بليغ السامعي
في محاولاته الأولى قيادة الدراجة النارية التي لم يسبق أن قاد مثلها من قبل، تذكر حمدان أيام طفولته عندما كان يقضي معظم وقته على دراجته الهوائية ولم يكن يفارقها عدا في وقت الطعام والنوم، الأمر الذي جعل من تعلمه القيادة أسرع، ولم ينسى أن يخلد تلك اللحظات بالتقاط الصور لنفسه بابتسامة عريضة طَفَت على سُمرة وجه.
داعبت نسمات هواء باردة وجه حمدان في أجواء مدينة الحديدة شديدة الحرارة، وفي حواف ذاكرته، كان واضحا الفرق بين دراجة هوائية لغرض اللعب ودراجة نارية يُراد منها أن تعول أسرة كاملة.
خريف حمدان
وهو في منتصف الأربعين من العمر، لم يتذمر حمدان من العمل على دراجة نارية، فمن السهل في هذه المدينة، الحديدة، مصادفة من أمضى السنوات وأبيض رأسه ولا يزال يمتهن هذا العمل، أما عن زملاء وأصدقاء حمدان فلم يثير لدى مشاهدتهم أن يتحول الموظف الحكومي إلى سائق دراجة نارية سوى مزيد التشجيع.
حدث ذلك بعد عامين من الصراع في اليمن الذي اندلع في خريف العام 2014، حيث اضطر الموظف الحكومي حمدان، العمل على دراجة نارية في سبيل بحثه عن مصدر رزق يعول فيه أسرته، بعد توقف مرتبات موظفي القطاع العام في سبتمبر/أيلول 2016.
يقول حمدان: “بعد توقف الراتب وجدت نفسي في موقف صعب. كنت عاطلا عن العمل، وفكرت بشراء دراجة نارية والعمل عليها.” عمل حمدان على الدراجة ولا يزال طالباً في السنة الثالثة من دراسته في الإعلام بجامعة الحديدة، وساعده عمله هذا على توفير متطلبات أسرته واكمال دراسته الجامعية.
نزوح إجباري
خلال سنوات دراسته، عُرف عن حمدان شغفه بالتصوير، وهي هوايته المفضلة التي تعود لسنوات عدة بفضل عائلته التي ورث عنها حب التصوير وتوثيق اللحظات، وكان أول طالب امتلك كاميرا بين طلاب دفعته. وعلاوة على امتلاكه المهارة والأدوات، كانت الأجواء مهيئة والفرص وفيرة في العمل في مجال تخصصه الإعلام، غير أن حمدان تخلى عن ذلك، ونأى بنفسه بعيداً مفضلاً الانخراط في حرب يومية تخصه وحده. “توفير حياة كريمة للأسرة بعيداً عن الحرب.” كما يقول.
أمضى حمدان عامين بالعمل على الدراجة كان العمل خلالهما “جيداً”. عندما وصل الصراع إلى أطراف مدينة الحديدة في منتصف العام 2018، اضطر حمدان مع أسرته النزوح إلى صنعاء، واستئناف رحلة عمله من جديدة في بيئة جديدة استمرت خمسة أشهر. وفي ديسمبر طار حمدان إلى ماليزيا في زيارة عائلية وعاد إلى صنعاء في منتصف العام 2019.
اطلاق مشروع واصل
جاء نوفمبر وعاد حمدان إلى مدينته الحديدة ليكمل رحلة الحياة القاسية. كان الصراع قد تلاشى على أطراف المدينة، بينما تفاقمت تداعيات الحرب وأخذت الهزيمة أكثر من وجه ممعنة في سحق أحلام الناس في الحياة والعيش الكريم. اشترى حمدان دراجة نارية جديدة تقسيطاً عوضاً عن دراجته الأولى التي باعها عقب نزوحه إلى صنعاء، وأمضى أعوام أخرى على الدراجة وكان العمل في هذه المهنة قد ساء كثيراً عما كان عليه في السابق.
ظل حمدان خلال هذه السنوات يترقب ويفتش عن فرص عمل لكنه كان يعود خائب الرجاء، وكانت هناك تلك الفترات التي سيتذكر فيها حمدان شغفه بالكاميرا، وسيقوم، إلى جانب عمله على الدراجة، بعمل دورات تدريبية في التصوير الفوتوغرافي، لكن حتى هذه لم تعد وسيلة مجدية للعيش في زمن الحرب.
كان على حمدان أن يدرك في وقت مبكر أنه لكي تقود دراجة نارية سيتوجب عليك أن تدفع الثمن يوماً ما. وهذا حدث مع صاحبنا في بداية العام 2022 حيث تعرض لكسر في رجله على إثر حادث مروري، وكما ذهبت دراجته لورشة تصليح، ذهب حمدان للمشفى وأجرى عمليتين، وبعد ثلاثة أشهر تحامل على نفسه وعاد للعمل من جديد وكان يخفي عكازه داخل دثار فرشه على ظهر الدراجة؛ إذ لا يمكن البقاء تحت حرارة الشمس طوال الوقت.
وفي خضم العراك اليومي لأجل حياة كريمة، لمعت فكرة في رأس حمدان أن يعمل على دراجته في خدمة توصيل الطلبات من المحلات والمتاجر للزبائن، وحصل على تشجيع أصدقائه ومعاريفه، وتكللت الفكرة بالنجاح في شهر رمضان المنصرم، حيث أعلن عبر حسابه على منصات التواصل عن اطلاق مشروع “واصل” لخدمة توصيل الطلبات بالدراجة النارية داخل نطاق مدينة الحديدة.
يقول حمدان: “لقي المشروع ترحيبا كبيراً، وبدا العمل مشجعاً خلال شهر رمضان، وشعرت بسعادة كبيرة لنجاح المشروع”. وعلى الرغم من انخفاض العمل في خدمة التوصيل على ما كان عليه في شهر رمضان، لا يزال حمدان يعمل في الخدمة ويتطلع لتطوير المشروع. وهكذا حافظ حمدان على بقائه وأسرته على قيد الحياة طوال محنة الحرب.