بلال الطيب
استخدم الإماميون الحرب النفسية بهدف إضعاف روح المُقاومة عند الثوار الجمهوريين؛ بدليل إمهال الناطق الرسمي باسم قواتهم سكان العاصمة صنعاء أربعين ساعة للخروج منها، ما لم سيتعرضون للإبادة، فيما كانت تصريحات وزير خارجيتهم أحمد بن محمد الشامي تُجلجل من لندن، وكان أشهرها قوله بإنَّ الإماميين سيدخلون صنعاء خلال ثلاثة أيام، وبدون مُقاومة!
ساعد الإماميين في ذلك التماهي، انسحاب القوات المصرية من اليمن، ومعها كل أسلحتها ومعداتها، ثم مغادرة الخبراء السوفيت، وضعف الجيش الجمهوري، وعدم إمداده بالسلاح والذخائر، إلى جانب إذاعة وسائل إعلام غربية وعربية لأخبار الزحف الإمامي – المدعوم أصلًا من دول كبرى – أولًا فأول، وتوقعها سقوط النظام الجمهوري في غضون أيام معدودة.
صُيرت تلك الوسائل من قبل تلك الدول كأبواق مُستأجرة، تؤدي دورها الفتاك في التوطئة لحصار صنعاء، بحرب نفسية أثرت في القريب قبل البعيد، وقد تكفلت المملكة العربية السعودية لوحدها – كما أفاد وزير الخارجية حسن مكي – بدفع 300 مليون لهذه الحملة الشرسة، والمُمنهجة، إلى جانب استقدام المُرتزقة الأجانب.
شنت تلك الوسائل الإعلامية حملاتها المسعورة تلك على اعتبار أنَّ ما حدث في اليمن انقلاب عسكري، كان قد تزعمه المشير عبدالله السلال، وتقوده مجاميع مُتطرفة مدعومة من الزعيم جمال عبد الناصر، والمنظومة الشيوعية، وأنَّ هذا الانقلاب يلفظ الآن أنفاسه الأخيرة.
والمُفارقة الصادمة أنَّ الإعلام العربي والمصري بالذات كان مع بدء الحصار ينشر مثل ذلك تك التُراهات، مثل وكالة (إنترتاس)، وصحيفة (الأهرام)، واعتبر البعض أنَّ التوطئة للحصار بدأها هذا الإعلام الصديق؛ بدليل أنَّ القوات المصرية لم تكد تغادر صنعاء، إلا وأخبار هجوم الإماميين في الصدارة؛ بما يُشبه الإذن المسبق بأنَّ الطريق أصبحت مُمهدة لأي هجوم، والأكثر مرارة إعلان معظم الصحف المصرية، وإذاعة القاهرة بالذات أنَّ صنعاء ستسقط بعد أربعة أيام!
كما أنَّ القائمين على تلك الوسائل لم يكلفوا أنفسهم التواصل مع معنيين في الداخل اليمني، وإنْ تحقق لهم ذلك مُصادفة، يحورون ما يصلهم بما يخدم الطرف الآخر، ويحضرني هنا استشهاد لوزير الخارجية حسن مكي، الذي طلب حينها من قيادي مصري تزويدهم سرًا بمظلات البارشوت؛ لغرض استخدامها في إيصال مواد عسكرية وغذائية إلى مدينة حجة المُحاصرة.
وفي صباح اليوم التالي، كانت الصحف المصرية حافلة بمانشتات عريضة عن صنعاء المحاصرة التي لا تصلها المؤن إلا عبر المضلات! وأنَّ الإماميين يدقون أبوبها، والأغرب أنْ يأتي تبجح أحد القائمين على تلك الصحف، ويدعى زكريا نبيل، بأنَّ الأمر لا يعنيهم، وأنَّ الجمهورية كانت موجودة في اليمن عندما كانت قواتهم هناك!
والأدهى والأمر من ذلك، تأثر بعض اليمنيين بهذه الدعاية أو تلك، خاصة في الأيام الأولى للحصار، وقد صدرت بيانات من سياسيين مرموقين في بيروت، طلبوا من إخوانهم الصامدين في صنعاء تسليمها للإماميين، وقد جاء تبريرهم بالقول: «وذلك نزولًا عند رغبة الشعب الذي يرفض النظام الجمهوري»، وكان تصريح الأستاذ أحمد محمد نعمان لبعض الصحف البيروتية هو الأقسى، ومما قاله بنبرة يأسه، أو نسب إليه كما أشار أحد المقربين منه: «الملكيون على أبواب صنعاء، والشيوعيون يدافعون عنها».
كانت نظرة السياسيين اليمنيين المُتواجدين في الخارج مُختلفة تمامًا عن أقرانهم في الداخل، أثرت تلك الحرب النفسية إلى حدٍ كبير على رؤاهم ومواقفهم، وما صانع القضية اليمنية الأستاذ أحمد النعمان إلا واحد من قائمة يطول عرضها، وذكرنا لاسمه في هذه الجزئية ليس انتقاصًا منه ومن تاريخه النضالي الذي لا يختلف عليه اثنان؛ بل لتوضيح شراسة تلك الحرب، مع التأكيد أنَّ تلك النظرة القاصرة تبددت مع مرور الوقت؛ بفعل الصمود الأسطوري لأبطال ملحمة السبعين يومًا، الذين غيروا المُعادلة، وأعادوا الأمل، وأثبتوا للأصدقاء قبل الأعداء أنَّ الجمهورية بخير.
الإعلام المصري هو الآخر، وبفعل ذلك الصمود الأسطوري، بدء يعيد النظر، ويغير من لهجته المُتحاملة، وقد ساهمت جهود وزير الخارجية حسن مكي في صناعة ذلك التحول، اتصل حينها برئيس الدعوة والفكر في الاتحاد الاشتراكي العربي كمال رفعت، وطلب منه أن يُرتب له لقاء مع الصحفيين التقدميين المصريين، وفي اللقاء شرح مكي لهم الموقف عن قرب، وطلب منهم تحري الصدق، وأنْ يأخذوا المعلومة من مصادرها الموثوقة، وفاءً للدماء المصرية الزكية التي أريقت على جبال ووديان اليمن، وبالفعل بدأت الصحف والمجلات المصرية بعد ذلك اللقاء تنشر أخبارًا مفادها أنَّ الثورة بخير، وأنَّ النظام الجمهوري باقٍ ولن يسقط.
وقبل أنْ أختم هذه الجزئية، وجب التذكير أنَّ التفاصيل الحقيقية لمعارك الدفاع عن صنعاء، ومنذ أيامها الأولى، كانت تُنشر بواسطة وكالة (أنباء شنخوا) الصينية، ووكالة (الأنباء) السورية، و(الشرق الأوسط) المصرية، حيث لم تتأثر الأخيرة بتلك الحملة المُمنهجة التي غصنا في تفاصيلها.