كتاب المواطن – روجيه جارودي
وكان لا بد من انتظار ظهور النتائج المشؤومة لهذا الانحراف، ولا سيما بعد غزو تشيكوسلوفاكيا، حتى يطرح الشيوعيون بأعداد متزايدة مشكلة تعدد النماذج، ويعودوا بالتالي إلى ما هو أساسي في الماركسية بصرف النظر عن منجزاتها التاريخية وانحرافاتها معاً: لا الماركسية بوصفها جدولاً بالقوانين الاقتصادية وبالمبادئ الفلسفية كما تنص تعاليم ستالين، بل الماركسية بوصفها نهاجية للمبادرة التاريخية تتيح لبني الإنسان أن يكتشفوا ويحققوا، انطلاقاً من التناقضات الخاصة بكل عصر وبكل قطر، المستقبل الممكن القادر على تجاوزها.
***
إنما من خلال أزمة المسيحية والماركسية المزدوجة هذه، ومن خلال هذا الاعتراف المتبادل بتناقضات تاريخهما الماضي وتصادماته، يمكن أن يولد لقاء جديد ووعي لضرورة تكامل مستقبليهما.
والوعي الصاحي الناجم عن المجهود المشترك لمواجهة تحولات عصرنا هو وحده الذي يتيح إمكانية تجاوز الاحراجات الزائفة الموروثة عن الماضي بين دين: «أفيون للشعب» وبين إلحاد علموي ووضعي النزعة.
***
قال بوروجوف كبير كهنة بطركيه موسكو في مجمع الكنائس المسكوني في عام 1966: «إن المسيحية ثورية بطبيعتها… لكن الكنائس التاريخية لم تكن قط إلى جانب الثورة».
ولقد سبق أن أتينا بذكر ذلك. فالدين «أفيون» في كل مرة يؤكد فيها أن الحياة الأبدية، فيها وراء التاريخ وفيما وراء هذه الحياة الدنيا، هي الأساسية فيحط بذلك من قيمة مشكلات هذه الحياة الدنيا ومن قيمة معارك هذا التاريخ. والدين أفيون في كل مرة يجري فيها تصور العلاقة بين الانسان والله على نحو لا ينادي معه الانسانُ الله ولا يلاقيه إلا في «التخوم»، لا في «المركز»، كما كتب يونهوفر ليعوض عن جوانب الضعف والفشل في فكره وعمله. الدين أفيون حين يتلبس شكل ايديولوجيا، شكل ميتا فيزياء، لا شكل فعل وقرار وطريقة خلاقة للحياة. وبكلمة واحدة، الدين أفيون في كل مرة يكرس فيها الثنائيات السياسية والاجتماعية إذ يقدم عن العالم تصوراً ثنائياً هو الآخر.
ولقد نشب الخلاف منذ أيام المسيحية الأولى بين أولئك الذين كانوا يكتفون بإعداد النفوس لمجيء مملكة الرب عن طريق التوبة وبين أولئك الذين كانوا يريدون إعداد العدة لمجيء هذه المملكة عن طريق تغيير العالم.
ومنذ أن دمجت المسيحية بها، مع القديس أوغسطينوس، موروث الفكر الإغريقي الثنائي، وقبلت، مع الإمبراطور قسطنطين، الموروث الروماني فصارت دین دولة، رأى الكثيرون في الكنيسة تجسيداً مسبقاً لمملكة الرب، وفي الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تكرسها الكنيسة صورة عن النظام المراد من الرب. هذا الموروث المزدوج من ثنائية الفلسفة الإغريقية والتنظيم الروماني هو حجر الزاوية في نزعة الكنيسة المحافظة.
بيد أن هناك تراثاً آخر، أنهم في غالب الأحيان بالهرطقة واستطاع على الدوام الصمود والاستمرار، على قلة أنصاره، شاهداً على أن «المفاهيم الأساسية للثورة هي مفاهيم توراتية» كما كتب الأب كومبلان. فحين يقدم لنا سِفْر الخروج المثال الأول على نزع الصفة القدسية عن السلطة بدعوته إلى العصيان المدني ضد فرعون، وحين يعلمنا أنبياء «العهد القديم» ضرورة الانسلاخ عن النظام القائم والابتعاد عن الاستلابات كافة بتحريمهم عبادة الأصنام أو المؤسسات التي يخلقها الإنسان، وحين يعلن القديس يوحنا في رؤياه في «العهد الجديد»: «هأنذا أصنع أشياء جديدة تماماً» وينوه بأن الأيمان هو فعل المشاركة في تغيير العالم، فإن لنا في هذا كله تذكرة بأن العالم ليس واقعاً جاهز الصنع وإنما خلق متصل، وبأنه على كواهلنا تقع مسؤولية العمل والنضال في سبيل ذلك التغيير وهذا الخلق، وبأن الإنسان ليس له طبيعة واحدة ثابتة لا تحول وإنما له تاريخ مؤلف من قرارات ومن خلق لممكنات متجددة أبداً ومن تصادمات مع المستحيل.
هذا التراث يجد رافداً له في الرؤى التنبؤية للأب يواكيم دي فلور الذي كان يرى، في القرن الثاني عشر، أن «الروح القدس»، هو القدرة الخالقة لعصر جديد في التاريخ وفي الكنيسة وفي العالم. وقد كان لـ «لاهوت التاريخ» الأول هذا تأثير عميق على النقد الجذري الذي أخذه الفرنسيسكانيون الأوائل على عاتقهم، وعلى جميع حركات الإصلاح الديني والثورة الاجتماعية حتى القرن السادس عشر (ونخص بالذكر حركة يان هوس). وحتى في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر سيلقى من يستلهمه ويستوحيه في شخص فيخته وهيغل.
هذا التراث يجد رافداً آخر له في توماس مونذر، هذا اللاهوتي الأول للثورة الذي نظم في القرن السادس عشر انتفاضة الفلاحين المسلحة تمهيداً لقيام مملكة الرب. كان يقول: «إن الإيمان في مبدئه الأول يهب لنا أن نصنع أشياء مستحيلة». وكان إنجلز يرى فيه واحداً من أولئك الرجال «الذين يمكن تشبيههم بخيرة الثوريين». وأضاف يقول إنه «تجاوز العلاقات الاجتماعية والسياسية القائمة بقدر ما تجاوز لاهوته تصورات العصر الدينية». وكانت مملكة الرب التي ينبغي إعداد العدة لقيامها بالكفاح، كانت في نظر مونذر مجتمعة بلا أقنان ولا سادة، وبلا ملكية خاصة ولا سطوة دولة أو كنيسة تفرض نفسها من الخارج سلطةٌ متعالية على الضمائر. وقد أقر له مار كس فيما بعد بأن مشروعه الثوري كان أكثر المشاريع الثورية التي عرفها العالم تقدماً حتى أواسط القرن التاسع عشر.
وما يميز هذا التراث ويجعل منه مصدراً للإلهام الثوري تصوره عن العالم: فالعالم في سبيله دوماً الى الولادة، وتصوره عن الإنسان وإيمانه: فكل فرد منا خالق شريك ومسؤول عن النصر أو الهزيمة، وتصوره عن علاقات الإنسان والعالم: فالأمل المسيحي ليس منفذاً للهرب يسمو ببني آدم فوق «وادي الدموع». إن إيماناً كهذا الإيمان ليس أفيوناً بل خميرة لتحول العالم. وكل ضربة تسدد إلى مثل هذا الإيمان إنما هي ضربة مسددة إلى الثورة.
وحين نؤكد أن التبدل الطارئ على مشكلات عصرنا يتسم في آن واحد بسمات ثورة تغير البنى وبسمات انقلاب ديني يغير الضمائر، فهذا لا يعني البتة أننا ننادي بالجمع بين العمل الثوري والوعظ الديني.
إنما يعني هذا أن المناضل الثوري يعي الدور الذي يلعبه هذا الإيمان في صميم عمله.
إن الإلحاد ليس الأساس الضروري للعمل الثوري.
وليس من الصحيح تاريخياً، بادئ ذي بدء، أن المادية التاريخية والالحاد كانا مرتبطين بالعمل الثوري برباط داخلي.
وماركس في نقده للدين ينطلق من منظور تاريخي لا من منظور ميتافيزيقي: فالدين في نظره ليس محض انعكاس لشدة يعاني منها الإنسان فعلاً وواقعاً بل هو أيضاً احتجاج على هذه الشدة (احتجاج قد يفضي إلى نضال ثوري عملي كما بين إنجاز ذلك عند دراسته لحركة توماس مونذر الثورية). وماركس لا ينتقد الدين بوصفه ايديولوجيا فحسب (على نحو ما كان يفعل ملاحدة القرن الثامن عشر الفرنسي)، بل بوصفه أيضا مشروعاً إنسانياً، مشروعاً مستلباً يعارضه بمشروعه الثوري الخاص.
ليس إلحاده اذن الحاداً ميتافيزيقياً، وإنما إلحاد نهاجي يقصي جانباً «إله الثقوب». وإذا كان عدد كبير من المسيحيين يدمجون اليوم بإيمانهم ذلك النقد الجذري على اعتباره جزء لا يتجزأ منه، فهذا لأنهم يعون أن هذا «الإلحاد النهاجي» قد يكون خير مدافع عن شرف الله.
إن مشروع مارکس البرومیتیوسي مبني على فكرة أن «البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم» (وإن لم يكن ذلك عسفاً، وإنما في شروط متحددة دوماً بالماضي).
هذا التاريخ، الذي يبدأ مع العمل في شكله الإنساني الصرف أي الفعل المسبوق بوعي غايته، ينطوي، بخلاف التطور الطبيعي على لحظتين نوعيتين: فعل الإنسان الخلاق (مشروعه) ونقيضه: الاستلاب الذي يقلد حتميات الطبيعة.
واكتشاف التوتر بين هذين الحدين المتنافيين، الخلق والاستلاب، يجسد جوهر مساهمة ماركس في دراسة الذاتية.
والحال أن انحراف الماركسية على الصعيد الفلسفي يتأنى من نظرية خاطئة عن المعرفة منظوراً إليها على أنها انعكاس للواقع ومن نظرية خاطئة عن الحرية انطلاقاً من التأويل الوضعي النزعة للصيغة الهيغلية: الحرية هي الضرورة وقد صارت واعية.
إن هاتين الأطروحتين غريبتان عن فكر ماركس: فقد حارب ذلك التصور عن المعرفة منذ أن حرر أطروحاته عن فيورباخ منوهاً، بعد كانط وفيخته هيغل بالطابع الفاعل للمعرفة، وحارب ذلك التصور عن الحرية حين حددها، منذ «الأسرة المقدسة» بأنها «طاقة»، وأعاد إلى الأذهان في «18 برومير» كما في «الرأسمال» أن البشر يصنعون تاريخهم بأنفسهم.
إن الواقع في منظار ماركس وفي التقاليد الهيغلية ليس ما هو «معطى» فحسب، بل ما هو ممكن أيضا. وهذه الحقيقة هي التي تناساها ورثته من تلامذة الصف الثاني.
وقد استغلت انحرافات الماركسية الفلسفية كتبرير وأساس لانحرافاتها السياسية: فإذا لم يكن هناك غير واقع معطى وغير انعكاس صحيح لهذا الواقع، فإن إنساناً بعينه أو جماعة من الناس ستؤتمن على هذه الحقيقة الواحدة والمطلقة وستتمتع بالتالي سلطان لا محدود لأنها هي التي تحمل إلى الشعب تلك الحقيقة «من الخارج». وبذلك يكون قد وجد الأساس «النظري» لحزب أوحد ولدولة مستبدة.
والحال أن جدل ماركس مبني على العكس على تصور نقدي للمعرفة يرى في المعرفة فعلاً لا انعكاساً، فعلاً يقودنا إلى التجربة المحقفة بفرضياتها أو بنماذجها القابلة دوماً لأن يعاد النظر فيها. وتنجم عن هذا نتيجتان حاسمتان:
1- إن اللحظة الذاتية في العمل الثوري لا تمثل في «العلم» وحده (علم هو في حوزة المنظرين والقادة!) وإنما أيضاً في «مبادرة الجماهير التاريخية» (مبادرة لا توضع بعد اليوم في موضع الازدراء باسم «العفوية»).
2- التعدد: فكما يقول بارت إن كل ما أقوله عن الله إنما يقوله انسان، كذلك لا يستطيع الماركسي أن ينسى أن كل ما أقوله عن الطبيعة والتاريخ إنما يقوله انسان.
وبدون هذه اللحظة النقدية، النسبية، في الفكر اللاهوتي كما في الفكر الثوري، لن يكون هناك إلا اكليريكية تفتيشية أو ستالينية استبدادية.
إن الوعي الثوري، مثله مثل الوعي الديني، ليس محض انعكاس الوضع من الأوضاع، وإنما أيضاً، على حد تعبير ماركس، احتجاج على هذا الوضع.
ولكن هنا يبرز هذا الاعتراض: إذا لم يكن الوعي الثوري محض نتاج لوضع من الأوضاع، فما منبع مشروعه؟
الحق أننا لا نستطيع، في دراستنا للذاتية، أن نتملص من مشكلة التعالي.
والتعالي هو «التجاوز الجدلي» إذا ترجم الى اللغة الهيغلية أو الماركسية.
ولكن لا وجود لدى ماركس، وهذا بخلاف الحال لدى هيغل، لـ «روح مطلق» قائم في ذاته وفينا.
إن التعالي في منظار الماركسي لا يكون أبدأ مطلقاً: إنما هو انتقال من مرتبة الى أخرى. فالحياة تتعالى على ما هو فيزيائي – كيميائي. والإنسان ليس في حال من الأحوال محض محصلة للشروط التي تشأ فيها وتكوَّن.
إن ماركس ليس وريثاً لسبينوزا ليحبس نفسه في المحايثة الصرفة. فهو يرفض، نظير سبينوزا، كل غائية خارجية: فالإنسان يخلق في هذا العالم معناه وحريته. ولكنه على وجه التحديد خلقها ولا يكتشفها جاهزين. إن ماركس لا يعارض اللاهوت الدوغمائي الذي يصطنع تنافياً بين التعالي والمحايثة فحسب، بل يعارض ايضاً فلسفة هيغل في التاريخ ومذهب النشوء والارتقاء الوضعي النزعة.