كتاب المواطن – روجيه جارودي
وقد أدى هذا الوعي لدى الكثيرين من المسيحيين، على إبهامه أحياناً، إلى إعادة النظر:
– في طريقتهم في التفكير بعلاقتهم بالعالم وفي معاشهم لها.
– في طريقتهم في التفكير بإيمانهم وفي معاشهم له.
وأن يكون مجمع الفاتيكان الثاني قد أنشأ لجنة خاصة للعلاقات مع الأديان غير المسيحية، وأن يكون مجمع الكنائس المسكوني قد انفتح بروح جديدة على ديانات آسيا وإفريقيا، وأن تكون أميركا اللاتينية قد باتت تتمتع بوزن متعاظم، فهذه كلها مؤشرات على حركة عميقة آخذة بالتصاعد.
وتتسم هذه الحركة بادئ ذي بدء بالاعتراف بقيمة التعدد. فقد شرعت الكنيسة الكاثوليكية – وهذه لحظة عظيمة في تاريخها – تفصل، منذ مجمع الفاتيكان الثاني بوجه خاص، مطالبتها الأساسية بالشمولية والكونية عن الأشكال التي أضفاها موروث تاريخي مديد على ذلك المطلب: موروث الإمبراطورية الرومانية في طموحها إلى السيطرة الكونية، موروث عصر النهضة في طموحه الى محورة العالم على اوروبا (وهذا ما قاد الكنيسة إلى أن تتساءل يوماً عما إذا كان الهنود روح!)، وموروث الاستعمار الذي شوَّه فكرة «الرسالة» بالذات.
إن التوكيد العلني بأن الكنيسة لا تطمح الى غزو العالم والى إخضاعه لها بل تعمل على العكس في خدمته وفي حوار دائم معه لهو بمثابة بداية لذلك الانعطاف الكبير والضروري.
ولقد كانت هذه المواجهة عامل تعميق جديد للمسيحية بدلاً من أن تكون عامل إضعاف لها: ففي مواجهة ثقافات أخرى وديانات أخرى بات يُنظر اليها على أنها مصادر لقيم حقيقية لا على أنها هرطقات أو ضلالات بشرية، اندفع العديد من المسيحيين ومن كبار اللاهوتيين نحو التساؤل حول خصوصية ايمانهم.
فالمسيحية بوصفها ديانة، أي بحكم ارتباط الإيمان بحضارة وبمؤسسات وبأعراف متحددة تاريخياً، تندرج في «القانون العام» للديانات: فهي تخضع نظير سائر الأديان الأخرى لقوانين الاستلاب.
ولكن بصرف النظر عن هذه التبعيات، عن هذه النسبية، عن هذه الاستلابات، ما السمة النوعية للإيمان المسيحي من حيث أنه شعور بالوجود، أي من حيث أنه طريقة معينة في انتماء الانسان الى سائر الكائنات وفي تواجده بينها وتأثيره عليها؟
لا مراء في أن هذا الايمان يتترجم بالضرورة، في كل عصر، في لغة ايديولوجيا محددة، ولكنه لا يُختزل اليها على اعتبار أن الايمان ليس ايديولوجياً بل طريقة للوجود في العالم.
وإنها لأمارة من أمارات العصر أن يكون فيلسوف مسيحي هو بول ريكور قد أمكن له أن يطرح هذا السؤال في مواجهة نظام يتصور الله على أنه جواب على حاجات معينة للإنسان (حاجات مرتبطة تاريخيً بهذه البنية الاجتماعية أو تلك وبهذه الثقافة أو تلك): هل الدين استلاب للإيمان؟
وبذلك تكون مشكلة طبيعة الإيمان وحقيقته قد طرحت على نحو جديد.
ومن وجهة النظر هذه، فإن التوازي مع تطور الماركسية الحديث لا بد أن يلفت الانتباه.
فالمشكلة الأولى المطروحة بالنسبة إلى الماركسية أيضًا كانت مشكلة التعدد، وعلى وجه التحديد تعدد نماذج الاشتراكية.
فأن تكون الاشتراكية منذ أن أرست لأول مرة جذورها بقوة وعلى نحو مستقل ذاتية في قطر غير أوروبي هو الصين قد قلبت الأسلوب «الأرثوذكسي» في الوصول الى السلطة، وذلك بالاستناد في المقام الأول لا إلى الطبقة العاملة والمراكز العمالية بل الى مؤخرة البلاد الفلاحية لتطويق المدن في مرحلة تالية، وأن يكون الحزب الشيوعي الصيني قد اختار فور وصوله إلى السلطة شكلا خاصاً للتطور لا يندرج بصورة من الصور في المخطط الكلاسيكي، وأن يقدم اليوم بديلاً شاملاً عن نمط الحياة الرأسمالي بوضعه المسلَّمات الحضارية الأساسية لهذا النمط في قفص الاتهام، وأن يكون هذا الشكل الجديد من الاشتراكية أخيراً قد أفضى إلى الانشقاق، فإن هذا كله قد طرح على الماركسيين مشكلة نظرية وعملية بالغة الأهمية والشمول بحيث وجدوا أنفسهم منقادين، هم أيضاً، إلى تمييز ما هو أساسي وجوهري في مذهبهم عما هو محض نتيجة لشروط تطوره التاريخية.
إن مصاعب غرس الماركسية والأرثوذكسية، في إفريقيا السوداء وفي العالم الاسلامي، وتراجعها في اميركا اللاتينية، قادت الماركسيين الى التساؤل عما إذا كان هناك نموذج أوحد للاشتراكية على النحو الذي تم إنشاؤهما به انطلاقا من التقاليد الغربية وحدها: الفلسفة الألمانية مع هيغل، الاقتصاد السياسي الإنكليزي مع ريكاردو، الاشتراكية الفرنسية مع سان سيمون أو فورييه. ولم يكن هناك مناص من إعادة النظر في هذا المخطط الثقافي التبسطي لكي تنطرح بصورة جذرية مشكلة تأصيل الماركسية في بنى كل شعب وثقافاته: سواء كان المقصود الثقافات الصينية أو الاسلامية الرفيعة، أم التصورات الأفريقية للعالم والحياة، أم المجموعات الثقافية والدينية في أميركا اللاتينية.
وهكذا فإن إصبع الاتهام لم توجه إلى التأويلات الدوغمائية للجدل التاريخي فحسب، ولا إلى التأويلات الوضعية النزعة لجدل الطبيعة فحسب، ولا الى الانحرافات البيروقراطية والاستبدادية للماركسية فحسب، بل طرحت أيضاً المشكلة الأساسية: ما الشيء الجوهري في الماركسية بصرف النظر عن الأشكال التأسيسية أو الثقافية التي أمكن لها أن تتلبسها عبر تاريخها؟
***
إن التحول الكبير الثاني الذي لعب دوراً رئيسياً في تغير الوعي لدى المسيحيين والماركسيين هو تحول العلوم والتقنيات.
فقد صار لدى المسيحيين حكم نهائي بإدانة التصور الذي كان يرى في الله «إله الثقوب» المكلف بسد الثغرات المؤقتة في العلم أو التقنية بواسطة فرضيات ميتافيزيقية. وإنه لما له دلالته أن المحاولات المسيحية لتحقيق هذا التجاوز بلا تحفظ لم تأخذ طريقها إلى الاشتهار إلا في الخمسينات بالرغم من أن التفكير فيها سابق على ذلك بسنوات عديدة:
– محاولة الأب تيار دي شاردان التي محضت العلم مطلق الثقة.
– محاولة الراعي الأب بونهوفر المستوحاة هي الأخرى من تفاؤل رجولي والباحثة عن الله لا عند تخوم الإنسان أو في إخفاقاته، بل على العكس في صميم الإنسان، في مجهوده الخلاق وامتلائه.
فالوصول إلى الله في نظر الاثنين کليهما لا يكون بأن ندير ظهرنا للعالم، بل على العكس بأن نأخذ على عاتقنا ملء مسؤوليته.
وقد سجل مجمع الفاتيكان الثاني، كما يسجل المرجاف الهزات الأرضية، صعود الإنسان هذا، فأقرَّ بـ «الاستقلال الذاتي للقيم الدنيوية» قيم المعرفة وقيم العمل على حد سواء.
وقد كان تأثر الماركسيين بالانقلاب العلمي والتقني أكثر مباشرة لأن الماركسية بالذات ولدت في الشروط التاريخية للثورة الصناعية الأولى التي وسمتها بعميق مبسمها.
إن ماركس لم يحدد قط الاشتراكية بدءاً من «مخطوطات 1844» إلى «الرأسمال» وحتى نهاية حياته من وجهة النظر الاقتصادية وحدها، بل حددها دوماً من وجهة نظر الإنسان الشامل.
وليس الغرض الوحيد للاشتراكية، في فكر ماركس، أن تجعل الانسان فاعلاً حقيقياً للحياة الاقتصادية. فاقتصاد الاشتراكية ليس في نظره سوى وسيلة لتحرير الانسان في ممارسته لمجمل نشاطاته: العلمية والفنية والروحية.
إن الاستلاب لا يرتد إلى محض مظاهره الاقتصادية.
وإذا صح أن الاستلاب الاقتصادي استلاب شامل، فأنى لأنسان مستلب أن يكافح الاستلاب؟
لقد أوضح مار كس في الرأسمال. كيف تفضي الرأسمالية على الصعيد الاقتصادي إلى ما يسميه، بلغة الفلسفة الألمانية، بـ «قلب للعلاقات بين الذات والموضوع». فعاقبة الرأسمالية على
الصعيد الاقتصادي إلحاق الذات بالموضوع، إلحاق الانسان بالبضاعة والمال والآلة.
ورسالة الاشتراكية أن تحقق القلب المعاكس: إعطاء الأولوية للذات. وهي لن تفلح في ذلك إلا إذا كافحت الاستلاب الاقتصادي البالغ الأهمية خارج نطاق دائرة الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية بشنها معركة سياسية ومعركة نظرية.
أي باستنادها من جهة أولى إلى الاستقلال النسبي للبنى الفوقية، ولا سيما إلى السياسة، ومن الجهة الثانية إلى الفكر العلمي الذي يفلت إلى حد كبير من إسار حتمة البنى.
أما تعريف الماركسية بأنها «حتمية اقتصادية» فيسلبها تلاحمها الداخلي ويقضي عليها بالمصادرة على المطلوب أو بالتناقض.
ولهذا كافح لينين بصلابة وقوة بالغتين ذلك التأويل الميكانيكي النزعة باسم «الاقتصادية».
بيد أن لينين جنح أحياناً (ولا سيما في المراحل الأولى من فكره بين 1902 و1904 في «ما العمل؟»)، وهو منصرف إلى التنظير انطلاقاً من التجربة التاريخية لروسيا القياصرة المتأخرة، جنح أحياناً إلى تشديد اللهجة من جانب واحد على الموضوعة المقتبسة عن كاو تسكي والقائلة بأن الوعي الاشتراكي يجب أن يُحمل إلى الطبقة العاملة «من الخارج». وقد جرى فيما بعد تأويل هذه الأطروحة تأويلاً دوغمائياً دونما تحليل – كما تنص الماركسية – للشروط التاريخية التي ولدت فيها، فأُنزلت منزلة الصحة المطلقة في كل مكان وزمان، واستغلت في تبرير البني الاستبدادية للحزب والدولة وفي تبرير بناء الاشتراكية من أجل الشعب لا من قبل الشعب.
إن الانقلاب العلمي والتقني الكبير في عصرنا قد أتاح الامكانية لوعي التحول التاريخي الذي طرأ على الطبقة العاملة في بنيتها وطبيعتها وثقافتها، ولوعي طبيعة «الكتلة التاريخية» الجديدة التي تشكلت حولها، هذه الكتلة التي ولَّدت فيها «من الداخل» الشروطُ الجديدة للعمل الاجتماعي (المتضمن قسماً متعاظماً باستمرار من العمل الفكري) حوافزاً جديدة وعفوية جديدة قابلة لأن تلتقي بكل انسجام مع الحوافز السياسة والنظرية المولودة فعلاً «خارج» الاقتصاد وإن بالترابط معه جدلياً.
هنا على وجه التحديد يكمن الجذر العميق لتحول شامل في الماركسية: في نظريتها الاقتصادية، وبوجه خاص في دوغمائيات «قيمة العمل» التي سبق لماركس، كما رأينا، أن حذر منها في «المساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»، وفي نظريتها السياسية سواء فيما يتعلق ببنى الحزب والدولة ومهامهما أم فيما يتعلق بتصور الثقافة بالذات.
***
إن المجموعة الثالثة من الظاهرات التاريخية التي كان لها كبير الأثر على الوعي المسيحي وعلى الوعي الماركسي تتمثل في قيام الاشتراكية وما لحق بها من تشويهات وانحرافات.
لقد قوبلت ثورة اوكتوبر الاشتراكية بالترحاب العظيم لا من قبل الطبقة العاملة في العالم قاطبة فحسب، بل أيضاً من قبل الأدمغة الكبيرة في العالم، فوصفها أناتول فرانس ولانجفان بأنهما ((بداية الأمل)) مكررين موقف غوته وكانط وهيغل من ثورة 1789. وقد كفت الاشتراكية عن أن تكون حلماً من أجمل أحلام البشر لتصبح حقيقة واقعة ولتقدم بديلاً عينياً عن عالم الرأسمالية والحرب.
وقد تعاظم هذا الاشعاع بعد الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في تحرير أوروبا من الكابوس الهتلري.
وكان من نتائج ذلك أن انتبه العديد من المسيحيين لضرورة فك الحلف الذي ظل قائما فعلا وحقاً لحقبة طويلة من الزمن بين كنائسهم وبين الطبقات الحاكمة والفوضى المستتبة والنزعة الاجتماعية المحافظة والثورة المضادة.
بل إن العديدين منهم أدركوا على نحو أعمق أيضاً، إزاء ما أثبتته الماركسية من نجع وفعالية في التغلب على التخلف وفي رفع بعض الأقطار المتأخرة مثل روسيا القياصرة أو صين أرباب الحرب الى المرتبة الأولى بين الأمم في زمن قياسي، أدركوا ضرورة التمييز بين ميتافيزيقا ملحدة وبين تقنية فعالة اجتماعية في الصراع ضد البؤس.
وقد قادهم استمرار إخفاقات المسيحية اجتماعياً وعجزها عن النفاذ إلى الطبقة العاملة إلى تصور إمكانية لدمج المنجزات التاريخية للماركسية في منظور إيمانهم.
وكان من نتيجة ذلك أن اتضح للعيان أن ثمة ضرورة لمجهود دائم في سبيل دمج الأبعاد التاريخية والاجتماعية والنضالية بالأيمان وفي سبيل تغيير سياسة الكنيسة تغييراً جذرياً.
وقد جاءت مآسي الحركة الشيوعية والانحرافات التي طرأت على مذهبها وممارستها على حد سواء لكي تدفع بالمسيحيين الى عتبة تحول جديد.
فلئن كان بين المسيحيين من بادر، على عجلة من أمره، ليقيم صلة تضامن بين إيمانه وبين شكل بالٍ تاريخياً من الاشتراكية (مثلما أقيمت مثل هذه الصلة في الماضي مع ملكية «الحق الالهي» أو الفاشية الاكليريكية أو «الديموقراطية المسيحية»)، فقد تنبه اليوم إلى ضرورة تصور العلاقات بين الكنيسة والسياسة على نحو أقل تبسيطاً وسذاجة.
ويذهب بعضهم اليوم إلى أن الكنيسة لم تعد مطالبة بأن تنشئ مذاهب اجتماعية تماماً كما أنها غير مطالبة بإنشاء طب أو علم فلك خاص.
ومقدرتها على الانفصال عن كل نظام قائم مرهونة على هذا الأساس بهذا الثمن: ألا تربط نفسها بنظام مؤقت. فرسالتها من طبيعة أخرى.
وتصور علاقات جديدة مع العالم لا يضع ضرورة الالتزام مثار شك على أن يكون هذا الالتزام التزام المسيحيين لا التزام الكنيسة كمؤسسة.
أما الماركسيون فقد كان لانتصار ثورة أوكتوبر وحظوتها وللدور الحاسم الذي لعبه الاتحاد السوفياتي في الحرب ضد الهتلرية وقع متناقض عليهم.
فقد خلطوا أولاً، بسبب تلك الانتصارات، مفهومي الثورة والاشتراكية بالثورة والاشتراكية الروسيتين. وكان هذا الخلط بمثابة تضييق لذبنك المفهومين، إذ انعدم التمييز بين ما له قيمة شمولية في هذه الثورة وبين ما هو روسي محض، بين ما ينبع من المبادئ وبين ما ينجم عن التاريخ.
وطوال أكثر من خمسين عاماً قام شيوعيو العالم قاطبة بتنظير المفاهيم استناداً إلى هذا النموذج الممكن كما لو أنه كوني وضروري.