر بطقوس الحياة الفاسدة ، حين تصبح الحياة أقسى من الموت .
عبدالعزيز المقالح .. ذاكرة شعرية انسانية متجددة كونها تتأسس وتتكئ على أبجدية إنسانية خالدة تغوص في عمق المعاني لتبدع الجلال الإنساني . ولذلك ، أؤكد القول من أن “أبجدية الروح” هي حالة شعرية حاضرة أبداً في جل ما يكتب وليست خصيصة ديوان واحد ، كما قد يفهم البعض ، هي سلالة شعرية تتناسل في كل ما يبدع شعراً حتى اللحظة ، هي صيرورة شعرية وجودية كائنة فيه : ولذلك فإن أبجدية الروح حالة صيرورة شعرية متسامية متنامية ، هي سمو باللغة ، تألق في وهجها الشعري ، إنها لغة الشعر / والشاعر محبوكة ومرفوعة إلى ذرى روضة القول ، مفارقة لاستخدامات اللغة اليومية ، لغة التواصل التي يجعل منها شعراً مصفى لغة تنسف وتفجر الحواجز متجهة نحو العابر واليومي ، صانعة منه المثال الإنساني الخاص. هل حقاً هناك حالة صوفية في سلوك المقالح الشعري والحياتي باعتباره المقالح يعيش حالة صوفية وجودية “زاهد / متقشف”، حالة تلبسته وتمكنت منه؟ أم هي تعبير عن حالة وعي ثقافي فكري معرفي روحي أفرزت أو انتجت لحظتها النفسية الشعورية الموائمة لها على وجه الخصوص ، لها بالضرورة انعكاساتها على صياغاته الشعرية التي تدخل في صلب رحم تكوين القصيدة عنده في حالة تجمع بين الصوفي ، والمعرفي / الثقافي ، وبين الواقعي/ والمتخيل شعرياً ، حيث تبنى القصيدة نفسها وتهيكل وجودها على ايقاع توحد الطرفين ، مشيدة مناسك عمارتها ومنازل إقامتها في قاع صفاء الروح بعد تقاطعها أو اشتباكها –وليس انفصالها- مع امتدادها الواقعي أو السياسي الاجتماعي الطارد لها .. دون شك هي حالة وعي تدخل في إطار الحالة الثقافية والفكرية والنفسية والشعورية التي تقود بالضرورة إلى التأثير على الحالة الشعرية وعلى نفسية الشاعر كذات مبدعة . وهنا تبقى المفردة الصوفية : ايحاءاتها ، دلالاتها ، .. أكثر وأعمق من محاولات محصورة ومحكومة بإطار الروح الثقافية والوعي الخاص بالشعر وبالشاعر والرغبة بالتوحد مع الذات والاحتماء بها مما يغايرها . بل هي ، إلى جانب كل ذلك ، شغل دائب للاقتراب من الأنا الابداعية الإنسانية ، وتمسكاً بالفردانية الشاعرية في صورها المشحونة بملحمة صعود الروح ودراما مناجاتها ، ممتلئة بحالة درامية / غنائية ووجدانية عالية النبرة ومموسقة بإيقاع رقص موسيقي خاص ، يهندس عبرها أو من خلالها المقالح / الشاعر طقوسه اللغوية والأسطورية الخاصة به ، حتى يتحول النص الشعري إلى أسطورة قائمة بذاتها ومكتملة ، ولا يحتاج بعدها النص الشعري إلى مايؤسطره من خارجه.