(رؤية سياسية قومية وطنية)
فهمي محمد
منذ بداية القرن الماضي خاضت كثير من شعوب العالم معاركها المصيرية ضد دول الاستعمار والإمبريالية العالمية من أجل تحقيق مفهوم الانتصار الناجز لثلاثية الثورية = {التحرر والاستقلال والسيادة الوطنية} وفي خضم هذه المعارك – التي كان للجهاز المفاهيمي لليسار العالمي دوراً رئيسياً في تفجيرها وامتدادها السياسي على مستوى المعمورة – وجدت العديد من شعوب العالم العربي نفسها معنية بالانتفاضة والثورة على قوى الاستعمار والإمبريالية الجاثمة على جغرافيتها التي تحولت إلى أقطار ذات حدود سياسية بفعل سياسات ممنهجة لقوى الاستعمار (تمزيقية/ انقسامية) التي حكمت المنطقة العربية عقود بل أكثر من قرن في بعض الأقطار كما هو حال الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن .
هذه السياسات الاستعمارية التمزيقية للأواصر الجغرافية والتاريخ وحتى للمكون العربي إنسانياً هي التي جعلت اليسار العربي يثور ابتداء على قوى الاستعمار والرجعية تحت راية القومية العربية لأن هذه الأخيرة هي الهوية الجامعة أو الوجدانية السياسية (المتجاوزة للأقطار المصطنعة) التي كانت في الماضي ومازالت حتى اليوم قادرة على تقديم نفسها حالة نضالية منسجمة مع أحكام الجغرافية والتاريخ وحتى مع مفهوم الانتماء الوحدوي للمكون الإنساني في المنطقة الواقعة بين المحيط والخليج، بمعني آخر لو نظرنا إلى المسألة من زاوية الدعوة إلى ضرورة الوحدة وجمع الشمل من أجل مواجهة الأخطار المحدقة بمجتمعاتنا العربية وفي مقدمة تلك الأخطار، خطر الاحتلال الصهيوني الذي يرتكب اليوم اخطر الجرائم وابشعها في حق الفلسطينيين العزل وخطر الاختراقات المتكررة للمشاريع الفارسية والتركية التي تتسلل “جهاراً نهاراً” إلى فضائنا العربي من خلال الجيوب المذهبية = {حالة الانقسام الديني المذهبي} ناهيك عن مخاطر هيمنة القوى العالمية ومخاطر الفشل العام على مستوى الداخل الوطني في جل الأقطار العربية .
وإذا كان ما ذكر من المخاطر قد ورد على سبيل المثال وليس الحصر فإن القومية العربية دون غيرها تصبح هي القادرة بأن تقدم حالة انتماء وجداني سياسي ثوري جماهيرية جامعة يستغرق كل المكون الإنساني من المحيط إلى الخليج في مواجهة تلك الأخطار، وهي بهذا التميز السياسي والثقافي الجامع للجماهير تتقدم حتى على حالة الانتماء الديني التي لا تستطيع بحكم التعدد في الانتماءات الدينية أن تستغرق كل المكون الإنساني القابع بين المحيط والخليج، بل أكثر من ذلك لا تستطيع حالة الانتماء الدينية أن تقدم حتى حالة انتماء سياسي وجداني ثوري يستغرق كل المكون الإنساني على المستوى القطري، بينما حالة الانتماء للفكرة الوطنية تستطيع فعل ذلك على المستوى القطري كما هو الحال على سبيل المثال في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن والسودان وتونس والجزائر وغيرها من الأقطار العربية التي يوجد فيها عرب مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، تجمعهم في مسألة التعايش الاجتماعي حالة الانتماء للفكرة الوطنية، ولولاها لانقسمت تلك الأقطار على نفسها كما انقسمت شبه الجزيرة الهندية بين الهند وباكستان على أساس الانتماء الديني، بين المسلمين والهندوس كما إن إهمال حالة الانتماء للفكرة الوطنية في دولة باكستان التي غرقت منذ الاستقلال في الغلو الديني جعلها تنقسم بعد ذلك إلى باكستان وبنجلادش، على إثر انتخابات رئاسية فاز بها مجيب الرحمن الذي كان ينتمي إلى إقليم البنجال = {باكستان الشرقية} يومها رفضت قيادة الجيش في باكستان الغربية تسليم السلطة عن طريق الديمقراطية، واجتاحت باكستان الشرقية وقتلت 200 ألف بنجالي في حرب غير متكافئة تدخلت فيها الهند (بعد أن اجتاح ملايين النازحين من البنجال أرضها) إلى صف باكستان الشرقية التي تحولت إلى دولة بنجلاديش بعد هزيمة جيش باكستان الغربية أمام الجيش الهندي.
هذا يعني أن تحويل حالة الإنتماءات الدينية في المنطقة العربية، إلى وجدانية سياسية أو عقيدة سياسية ثورية على حساب الوجدانية القومية أو الوطنية سوف تؤدي حتماً إلى خلق حالة من الانقسام والضعف والتفكك والصراع المستمر داخل المكون الإنساني في المنطقة العربية وبشكل يتم استثمارها من خارج الجيوسياسية العربية كما يحدث اليوم هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية فإن تحويل حالة الانتماءات الدينية إلى عقيدة سياسية ثورية على حساب الفكرة الوطنية على المستوى القطري سوف تؤسس في أحسن أحوالها طائفية سياسية تعمل على تفخخ المجال الاجتماعي داخل القطر الواحد، كما هو الحال في لبنان والعراق، وفي أسواء الأحوال تخلق صراع سياسي اجتماعي مسلح كما هو الحال في اليمن ولبنان سابقا، لهذا حرص الرعيل الأول من الساسة والمناضلين العرب خصوصا اليساريين منهم على تكريس مصطلح الوطن العربي والأمة العربية والقومية العربية، في حين كانت قوى الاستعمار والقوى الداعمة للاحتلال الصهيوني تعمل بكل الوسائل على إسقاط هذه المصطلحات من القاموس السياسي ومن معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وحتى من الوجدان السياسي للنخب الحاكمة وعلى وجه التحديد منذ بداية العقد السابع للقرن الماضي، لاسيما وأن اليسار العربي الذي كان في زخم كفاحه ضد قوى الاستعمار كان اشتراكي الهواء وقومي الهوية بعكس اليسار خارج المنطقة العربية فلم تكن القومية مسألة مركزيه بالنسبة له .
أتذكر أني قرأت في أحد كتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل عن لقاء هذا الأخير مع وزير الخارجية الأمريكي كسينجر في القاهرة على إثر حرب اكتوبر التي تمكن فيها الجيش المصري من إسقاط هيبة الجيش الصهيوني واجتاح خط برليف، وكما هو معلوم أن كسينجر يعد أحد أبرز الساسة الكبار وصاحب فكر سياسي استراتيجي في تاريخ أمريكا وهو يهودي المعتقد وقد شاءت الأقدار أن تندلع حرب اكتوبر 1973/ وهو وزير خارجية أمريكا، وفي بداية اللقاء قال كسينجر للأستاذ هيكل اني على استعداد أن اسمع منك كل ما تريد قوله بشرط أن لا تحدثني عن التاريخ وعن القومية العربية!!!
ومع أن كسينجر كان أستاذ متخصص في التاريخ إلا أنه كان مدركاً لحقيقة أن القومية العربية تشكل عائقاً كبير أمام سياسته التفاوضية التي هو بصدد تأسيسها في المنطقة من بعد حرب 6/ اكتوبر/ 1973م وهي السياسة التي انتهجتها أمريكا في مسألة التفاوض بين الكيان الصهيوني وكل قطر عربي على حده ابتداء من القاهرة، التي ذهبت في سلام منفرد مع دولة الاحتلال الصهيوني، وللقارئ هنا أن يضع خط عريض تحت اشتراط وزير الخارجية الأمريكي ويقرا ما يشاء في دلالاته السياسية والاستراتيجية، بمعنى آخر ماذا يعني إسقاط التاريخ والقومية العربية من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بعد حرب شارك فيه الجيش المصري والسوري وتدخلت السعودية بقطع النفظ واحتفل العرب من المحيط الى الخليج به؟ وكيف هو حال كل الأقطار العربية مع مفهوم التحرير والسيادة والاستقلال من بعد اشتراط كسينجر في القاهرة؟ .