سماح عملاق
تحركت السيارة من فرزة “ديلوكس” التي تقع في قلب مدينة تعز، متجهة إلى منطقة الحوبان، الشطر الشرقي من المدينة، صباح الثالث من أبريل الجاري، ورغم أن المسافة الطبيعية بين الحوبان وقلب المدينة لا تتجاوز الخمسة عشرة دقيقة إلا إن توسع المواجهات العسكرية بين القوات الحكومية والحوثيين، حولتها إلى خمس ساعاتٍ أو أكثر.
مرورٌ شعبي
تعلو السيارة وتهبط ويوقن ركابها أنهم على وشك الموت، في طريق وعرة، أستحدثت مؤخرًا لتربط بين مدينة تعز وشطرها الشرقي، وتضيق الطريق ذرعًا بعشرات السيارات والناقلات، التي يستغني سائقوها عن مراياها لتوفير مساحةٍ إضافيةٍ للمرور، فيما يقوم سكان محليون بدور رجال شرطة السير، كمبادرة ذاتية منهم لتخفيف منسوب الحوادث لضمان منع إغلاق الطريق الوحيدة التي تربطهم بالجانب الآخر من مدينتهم المحاصرة بفعل الحرب.
وفي كل منعطف يقوم الأطفال والرجال بشكل طوعي بإزالة الأحجار الخطرة من الطريق الوعرة وتهيئتها للمرور؛ بانتظار المكافأة الزهيدة التي سيمنحهم أياها السائقين كمساهمة تشي بالعرفان والتقدير لجهودهم.
نقاط تفتيش
على ضيقها ووعرتها لا تخلو الطريق الوعرة الممتدة من مدينة تعز مرورًا بمنطقة الأقروض ودمنة خدير، وصولًا إلى الحوبان من نقاط تفتيشٍ، تتوزع على طولها.
يتعامل السائقون ببهلوانية، مع هذه النقاط، قائلًا: “مابيدنا شيء غير نساير الجميع عشان نشقي على عيالنا، لا شنفعهم ولا شضرّ نفسي”، محاولًا التذاكي في التعامل بمجاملاتٍ مكشوفة مع ابتزاز بعض النقاط يعقبها سبٌّ بذيءٌ دارجٌ لهم بمجرد ابتعاده عنهم.
تتوقف السيارة نصف ساعة -على الأقل- لتفتيش حقائب المسافرين، ويضيف السائق: “الحرب أمر واقع وأنا مش قادر أوقّفها بس قادر أماشيها وأعيش بسلام تحت النيران”.
محلك سر
مع اقتراب السيارة من وسط الطريق، يتفاجأ ركابها بطابورٍ طويلٍ يتكون من قرابة 55 سيارة واقفة في أماكنها، معلنة عن خبر إغلاق الحوثيين طريق الأقروض، وليس أمام السائقين إلا أن ينتظروا قرارًا جديدًا منهم بفتح المعبر الوحيد إلى شرق المدينة.
وفي الانتظار المؤلم ذلك، كان ثمة أم عالقة وبحضنها صغيرتها التي تعاني فشلًا كلويًا حادًا وبحاجة للإسعاف، والأم تبكي عاجزةً تتوقع أن تفقد ابنتها في الجبل.
بدت على الطفلة علامات الاحتضار؛ فصرخن النساء، وبادرن بالاقتراب نحو نقطة التفتيش، حاولن إقناع المقاتلين المتمركزين فيها مرارًا بفتح الطريق للسماح بإسعاف الطفلة المريضة، إلا أنهم رفضوا ذلك بمبرر إنها “أوامر عسكرية ولا يسعهم مخالفتها”.
مبادرة انقاذ
تسرب خبر الطفلة خلال دقائقٍ معدودة، فقرر شابين البحث عن أم الطفلة المريضة بين سوادٍ كثيفٍ من النساء، وأقنعوها أنهم قادرون على العودة بطفلتها نحو مدينة تعز لإسعافها على دراجةٍ نارية يملكها أحدهم.
أعطوا الأم بطائقهم الشخصية وعهودهم ومواثيقهم، فأجبرت تحت إلحاح النساؤ الأخريات على الموافقة وأمّنتهم على طفلتها، قائلة: “استودعت ابنتي الله، وهي أمانة بأعناقكم وماهو من الله حيابه ياعيالي”، لينطلق الشباب عائدين أدراجهم مع الطفلة المنهكة في دراجة نارية لإنقاذها.
منتدى شعبي
استمر إغلاق الطريق لأربع ساعاتٍ، وقرابة الخمسمائة نسمة محاصرة في الجبل، دون أي وسيلة اتصال بالعالم الخارجي، بعضهم وصفوا أنفسهم بأنهم “خارج حدود الخارطة”، لكن المكان تحول إلى منتدىً ضخم يجمع اليمنيين بشتى أطيافهم، وكأنه مؤتمر حوارٍ وطنيِّ شامل لكن دون إعدادٍ أو إمكانيات..
في نفس المجموعة تواجد السائق، ودكتور جامعي في العلوم السياسية، وعقيد سابق في الجيش، وعامل بسيط، ومعلم رياضيات، وفقيه في الدين، وطبيب.. اجتمعوا من عدة سيارات.
تزعّمت هذه المجموعة مبادرة لاكتشاف اسم المأمور الذي قضى بإغلاق الطريق، حاولوا جاهدين الحصول على رقم هاتفه من العساكر الواقفين في النقطة، وبالفعل حصلوا عليه بصعوبة، بدأوا بالبحث عن إشارة في هواتفهم كي يتمكنوا من الاتصال به، وشرح الوضع الإنساني له علّه يفتح الطريق أو يقنعهم بأسباب إغلاقها.
لم يجدوا تغطية هاتفية إلا بعد 45 دقيقة، اتصلوا بالشيخ، فأخبرهم بمبرراته، مدعيًا أن إغلاق الطريق تطبيقًا للإجراءات الاحترازية للوقاية من كورونا، لكنه لم يتفهم الوضع وأغلق الاتصال من طرفه.
افتتاح المعبر
أخيرًا مع أذان المغرب تحركت أول سيارة نحو الهدف، علت بضع زغاريد نساء اتسمن بالجرأة من خلف الأقمشة السوداء، وارتفعت تكبيرات الرجال الجهورية، وابتهج الأطفال سويًا مصفقين.
شذت سيارة وحيدة عن الطريق لتعود نحو مدينة تعز رغم افتتاح الطريق بإجماع مسافريها إكرامًا لأم الطفلة المريضة، كي تعود نحو المدينة للاطمئنان على صحة طفلتها.
تحركت السيارات ببطءٍ بسبب الازدحام والكثرة والجميع يأمل أن يجد ضوءًا في مسلكه يساعده على إكمال المشوار الصعب، ليصلوا بأمان في الثامنة مساءً نحو “دمنة خدير” المنطقة التي تعد أول أبواب الإياب لأنها ممتدة ومعبّدة نحو الحوبان.
تنشر هذه المادة وفقًا لتفاهم مع منصة Yemen peace