فهمي محمد
بعكس الفرق الإسلاميه نستطيع القول إن المذاهب الفقهية نشأت بعيداً عن ما نستطيع القول عنه بالانعكاس المباشر للسؤال السياسي الذي نشأ على إثر الانقلاب الأول على فكرة السياسة.
أقصد تحويل الخلافة الإسلامية إلى “ملك عضوض” منذ عام 40 هجرية.
ومع ذلك تظل لكل قاعدة استثناء يخالف منطقها العام، والاستثناء هنا يتعلق بالمذهب الزيدي الذي نستطيع القول إن نشأته منذ البداية كانت نشأة سياسية بحتة على إثر واقعة مقتل الإمام زيد بن علي بن الحسين الذي خرج ثائراً على مُلك هشام بن عبدالملك بعد أن اغتصب الأمويون سلطة الخلافة وحولوها إلى “ملك عضوض” مع تولي معاوية بن أبي سفيان مقاليد السلطة.
كان زيد بن علي، على حد وصف محمد عمارة في كتابه “الإسلام وفلسفة الحكم” وعدد كبير من شباب “آل البيت”، قد انتموا حركياً وفكرياً وسياسياً لجماعة المعتزلة {التيار العقلاني في الإسلام المبكر} الذي تولى مقارعة الفكرة الجبرية التي خلقتها جماعة الانقلاب السياسي، بحيث أجبرت السياسة على امتطاء حصان الدين، كما أجبرت الفلسفة على امتطاء حصان الطب أيام الدولة العباسية.
فمع الانقلاب الأموي تحول الدين إلى محرم شرعي للممارسات السياسية بطريقة غير مباشرة.
لهذا فإن السؤال السياسي الذي عبر عن نفسه أكثر من مرة بلسان حال الجملة الدينية أنتج فرقا إسلامية وبعض المذاهب ولم ينتج أحزابا سياسية تمارس دورها الوظيفي داخل مجال سياسي مستقل، لأن السياسة بعد الانقلاب الأموي على فكرتها الاجتماعية لم تجد قنواتها السياسية المشروعة لكي تمارس دورها الوظيفي تجاه المجتمع .
في صلب الموضوع كان اجتماع مكة (الذي حضره أعضاء تيار المعتزلة) هو الذي عمل على التحضير لمسألة الخروج ضد ملك هشام بن عبد الملك.
الإجتماع الذي ترأسه ودعا له واصل بن عطاء “منظر المعتزلة وقائدها الحركي”.
لذلك ليس بمستغرب أن يقال في تعريف الزيدية كما نجد ذلك في كتاب المقالح عن المعتزلة والزيدية في اليمن، حيث يقول بأن الزيدية معتزلة في العقائد وأحناف في الفروع، أي أن الكليات الخمس للمعتزلة (العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، قد أصبحت بعد ذلك هي الأصول الجامعة في المذهب الزيدي باستثناء الأصل الثالث للمعتزلة {المنزلة بين المنزلتين} الذي تم استبداله عند الزيدية بأصل الخلافة أو الإمامة في “آل البيت” بعد موت الإمام زيد، مع الحفاظ على تخريجة “الأفضل والمفضول” وهو ما جعل المذهب الزيدي قادر على استيعاب إفرازات الواقع بخصوص الرجل الأول في السلطة.
ومع ذلك تحدث علماء وأعلام المذهب عن فكرة الإمامة أكثر مما تحدثوا في الفقه وهو ما كان ينسجم مع نشأة المذهب التي كانت تعبر منذ البداية عن موقف سياسي رافض للسلطة الحاكمة وليس عن حاجة فقهية دينية فالإمامة { السلطة } هي القضية المركزية للمذهب الزيدي، كما هي عند الشيعه عموماً.
في اليمن أدى مجئ الإمام الهادي ابن الحسين سنة 284 هجرية بناء على دعوة القبائل المتصارعة في صعدة وما حولها، إلى تأسيس المذهب الزيدي بنسخته الهادوية انطلاقاً من مدينة صعدة.
وقد ساعد في ذلك أن اليمن ظلت بعيدة عن عاصمة العباسيين وملكهم العضوض طول فترة حكمهم، الأمر الذي وفر للهادوية فرصه لأن تتحول إلى سلطة.
تجربة الهادوية في ظل الزيدية أدت إلى تحقيق نتيجتين في هذه المساحة الجغرافية من شمال اليمن:
الأولى تقول إنه مع تعاقب الأجيال تحولت الهضبة في اليمن أو منطقة شمال الشمال إلى منطقة جيوسياسية زيدية تقاتل على السلطة بغض النظر عن التزام الإنسان هناك بتعاليم المذهب الزيدي من عدمه.
والثانية تقول إن الهادوية في اليمن قد امتصت بكل ما تعني الكلمة من معنى عقلانية المذهب الزيدي الموروثة من تيار المعتزلة، حيث وصل الحال بخصوص هذا الامتصاص إلى درجة أن أقدم أئمة الزيدية وفقهائها في اليمن على منع أبناء الزيدية أنفسهم من الاطلاع على مؤلفات وتعاليم الإمام زيد أو المذهب الزيدي كما يخبرنا عن ذلك كتاب الدكتور عبد العزيز المقالح الذي يتحدث فيه كما قلنا عن المعتزلة والزيدية في اليمن.
بدون شك قد يحدث مثل هذا وغيره في سبيل أن تظل “السلالة السياسية” أو “الهاشمية السياسية” كما يسميها البعض هي الحاكمة سياسياً، بل المرجعية دينياً وهو ما يتجلى في حرصهم الشديد على تسمية أنفسهم “أعلام الهدى” خصوصاً مع إدراك أئمة السلالة أنهم يحكمون مجتمعا قبليا يدين إلى حد كبير للقبيلة وشيخها.
ناهيك أن القبيلة تشكل للفرد “هوية انتماء وثقافة وحماية عصبية”.
أي أن القبيلة كانت وما زالت تمارس في هذه المساحة الجغرافية من اليمن، حضورها التاريخي ودورها الوظيفي تجاه الفرد والجماعة.
لهذا فإن شيخ القبيلة قد يشكل اليوم أو غداً منافسا سياسيا على السلطة لإمام السلالة السياسية الذي لا يتمتع بثقل قبلي على المستوى الاجتماعي في هذه المنطقة الجيوسياسية (الزيدية) زد على ذلك أن سقوط أول دولة زيدية كان بسبب انتفاضة القبائل اليمنية بعد أن ذاقت ذرعاً بحروب أحفاد الهادي بن الحسين على مقاليد السلطة.
وعلى أساس ذلك أثبتت الأحداث بعد قرون أن شيخ القبيلة تولى بالفعل زمام القيادة السياسية للمكون الزيدي في اليمن على حساب السلالة كما حدث بعد سقوط النظام الإمامي على يد ثورة الجمهورية بحيث تحولت القبيلة بعد الثورة إلى قبيلة سياسية احتكرت مقاليد السلطة في ظل الجمهورية.
أدى امتصاص عقلانية المذهب الزيدي على يد الهادوية في اليمن، إلى تضخم فكرة الأنا بشكل عنصري لدى السلالة السياسية التي بدأت في سبيل الحصول على مقاليد السلطة والثروة تُنظر لمسألة الأفضلية بين الناس على أساس جيني “صُلْبي”.
أي أن السيد المنتمي إلى بيت الرسول من نسل علي وفاطمة مفضل على الآخرين فضالة عينية ذاتية لأنه من نسل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
لذا نجد إماماً متطرفاً مثل عبدالله بن حمزة يقول بخصوص ذلك إنهم مفضلون عند الله بذاتهم وإذا عملوا أعمالا صالحة كان جزاؤهم أعظم عند الله من بقية المسلمين وإذا أذنبوا كان عقابهم أشد من الآخرين.
هذا التفسير العنصري لمفهوم الأفضلية بين الناس بفكر يتعارض مع صريح النص الديني القائل في محكم كتابه:
((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم)) بلا شك سوف نجده يبحث عن غايته ومكاسبه في الدنيا على حساب حقوق الآخرين وليس في الأخرة.
لذلك نجد المؤمنين به حريصين على تحويل المذهب الزيدي إلى عقيدة سياسية تتحول معها سلالة العترة النبوية إلى سلالة سياسية حاكمة تحتكر وحدها مقاليد السلطة والثروة بقوة الدين الذي أصبح ينظر لفرز المؤمنين به على أساس “نقاوة الدم” وليس على أساس “العمل الصالح”.
غير أن خصوصية التجربة في اليمن حولت انتماء الفرد للمذهب إلى انتماء جيوسياسي أكثر من كونه انتماء عقائدي أو فقهي بالمفهوم المذهبي.
على سبيل المثال وليس الحصر، شيخ القبيلة السياسية الذي كان يقود المكون القبلي الزيدي كان محسوبا على تيار سياسي ذي جذور سنية وليست شيعية وآخرون من رموز المكون الزيدي كانوا منتمين بعد سبتمبر إلى جماعة الإخوان المسلمين وفي نفس الوقت ظلوا يعرفون بكونهم زيودا وليسوا شوافع.
ما يعني في النتيجة أن الانتماء للزيدية كمذهب تحول إلى انتماء جيوسياسي في المقام الأول بالمعنى الذي يعني علاقة مكون إنساني بالجغرافية اليمنية والسلطة الحاكمة.
وهذا التحول وإن كان قد عمل على انحسار مثلوجيا الإمامة المذهبية بعد ثورة الـ26 من سبتمبر بالمعنى الذي يعني أن يكون الحاكم زيديا من أبناء المكون الإنساني الزيدي بغض النظر أكان هاشميا أو غيره، إلا أن خصوصية تجربة ثورة سبتمبر مع الجيوسياسية الزيدية جعلت هذا الحاكم يتجلى باسم القبيلة السياسية الزيدية التي رأت أنها صاحبة الحق في وراثة سلطة السلالة السياسية المذهبية، انطلاقاً من مركزية المجال السياسي الجيوسياسي { المركز السياسي المقدس } الذي أسس بشكل أو بآخر ما نستطيع القول عنه “دولة الجيوسياسية الزيدية” في شمال اليمن بغض النظر عن المذهب الذي كان يشكل بحد ذاته حالة تعايش مع الآخر، بل نقطة التقاء بين الشيعة والسنة من زاوية الفلسفة المذهبية.