تقرير _ فاطمة هزاع
على مقربة من تقاطع “القيادة” وسط العاصمة اليمنية صنعاء، تقف “أميرة” 35 عاما، قرب نافذة سيارة تستعطف السائق ليمنحها مالًا.
بـ”الله كريم” يرد السائق على “أميرة” وهي تعول أسرة بها أطفال فانسحبت إلى سيارة أخرى تقف ضمن عشرات من السيارات ومرت على معظم السيارات في الشارع ،وجمعت 200 ريال (0.4 دولارًا).
التسول هو مصدر دخل أميرة الوحيد، فراتب زوجها الزهيد الذي يعمل جامعًا للقمامة لا يستطيع توفير احتياجاتهم، إذ إن كل شيء سعره مرتفع.
وتقول أميرة أن كثرة المتسولين لا يكون غالبًا في صالحهم، مضيفة “عندما نكون كُثر لا أحد يهبنا المال”.
لا يخلو شارع في مدينة صنعاء من المتسولين الذين باتوا أيضا يقصدون المقاهي والمطاعم لطلب الطعام والمال.
ورغم الأعداد الكبيرة للمتسولين في صنعاء، إلا أن عددهم أكبر بكثير في مدن وبلدات الساحل الغربي لليمن، حيث فر سكان القرى من منازلهم، وأصبحوا يعتاشون على “ذل التسول”، تحت وطأة حرب مستمرة منذ أكثر من أربع سنوات بين القوات الحكومية، ومسلحي جماعة الحوثي.
لا يوجد رقم دقيق أو حصيلة محددة بعدد المتسولين في اليمن، وفق مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، مضيفًا أن التسول انتشر بسبب انهيار الأوضاع السيئة جراء الحرب.
الحرب خلّفت أوضاعًا انسانية متردية للغاية جعلت معظم سكان اليمن، البالغ عددهم نحو 30 مليونا بحاجة إلى مساعدات في إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حسب منظمة الأمم المتحدة.
صندوق الأمم المتحدة للسكان، حذّر في تقرير مؤخرًا، من أنه تلوح في الأفق في اليمن مجاعة محتملة ستكون الأسوأ في تاريخ العالم الحديث، لافتًا إلى أن المجاعة قد تعرض حياة ما يقدر بمليونين من النساء الحوامل والمرضعات اللاتي يعانين من سوء التغذية، لخطر الموت.
الحرب خلفت أوضاعا متردية في اليمن الذي بات على شفا مجاعة
يمنيون في السعودية.
كورونا معاناة فوق المعاناة
في مدينة عدن العاصمة المؤقتة لليمن والواقعة في جنوبي البلاد فرضت السلطات اجراءات احترازية لمنع تفشي فيروس كورونا بين السكان خلال العام الماضي.
وأدت تلك الإجراءات إلى حرمان عشرات العائلات المتسولة في المدينة من كسب لقمة عيشهم من خلال سياسة الحجر المنزلي.
وتقول” آمنة” وهي في العقد الرابع من عمرها ” أن الحجر المنزلي وحظر التجوال منعنا من التجول واكتساب ما يجلب لنا لقمة العيش من خلال التسول في مدينة عدن”.
وتعيل آمنة أربعة أطفال من خلال التسول في شوارع عدن بعد أن وصلت إليها نازحة من محافظة أخرى.
وتقول إن غياب المعيل والبطالة دفعتها للتسول لكي تؤمن لقمة عيش أطفالها.
تسول الاطفال على حساب تعليمهم
الطفل عدي عبد الله (11 عاما) لم يكن امامه من حلّ سوى ترك تعليمه بصنعاء والتوجه للعمل لمواجهة الفقر الذي تعاني منه أسرته فبعد أن شردتهم الحرب من مدينتهم تعز في عام 2016 وتحولت الأسرة كلها إلى أسرة متسولة، وأصبح مع إخوانه الأربعة باعة و متسولين في شوارع العاصمة صنعاء.
واعتاد عدي ارتياد شارع التحرير بصنعاء طوال النهار مع جدته وأخته الصغيرة رنا لبيع المناديل، ومسح زجاج السيارات بأحد جولات الشارع مقابل 100 ريال عن كل سيارة، أو 150 ريالاً أخرى لكل علبة مناديل «فاين» يتمكنون من بيعه.
يأتي عدي كل صباح من منطقة الصباحة (خارج صنعاء) إلى شارع التحرير مع بعض من عائلته للعمل ومساعدة أهله في توفير حاجياتهم وسداد إيجار منزلهم. ويضيف: «يعمل كل فرد منا في طريق أو تقاطع أو جولة أو باب مسجد أو مطعم أو سوق شعبية، وأكبر مبلغ نحصل عليه في اليوم لا يزيد على 12 دولاراً».
تقديرات محلية
قدرت دراسة أكاديمية محلية شملت 8 محافظات يمنية، في عام 2013 قبل سيطرة الحوثي على صنعاء ، العدد الكلي للمتسولين في صنعاء بنحو 30 ألف طفل وطفلة؛ جميعهم دون سن الـ18.
فيما تؤكد إحصائية أخرى صادرة عن مركز دراسات وبحوث يمني في 2017، بعد 4 أعوام من السيطرة الحوثية ، أن عدد المتسولين في اليمن ارتفع بشكل مخيف ليصل إلى أكثر منمليون ونصف المليون متسول ومتسولة.
وأكدت الإحصائية أن هذه الظاهرة باتت واضحة في المدن اليمنية الكبرى أكثر من غيرها، خصوصاً في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
وبالمقابل، تفيد إحصاءات أخرى غير رسمية بأن أعداد المتسولين في ازدياد مستمر، خصوصاً بمناطق سيطرة الحوثيين فيما لم تتحدث حتى اليوم أي إحصائية رسمية عن عدد إجمالي للمتسولين في اليمن.
وتوقع أكاديميون مختصون بقضايا السكان أن أعداد المتسولين في العاصمة فقط بالوقت الراهن تصل إلى أكثر من 200 ألف متسول ذكوراً وإناثاً من مختلف الأعمار.
وأشاروا إلى أن تلك التوقعات تمثل 10 أضعاف آخر الإحصاءات العلمية؛ العشوائية العينة، الصادرة عن أكاديميين بجامعة صنعاء قبل شهر سبتمبر 2014، والتي قدرت عدد المتسولين بنحو 30 ألف طفل وطفلة دون سن الـ18 (لا يشمل هذا العدد كبار السن من الذكور والإناث الذين خرجوا للتسوّل تحت وطأة الظروف المعيشية الصعبة والفقر المدقع).
ورأى الأكاديميون أن ازدياد أعداد المتسولين في اليمن ينذر بكارثة خطيرة، ويقولون إن تلك الظاهرة تعزز من مخاوف وقوع مجاعة جماعية في اليمن. وقالوا إن ظاهرة التسوّل من أكثر الظواهر الاجتماعية التي تنامت وبرزت بقوة مع دخول الانقلاب في اليمن عامه الرابع وأكدوا أن الظاهرة غدت اليوم من الأمور المقلقة عند المجتمع، وذلك لزيادة عدد المتسولين بشكل مهول وانتشارهم بمختلف مدن اليمن، خصوصاً تلك الخاضعة لسيطرة الانقلابين.
وعزوا ذلك إلى موجات النزوح الجماعي التي شهدتها صنعاء من مختلف المدن التي طالتها يد التدمير والخراب والحرب الهمجية الحوثية، وتفشي البطالة وانقطاع المرتبات عن موظفي الدولة وانقطاع مصادر الدخل لدى غالبية الأسر اليمنية
تقديرات أممية
تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن أكثر من 19 مليون يمني يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعيش نحو مليون موظف يعملون في القطاع الإداري العام، بلا رواتب منذ سبتمبر (أيلول) 2016.
وأعلنت الأمم المتحدة مطلع الشهر الحالي أن نحو 10 ملايين شخص في اليمن أصبحوا الآن على بعد خطوة واحدة من المجاعة، وأنها تبذل قصارى جهدها مع الشركاء لمساعدتهم.
نحو مليون موظف، يعملون في القطاع الإداري العام في اليمن، يعيشون بلا رواتب منذ سبتمبر/أيلول 2016.
الإدارة الحوثية، المسيطرة على صنعاء ومحافظات أخرى، امتنعت عن صرف الرواتب؛ بحجة نقل حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي مقر المصرف المركزي إلى مدينة عدن (جنوب)، العاصمة المؤقتة.
أما الحكومة المعترف بها دوليا فتقول إن الحوثيين “نهبوا” منذ سيطرتهم على المصرف 4 مليارات و500 مليون دولار، كانت تمثل الاحتياطي النقدي للبنك، وإن الجماعة “تبدد إيرادات الضرائب والجمارك في دعم الحرب”، وهو ما ينفيه الحوثيون.
عائلة يمنية تمتهن التسول في جدة
وفي شهر مايو من العام الماضي 2020 أوضح الناطق الإعلامي لشرطة جدة الملازم أول نواف بن ناصر البوق، أنه ومن خلال عمليات تتبع المتسولين رصدت إحدى فرق شعبة التحريات والبحث الجنائي من خلال أعمالها اليومية لمتابعة تلك الفئة، عائلة مكونة من أطفال ونساء ورجال يمتهنون التسول بشكل يومي، وبالتناوب كيلا ينكشف أمرهم، بحيث يتم تبديل الأطفال من موقع لآخر.
وبين البوق، وفقا لما ذكرت صحيفة “عكاظ” السعودية، “أنه وبعد إجراء عمليات التحري اللازمة والتوثيق التام لذلك التشكيل بالصور الفوتوغرافية والفيديو بشكل سري، صدرت أوامر مدير شرطة جدة اللواء عبدالله بن محمد القحطاني بإلقاء القبض على كامل التشكيل واتضح أنهم يقطنون في منزل بحي كيلو 6 جنوب المحافظة، وتم دهم المنزل وعثر بداخله على كافة العناصر التي تم رصدها ميدانيا من أطفال ونساء ورجال وكان إجمالي المقبوض عليهم 27 شخصا، منهم 3 رجال و 7 نساء و 17 طفلا أعمارهم تتراوح من سنة ونصف حتى 13 سنة”.
وأضاف، “ومن خلال التحقيق الأولي اتضح أن جميع المقبوض عليهم من أسرة واحدة من اليمن قدموا للبلاد قبل شهرين بغرض أداء مناسك العمرة إلا أنهم تخلفوا عن العودة لبلادهم وامتهنوا التسول.
وتم استدعاء صاحب المنزل الذي أجره للمتسولين لتطبيق الأنظمة والتعليمات بحقه وهو سعودي الجنسية في العقد الثالث من العمر، وتمت إحالة جميع الأشخاص لإدارة متابعة الوافدين بجدة بحكم الاختصاص لاستكمال الإجراء بحقهم والمنصوص عليه نظاما”.
وأكد الناطق الإعلامي بالشرطة، أن التعاون مع مثل تلك الفئة أمر غير مقبول لأن فيه توجيها للمال إلى غير مستحقيه، مشيرا إلى أن هناك قنوات رسمية لاستقبال الصدقات عبر الجمعيات الخيرية المعتمدة والمعروفة برامجها وأعمالها، وشدد على ضرورة الإبلاغ عن أي ملاحظات أو تجمعات لأشخاص يمتهنون ذلك الأسلوب، وناشد المواطنين بعدم تسكين أي مخالف لأنظمة الإقامة والعمل لما في ذلك من ضرر يعود على المجتمع.
غياب الرعاية يدفع الأسر للتسول
في منطقة السنينة في مدينة صنعاء في حي شعبي فقير يسكن الطفل عيسى منزلا صغيرا جدا مبنيّاً من الطين، يحتوي على فتحات صغيرة على شكل نوافذ مغطاة بقطع من الكرتون. جدران المنزل تغطيه التشققات حتى يكاد أن يسقط على رؤوس ساكنيه.
امه امرأة في أواخر الثلاثينات تدعى سعاد، من محافظة الحديدة روت قصتها وقصة عائلتها مع التسول.
“كل يوم أخرج أنا وأولادي وأولاد زوجي نطلب الله (نبحث عن الرزق) ونتوزع في أماكن مختلفة من الشوارع، وكل واحد مطالب بمبلغ لا يعود إلا به حتى يهتموا ويكدوا ويسووا المستحيل مش يتساهلوا ويروحوا بغير فلوس”.
وتضيف سعاد: “زوجي كان عاملا وتعرض لحادث قبل خمس سنوات، والآن مشلول وبإمكانك الدخول والتأكد بعينك. ولديه فشل كلوي والأوراق موجودة وبحثنا عن المساعدة لكن دون فائدة”.
تتسول هذه العائلة منذ أربع سنين، حسبما تؤكد سعاد، لأن ما تتسلمه كراتب كل ثلاثة أشهر من الشؤون الاجتماعية لا يكفي لأسبوع، أما ما “نحصله من التسول فيغطي احتياجاتنا الأساسية من علاج وغسيل كلوي لزوجي وأكل وشرب وإيجار”.
العائلة مسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية مقابل 18 ألف ريال (83 دولاراً) كل ثلاثة أشهر أي 6 آلاف ريال (28 دولاراً) شهرياً في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 20 ألف ريال (93 دولاراً) شهريّاً.
وفي ظل غياب الحل السياسي في اليمن واستمرار الصراع وتدهور الأوضاع المعيشية للسكان من المتوقع أن يزيد عدد العائلات المتسولة يوما بعد يوم وتتفاقم أوضاع العائلات التي كانت تمارس التسول من قبل بشكل متزايد.
“تم نشر هذا التقرير بدعم من JDH / JHR – صحفيون من أجل حقوق الإنسان والشؤون العالمية في كندا”.