كتابات – باسم الحاج**
مساهمة في تدوين التراث الشفهي لليسار اليمني..
“إن الناس يصنعون التاريخ بيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل في ظروف يواجهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم من الماضي”.
كارل ماركس
تفتح الوعي السياسي والوطني لدى سلطان زيد، في واقع اجتماعي بالغ التعقيد، حيث كانت ظروف التخلف والعزلة والتجزئة تفرض خوض صراع مع النظام الامامي شمالاً، ومع المستعمر البريطاني جنوباً. لذا التحق في سن مبكرة بركب مجرى صناعة الأحداث، على رأسها ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
لم يقتصر عطاء ونشاط زيد على المستوى الوطني شمالاً وجنوباً، في كونه مؤسساً وقائداً للبعض من الكيانات السياسية والمدنية والحقوقية اهمها حزب اتحاد الشعب الديمقراطي، نادي الخريجين منظمة العفو الدولية ومجلس السلم التضامن والجبهة الوطنية الديمقراطية. إلى ذلك، كان بمثابة عنوان بريد وتواصل مع قوى اليسار والسِّلم العالمي، ممثلاً لليمن، مع الفعاليات والمنتديات والمهرجانات والتجمعات الأممية العالمية المناهضة للإمبريالية. ولربما كان سلطان في فترات تاريخية معينة، هو الجهد الاستثنائي اليمني المتواصل مع الكيانات النضالية العربية والعالمية، من خلال موقعه المتقدم في الحركة الطلابية والشبابية، خصوصاً أثناء دراسته في موسكو، أو هذا ما يمكن الوقوف عليه في هذا الكتاب.
إلى ذلك، يأتي إصدار هذا العمل الحواري الاسترجاعي، في ظروف وطنية في منتهى السوء، على إثر انتكاسات وارتدادات ألحقت بالمشروع الوطني أضراراً فادحة، كما أصابت بالصميم إنجازات تحققت عبر عقود. فيما تلاقت مصالح داخلية خارجية تكالبت إراداتها عند نقطة تقويض السلم وممكنات تشييد دولة وطنية ديمقراطية، بكل ما يخلفه ذلك التقويض من ضحايا وآثار وخيمة على اليمن، سواء على المستوى المادي أو المعنوي. والحال أن هذه المآلات والانتكاسات، ورغم جروحها الغائرة، إلا أنها لن تسحق آمالنا وأحلامنا وإرادتنا، ولن تثنينا عن حقنا في التمسك بالأمل، بحتمية إنجاز وطن يتمتع أبناؤه بكل الحقوق الإنسانية، بما يضع اليمن في موقع متقدم بين شعوب العالم. من هنا بالذات تأتي أهمية السيرة التاريخية للمناضل زيد، كأحد الرموز الوطنية الرفيعة المعبرة عن معاني تحقيق هذا الهدف النبيل صوب مستقبل ديمقراطي جديد يشبه أحلام اليمنيين.
قصة كتابة هذه السيرة: شهادة توثيقية:-
نوفمبر 2016، أثناء تأبين الفقيد الرفيق محمد عبدالوهاب القاضي كنا إلى جوار بعض، نجران سلطان وأنا، تحت تأثير ثقل شعورنا بحجم هذا الفقدان، همست لنجران: “النضال لا يموت بموت الأبطال، والتاريخ لا ينسى، علينا أن نقوم بدورنا، وأن نعثر على طريقة ما، لتوثيق السيرة النضالية لرفيقنا سلطان زيد، كجزء من تعاملنا تجاه قلق التوثيق لسيرة الحركة الوطنية”. اتفقنا على الفكرة، وبدأنا نرتب لذلك.
شرعنا بتنظيم جلسات حوارية مع زيد، مزودة بمسودة أسئلة وثقنا منها 8 جلسات على مدى شهرين بما يعادل 72 ساعة. لننتقل لتفريغ التسجيل الصوتي، كتهيئة لكتابة السيرة ورقياً. إلى جانب تجميع وثائق من أرشيفه الخاص، لتدعيم مواضيع السيرة، وكملحق توثيقي لهذا العمل.
لمغادرتي صنعاء أثر على توقف العمل قرابة العامين. ولتخطي ذلك، بادر الرفيقان جازم سيف ونجران، ليكملا تحرير المسودة الأولى المتعلقة بمضامين ودلالة معاني هذه السيرة، عاكفين على العمل ما يقارب 4 أشهر، ينقبان في فصول من ذاكرتنا الوطنية الرحبة سلطان زيد.
في الأثناء، اُتفق على تغيير منهجية العمل، وإخراجه بطريقة سردية، بدلاً عن الحوارية، وتم توفير ما يلزم من الوثائق، بغرض التدقيق في التواريخ والأسماء “كما هي”، لإكساب النص مفاعيل ودلالات ومعاني حيوية، بما يجعل سيرة المناضل زيد متحركة على أرضية توثيقية تتمتع بالحيوية وعناصر الانفعال بصورة تحرر مفاعيل تاريخ الحركة الوطنية من الرتابة والجمود.
من جانبي، أرسلت بقائمة مقترحات وأسئلة إضافية تغطي الفجوات، مرفقة بقائمة من تواريخ مؤتمرات فصائل اليسار والحزب الاشتراكي. إلى جانب بعض التفاصيل التي أعرفها عن صاحب السيرة، ولم يتم تضمينها في الحوار، ناهيك عن تساؤلات أخرى لم أنجزها في حواري مع الراوي.
كل منا تقدم بملاحظات واقتراحات، كما تقدم الرفيقان عارف الشيباني وريدان عبدالدائم الأصبحي، بملاحظات فنية أسهمت في إغناء نص السيرة قبل أن نحيل ما أنجزنا إلى الأديب والسياسي محمد عبدالوهاب الشيباني، ليضع هو الآخر تصويبات وتشذيبات تحريرية مهمة.
أخضعنا العمل لمراجعات أملت علينا شرط العودة لبعض المراجع والوثائق، لضبط تاريخ معانيه المرتبطة بدلالة الأحداث والوقائع البارزة، خصوصاً أن البناء التوثيقي لمناضل سبعيني سبق أن تعرض أرشيفه ووثائقه ومكتبته للمصادرة أكثر من مرة، متجنبين إسقاط قراءتنا الخاصة للأحداث.
لا شك أن ابتعاد العمل الذي بين أيدينا عن المسارات الخاصة التي اتبعناها، كان يمكن له أن يتسبب بمشكلات من قبيل أخذ ثَيَّمات النص التسجيلية المنطوقة إلى منعزلات وتخوم بعيدة عن مناطقه الحيوية التي أشادها صاحب السيرة، إلا أننا بمجسات ضبط تحريزي الخاصة منها المُتَّبعة من قِبل نجران المعايش لجزء من وقائع هذه السيرة، تم الحرص على بقاء العناصر والمعلومات المستخدمة في بناء هذه الشهادة التوثيقية بمنأى عن أي إسقاطات وقراءات متحيزة، ليبقى حدود التدخل والتصرف عند نقطة نائية يقتصر دورها على توفير احتياجات تخدم صياغات ومساقات تحريرية فنية لا غير. ومع ذلك ظهرت تعبيرات تعكس اختلاف رؤى فريق المراجعة، ما فرض عليهم إدراج اتفاق أمر إعادته لصاحبه للمعاينة وإجراء تعديلات قبل قول كلمة الفصل وتحديد قرار الإصدار، حفاظاً على الأمانة الوثائقية، وتصحيحاً لزلات ربما وقعت هنا أو هناك.
فيما كنتُ في تعز، وزيد في القاهرة للعلاج، وباقي الفريق في صنعاء، ساعدتنا وسائل التواصل الاجتماعي في تذويب المسافات الجغرافية للاستمرار بالعمل على تكملة السيرة.
هكذا سار العمل:
• إبدال منهجية بأخرى.
• حوار تحفيزي استرجاعي للذاكرة بطريقة إثارة أسئلة عن محطات تاريخية خاصة وعامة، وتسجيلها صوتياً.
• تفريغ الحوار ورقياً وإعادة تحريره بطريقة سردية.
• مد السيرة بمراجع بحثية وتاريخية وشهادات بعضها تنشر لأول مرة.
استرجاع الماضي.. هل من جدوى؟
إن إنجاز هذا العمل، هو جزء من طموح يهدف لتدوين الذاكرة الشفاهية لليسار اليمني، خاصة وأن مكتبتهُ مازالت تفتقر للمراجع والأعمال التوثيقية لتجربته خلال العقود السبعة الماضية، على الرغم مما قدمه من أدوار وتضحيات بمختلف نواحي الحياة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ اليمن الحديث والمعاصر يصعب سبر أغواره دون إسهامات اليسار اليمني، بما فيها الحزب الاشتراكي اليمني، الذي لم يتوقف تأثيره على المشهد الوطني، بالاستناد إلى عناصر تأثيره عربياً ودولياً، أثناء تجربة حكمه وتشييده لدولة اليمن الجنوبي. ناهيك عما تعرض له اليسار من تنكيل وتشويه وتجريف من قبل سلطات متعاقبة، وما صاحب ذلك من انكفاء أغلب رموز اليسار اليمني عن التدوين، ومن غياب مؤسسات توثيق بحثية.
يمثل هذا التدوين المرتبط بنضال رُوَّاد ومؤسسي اليسار اليمني ومناضليه، إحدى المسؤوليات الثقافية المهمة، وإن كانت على شكل مبادرات كحال هذا العمل. لأن مهمة كهذه يفترض النهوض بها عبر عمل مؤسسي يتصدره الحزب الاشتراكي، ويُعد استمرار تجاهل هذا الأمر، إهمالاً لروح القرارات المُتخذة في العديد من مؤتمراته الحزبية.
إن تقديم تجارب وطنية وسياسية تاريخية كـ سلطان زيد، للأجيال الراهنة واللاحقة، يحتل أهمية بالغة في الحفاظ على ذاكرة هي الأخرى تكاد أن تتعرض للاغتيال، ما يجعلنا نتحمل مسؤولية تجنيبها هذا المأزق الخطر، حفاظاً على معانٍ عِدَّة، بما في ذلك البُعد القيمي في ظِل واقع ضاغط يُنحي روح التفاؤل يجعل الحياة عُرضة لتآكل القيم الوطنية، معززاً بازدهار مليشيات القتل والعنف، وتَسيُّد نُخب سياسية هَشة تتنافس على المال السياسي القادم من “دويلات الرجعيات الدينية”، بشقيها الشيعي والسني.
يهدف هذا العمل، ليس فقط الانتصار للحقيقة على أهميتها، بقدر ما يهدف إلى إدخال تجاربنا الوطنية والتاريخية إلى معمل النقاش والتقييم والمراجعة الناقدة المتعافية من مديح الماضي أو شيطنته، بصورة فعل نِضالي تراكمي يستند على خِبرات نتعظ من دروسها، متجنبين ما رافقها من أوجاع وآلام أثَّرت سلباً على الحياة السياسية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، حتى تبقى القيم المتبناه في أدبيات وبرامج اليسار متوهجة ومستمرة بدعم بلورة الهوية المتخلقة في الوجدان والسلوك الوطني العام بما كَرّسته من مفاهيم مغذية لمعاني العدالة الاجتماعية والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان.
هي دعوة أيضاً للباحثين والعاملين في مراكز الدراسات والجامعات، إلى استشعار خطورة غياب مؤسسات توثيق بحثية ومنهجية بما يساعد على تخطي مظاهر البؤس الثقافي والمعرفي السائدين، لأن الاستمرار في تجاهل وإغفال توثيق وتدوين التجارب التي صنع مآثرها الشعب اليمني، وفي القلب منه حركة اليسار، يساعد على انتشار هذا البؤس.
سلطان زيد رمزية لا عنفية:-
التصق العمل السياسي اليمني ودعوات التغيير بمشروعية العنف الثوري في أغلب أدبيات جماعات وفصائل قوى التغيير وهذا أمر لم يكن مقصوراً على التجربة اليمنية، بل عربياً وعالمياً، باستثناءات محدودة ، يُحسَب لـ أحمد محمد نعمان، رائد التنوير في اليمن، التخفُّف من نزعة العنف الملازمة لدعوة التغيير بالدم حين يقتضي ذلك. ولذا يعد أحد رواد العمل السياسي اللاعنفي المتحرر من أدوات القوة المسلحة، معتمداً الدعوة للتنوير وممارسة السياسة والحوار، مما دعا خصومه إلى تجريده من جنسيته اليمنية.
يحضر أيضاً أحد رموز اليسار اليمني الأستاذ الكبير “علي باذيب” بدفاعه المُبكر عن أهمية تلازم الديمقراطية الاجتماعية مع الديمقراطية السياسية مؤكدا على حق تعددية التنظيم السياسي وعلى مشروعية الصراع الفكري الشريف ونبذ العنف وثقافة الاكراه والاقصاء وإعمال العقل وقيم النقد والحوار والاختلاف والنقاش بروح وطنية وديمقراطية، واتباع أساليب وطرق بحثية وعلمية في إدارة جدل ومشكلات الشأن الوطني، وعَبَّر عن ذلك في محاضرته المسماة “الحركة الوطنية إلى أين تتجه؟” التي خطَّها في 4 ديسمبر 1960م، في علامة فارقة تُعضِّد هذا المنحى السلمي. في السياق بالضرورة الإشارة للمناضل عبد القادر سعيد، كأحد رموز اليسار في الكفاح السياسي المدني، وقد خاض جدلاً مستفيضاً مع رفاقه في الحزب الديمقراطي الثوري، محذراً من مخاطر انتهاج خيار الكفاح المسلح.
تعمدنا إبراز نماذج داعية للعمل السياسي والوطني بمفاعيل وأدوات تغيير سلمية دون متلازمة للعنف، بما هي استثناء يقوي إمكانية الحصول على طُرق لصنع التحولات المرجوة دون تضحيات وكُلف باهظة.
في مأساة 13 يناير 1986م، نأى “زيد” بنفسه أن يكون جزءاً أو ضمن اصطفاف من أطراف العنف والعنف المضاد، ملتزماً بخياراته في العمل السياسي السلمي، لذلك فهو يُعد من رموز التسامح السياسي والحوار مع الأصدقاء والخصوم، وفي أحلك وأصعب الظروف انتهج الحوار، وتعافى وترفع عن الضغينة. وفي هذا العمل السردي أثبت تفوقاً سامياً عندما أفصح عن تسامحه اللامحدود مع السجان الذي مارس عليه التعذيب، ومع كل من ألحق به الأذى، والذي مازال قائماً عليه حتى اليوم، ومنه مصادرة وظيفته ودرجته الأكاديمية المستحقة.
المتأمل في هذه السيرة النضالية من زوايا عِدَّة، سيلاحظ رفض راويها للعنف لجهة اعتماده نهج الكفاح السياسي المدني والديمقراطي، كرافعة يعتمد عليها في إدارة التباينات والمشكلات الوطنية، عوضاً عن خيارات العنف، لذا لجأ لخيار أسلوب العمل النقابي والسياسي الشعبي، أثناء تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية. وقد كان ورفاقه من الاشتراكيين يمثلون، منذ مطلع السبعينيات، حالة سياسية وطنية مفتوحة على الأحلام الكبرى الهادفة لصنع الحداثة والتغيير، منطلقين من الحقائق الموضوعية المؤكدة أن حركة التاريخ لا تسير وفقاً لمشيئة ورغبة الأفراد، وإنما هي سجال وحالات جدل بين النجاحات والإخفاقات، وبين الانتصارات والهزائم. ولعلَّ مِن أهم الضربات الموجعة التي أصابت اليسار اليمني وتجربة الجنوب الفتية، الأحداث الدامية بين الرفاق في 13 يناير، على ما تركته هذه الأحداث من جروح غائرة بين نفوس الرفاق، وبما ترتب عليها كرد فعل ومغادرة عدد من القيادات جنوب اليمن، بل مغادرة الانتماء للحزب.
ولما كان سلطان واحداً من الذين جنت عليهم الأحداث بمستوى معين، إلا أنه تعاطى مع الحدث بشكل مختلف، حيث تَخفّف من الانحياز لطرف ما، أو لحساب شيطنة طرف آخر. لقد تعاطى مع الحدث الكارثة، بصورة موضوعية، واعتبرها محطة لقراءة وتقييم الأسباب والخلفيات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي أدت بدورها مجتمعة لإنتاج الحدث الكارثة.
تعامل سلطان زيد مع هذا المُشكل من منطلق أن ما حدث وما جناه الرفاق على أنفسهم والتجربة، هو نتيجة لتركة ثقيلة من البنى التقليدية والموارد الشحيحة، وهو ما حال دون وجود قاعدة اقتصادية صناعية إنتاجية كافية لإحداث نقلة في علاقات الإنتاج. حيث حاول زيد إجراء مقاربات ومراجعات موضوعية، في سياق عمل نقدي ضروري يسبق الشروع في المضي والاستمرار ببناء تجربة الدولة الوطنية الديمقراطية بناءً على قراءات تصحيحية، مُتخفِّفاً مِن لُغة المهزوم والمنتصر ومنطق الغلبة. ذلك لأن الفترة الزمنية القصيرة للتجربة، والخبرات السياسية لقيادات الدولة القادمة من الريف، وتغييب الديمقراطية، كل ذلك أدى إلى ارتكاب إجراءات تعسفية لأعمال النظرية الاشتراكية العلمية، مما أسهم في تغذية العنف وإنتاج مظاهر الانفجار. حيث قَيَّم ديفيد هرست هذا النوع من تجارب الثورة والدولة، بـ”اشتراكية بدوية بوجه إنساني”، فيما المفكر الماركسي العراقي عبدالحسين شعبان، يعتبرها “تجربة رومانسية ثورية بمسحة قبلية ريفية في إطار مؤدلج مستنسخ لتجارب اشتراكية مختلفة”.
وفي حرب 1994م، تعامل زيد مع هذا النوع من دورات العنف، بنفس روح التقييم التي تعاطى بها مع أحداث يناير، مستوعباً الإخفاقات والثغرات التي رافقت تجربة اليسار اليمني، وانعكاساتها السلبية في إدارة الصراع مع القوى التقليدية المتحالفة مع الجماعات الدينية الجهادية المسلحة، باتصالها بأدوار تدخلات خارجية مثلت رافعة أساسية رعائية من دول النفط الرجعية، في سياق سياسة عالمية امبريالية نشطت في تقويض ممكنات تجارب دول وطنية ديمقراطية لصالح دويلات طائفية دينية واقتصادات نفطية ريعية تابعة، إذ لا يوجد ما يغريه بالذهاب للمنتصر الذي وزع فتات من غنيمة الحرب بغرض استقطاب الرموز الوطنية، في سياق نهج تدميري يستهدف القيم والنيل من الرموز الوطنية وكل المعاني النبيلة التي تخلقت عبر عقود من نضالات الحركة الوطنية.
لسنا هنا بصدد تفسير قراءة زيد للحدث الموجع، بقدر ما نحن بصدد الإشارة للجوهر الإنساني لهذا المناضل، وكيفية تعاطيه مع رفاقه الذين ألحقوا به أذى شخصياً، بروح سَمِحة مُتخفِّفة من الخصومات وردود الأفعال، لصالح أهمية شروع الجميع بتسوية تاريخية تتأسس على مصارحة ونقد ذاتي للتجربة، واعتذار من الجاني وتسامح من قبل الضحية.
استمر “زيد” يتواصل مع الجميع من رفاقه، رافضاً سياسات التخوين والملاحقات والاعتقالات والمشانق وإصدار أحكام الإدانة، مستنداً على رصيد وزاد معرفي مُشبع بقيم التسامح والحوار والتعايش.
كان “سلطان” يخلق بتجربته الخاصة مشروع عدالة انتقالية، لم تسمح لها دورات العنف المتوالية في اليمن بالشروع في إنجازها كمقدمة ضرورية لتشييد وبناء تجربة سياسية يمنية خالية من الدم.
على تجربته الطويلة في ميدان الشأن العام بصنوفه وأدواته المختلفة، وعلى ما لحقه من أذى وإقصاء وتشرد وملاحقة واعتقالات وتعذيب، غير ملحوق بإنصاف او تعويض يذكر ولو معنوياً، إلا أنه لا يمكن أن نلحظ على “زيد” ذرة ألم أو ندم، فهو دائماً معتز بما قدمه، مكتفٍ بسيرة كلها نقاء وإخلاص وزهد، مخلفاً رصيداً قيمياً غنياً وثرياً ستنهل منه الأجيال الحاضرة والمتعاقبة من القابضين على جمر القضية.
على المستوى الشخصي للديمقراطي سلطان زيد، لديه أبناء وهم آمال وماجد ونجران وجهاد، وجميعهم انتمى طوعاً للخيار الاشتراكي والسير بخط الحداثة دون إملاء مِنهُ أو تحريض أبوي، حيث لم يكن لهم من محرض سوى انتمائهم للبسطاء من الناس، ناهلين من سيرة والدهم النبيلة، والتي عاشوا جزءاً منها، كذلك سيرة رفاقه التي أسهمت مجتمعة في تخليق قناعتهم الغنية بالانتماء للوطنية والتضامن الإنساني، مشبعين بقيم الاستقلالية، متجاوزين الانحيازات العاطفية على حساب الخيارات الموضوعية والإنسانية.
مِرآة “زيد” الماركسية المعاكسة لجدار برلين:-
فرضت حادثة سقوط جدار برلين، 1989م، صيغة أيديولوجية صارمة تقول بانهيار حلم الاشتراكية بنموذجها التطبيقي المُصمَّم في أذهان ملايين سكان العالم، على تجربة الاتحاد السوفيتي، لتتربع الأيديولوجية الليبرالية الجديدة، إثر ذلك مباشرة على مشهد ومنبر خطابي فعال مدعم بمبشرين ومفكرين بائسين كـ “فرنسيس فوكوياما”، صاحب بشارة “نهاية التاريخ” عند الخيار الاقتصادي الليبرالي الرأسمالي، وتعالي دعوات اقتصاد السوق الحر، كنهج وحيد، وما رافق ذلك من تنظيرات عن موت الفلسفة والثورة والقيم، نشطت الماكينة الإعلامية والمؤسسات البحثية، ولاحقاً الفضائيات كأذرع ترويجية فعالة لمؤسسات رأسمال المال المُعولم والمتوحش، ليشهد العالم موجة وتياراً ثقافياً مُهيمِناً وطاغياً يكتسح العالم، مصادراً ومسطِحاً للثقافات الفرعية والإنسانية المتعددة، لتفرض على الدول سياسات وتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. رافق ذلك أيضاً نشاط الجماعات والتيارات الأصولية المتطرفة والعنصرية والشعوبية، في عدد من مناطق العالم، بما في ذلك قلب أوروبا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
على المستوى العربي كشفت مآلات أيديولوجية جدار برلين عن خواء معرفي وأخلاقي لدى كثير من المثقفين الذين حُسبوا على الفكر الاشتراكي، لتنشأ ظاهرة المتحولين أو التائبين، والذين أصبح عدد منهم من أنشط دعاة ومروجي اقتصاد السوق الحر، بانعكاساته المؤثرة على مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما فيها مناحي الذوق والفن، كما لو كان المكر والحيلة والغش والخديعة وسوء النية، أحد الشروط البنيوية العضوية للسياسي المهيمن على المشهد العام.
والاستثناء هو من يمارس السياسة كأحد فنون إدارة الشأن العام، لصالح حياة أكثر عدلاً وسلاماً وحداثة وعصرية وحقوق إنسان، متخففاً من أي عوائد نفعية على حساب القضية، ضمن مساعٍ لتحسين شروط الحياة الخاصة في السياق العام المأمول والمشروع لكل مواطن.
من منطلق تعامل زيد مع هذه التداعيات المتواشجة مع قول سعد الله ونوس المكثف في تعبيره: “ما يحدث ليس نهاية التاريخ، ونحن محكومون بالأمل”، نجده يفرق جيداً بين سقوط الإدارة والفكرة، بين سقوط نموذج حكم سياسي بيروقراطي مثل إلغاء الحافز في فائض القيمة وبين الفكرة الاشتراكية كخيار إنساني يناهض استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ممكن تحقيقه عبر نماذج حكم مختلفة، وبما يعزز الوجه الإنساني للاشتراكية، غير متنكر لما قدمه السوفييت للعالم الثالث ولحركات التحرر الوطني، فقد ظل يحمل عرفاناً لتجربة السوفييت، مع عدم إهمال تقديم قراءات نقدية للتجربة.. معتبراً تلازم الديمقراطية لأية تجربة تنهج الاشتراكية، وبصيغ مرنة ونابعة من خصوصيات المجتمعات، مستوعبة تطورات العصر الثورية، خصوصاً مع ثورة المعلومات وازدهار نشاط اقتصاد المعرفة وما فرضه من حاجة ماسة لمراجعات صيغة العلاقات الطبقية وتموضعاتها.
مسائل هامة يجب استيعابها لتجديد وإعادة تقديم المشروع الاشتراكي. هذا الخيار عند المناضل سلطان يكتسب استمراريته بقوة حاجة الإنسان الموضوعية والتاريخية للعدالة والسلام والتقدم الاجتماعي.
تحرير العمل المدني والإنساني من الريع:-
في مجال النضال المدني والحقوقي والنقابي، يعد “سلطان زيد” صورة مُضيئة لمعنى الكدح السياسي المترع بالصبر والمرونة والمكابدة، وشكلاً آخر من صور الكفاح الوطني، فقد كان نضاله عبر نادي الخريجين، إحدى صيغ الفكاك من سياسة التجريم الرسمي للعمل السياسي، ليحمل عبر هذه الصيغة العامة قضايا مطلبية تخدم الكثير من موظفي مؤسسات الدولة، بخطاب منزوع عنه العُصاب والتوتر المستفز لقلق المؤسسات الرسمية الأمنية، محققاً مكاسب مطلبية مهمة، أبرزها انتزاع موافقة الرئيس عبدالرحمن الإرياني على رفع راتب الموظف من 150 ريالاً إلى 500 ريال. ومع ذلك لم يسلم من شكوك النظام.
كما ذهب للعمل التعاوني والأهلي برؤى ومفاهيم أكثر نضجاً. ومن خلال منظمة العفو الدولية كمؤسس وقائد لتوجهات أنشطة مجموعاتها منذ الوحدة اليمنية المقترنة بتوائم الديمقراطية. اشتغل الماركسي “سلطان زيد” عبر هذه المؤسسة غير الحكومية الدولية، لتعزيز مفاهيم حقوق الإنسان، فيما توسع كدح “زيد” الكوني من خلال المكونات السياسية اليسارية في العالم، مجسراً تواصلات وعلاقات دينامية إنسانية أممية فاعلة عبر فروع منظمة العفو الدولية لاستقطاب تضامنات عالمية لضحايا حقوق الإنسان، ولتوجيه مناشدات وتضامنات مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق مختلفة من العالم، وفقاً لآليات العفو الدولية. ليقدم من خلال هذه التجربة، مزاوجة بين معاني مضمون النضال الاقتصادي والاجتماعي والحقوق المدنية والسياسية التي تكسب التوجه الاشتراكي الماركسي وجهة أكثر إنسانية، وماركسية راهنية. متجاوزاً فجوات جوهرية في تجارب عدد من اليساريين المدرسيين “الكلاسيكيين” من حيث الموقف من الحقوق المدنية والسياسية التعددية.
بيد أنه، حين لاحظ توجهات وممارسات من قبل بعض العاملين في المؤسسة محلياً ودولياً، تنال من طوعية العمل المدني والحقوقي ونزاهته، انبرى دفاعاً عن هذه القيم، حيث حدد موقفاً، واعتذر عن عدم الاستمرار في أداء مهام قيادية في ميدان العمل المؤسسي الحقوقي، حين شعر بممارسات تسيئ لمبادئ حقوق الإنسان، تعامل زيد بروح منفتحة مع مفردات حقوق الإنسان، وبقيم النزاهة والصدق والإخلاص، مجسداً الحفاظ على الطوعية باعتبارها أحد شروط العمل المدني والحقوقي.
الجدير بالذكر أن هذا جزء من مناخ أنشطة عدد من المنظمات الحقوقية وغير الحكومية في اليمن والمنطقة العربية، منذ منتصف الثمانينيات القرن الماضي، لتزدهر وتتكاثر في منتصف تسعينياته، وقد لوحظ توجهات أيديولوجية في عدد من هذه المؤسسات لصالح التبشير بمفاهيم الليبرالية الاقتصادية، ولوحظ تكون مؤسسات وناشطين، بل طبقة -إن جاز التعبير- تعتاش وتتربح من فائض ريع المانحين الممولين لعدد من أنشطة مؤسسات المجتمع المدني المحلية المختلفة، مع استثنائنا لجهود متميزة لمؤسسات دولية ومحلية تمثلت مبادئ وحقوق الإنسان قولاً وعملاً.
مهام متبقية:-
نتج عن هذا العمل الهام مع سلطان زيد، محتوى صفحات هذا الكتاب، ومازال لنا أسئلة تتعلق بتجربة الجنوب، وتجربة سلطان الغنية، والتي للأسف لم نستطع تدوينها كاملة في هذا العمل، على أمل أن تأتي ظروف أفضل نكمل به عملنا ولو بطبعة ثانية منقحة ومستوعبة لأية ملاحظات أو أطروحات قد تأتي تعليقاً على هذا العمل ليظل مفتوحاً على القادم. ليكون هذا الجهد كما قلنا سابقاً بمثابة دعوة مطروحة باستمرار لتنشيط التدوين والتسجيل والبحث والكشف والتنقيب والنقد.
وهناك أسئلة مهمة كـ: ماذا عن مطالب اليسار اليمني خلال سبعينيات القرن الماضي، بالتعددية السياسية في الشمال، بحكم موقعهم في معارضة الحكم؟ والصمت عن مطلب التعددية السياسية والحزبية في الجنوب، أثناء تجربة الحزب الواحد؟ باستثناء دعوة علي باذيب المبكرة في عام 1960م، ومن ثم جار الله عمر في الثمانينيات، لتصبح لاحقاً خياراً للاشتراكي اليمني، وشرطاً مرافقاً لتحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990… وغيرها من الأسئلة التي يجب أن يتواصل النقاش بخصوصها ضمن سياق أعمال نقدية للماضي، بعيداً عن أي محظورات للسؤال. وهو ما نتمنى أن نوفق فيه عبر تنفيذ حوارات مع رموز ورُوَّاد آخرين.
وأسئلة أخرى من نوع ماذا لو ظلت فصائل اليسار في مكون تحالفي بدلاً عن التوحد في أداة حزبية وتنظيمية أحادية ؟، وتغييب الاعمال والنصوص المتعلقة بأدبيات غرامشي وشيوعيي أوروبا الغربية، كالشيوعي الإيطالي والإسباني، وكذلك الشيوعي الياباني ، وما تضمنته مؤتمرات هذه الأحزاب في حقبة السبعينيات من مراجعات نقدية، ورفض لفكرة الحزب الواحد وديكتاتورية البروليتارية، والعنف الثوري، وعن المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، ومن ثم تغييبها. سؤالنا: لماذا غابت هكذا أدبيات عن النقاش في أوساط الأحزاب الشيوعية والاشتراكية العربية والوطنية؟ وعن ثورة غاندي اللاعنفية، وكيف تعاطى معها منظرو العنف الثوري؟
*تقديم كتاب سلطان زيد .محطات من تاريخ حركة اليسار في اليمن -تجربة شخصية ..سلطان احمد زيد.. يناير 2021
**سكرتير اول منظمة الحزب الاشتراكي اليمني -محافظة تعز