كتاب المواطن – روجيه جارودي
إن نتائج افعالنا تنبع أقل فأقل من نياتنا، فنحن ما عدنا نتحكم في القوى التي نخلقها.
إن أزمة 1929 الجائحة التي زعزعت اركان العالم الرأسمالي بأسره بافلاساتها المتسلسلة وبالسبعين مليونًا من عاطليها عن العمل وبتدميراتها التي لا حصر لها قد أكدت صحة توقعات ماركس في (الرأسمال): فجميع آليات الرأسمالية توقفت يومئذ عن العمل بحكم المسار (الطبيعي) لقوانين تطور النظام ولتناقضه الأساسي: التناقض بين الميل إلى تشريك الإنتاج على نحو ما يفتأ يتعاظم وبين الإبقاء على التملك الخاص للثروات والقدرات التي يخلقها هذا العمل الجماعي.
كذلك تأكدت صحة توقعات ماركس بطريق البرهان المعكوس في الاتحاد السوفياتي: فالقطر الذي الغى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هو وحده الذي نجأ من الازمة. فقد قضى يومئذ على البطالة وضمنت له خططه الخمسيه ازدهارًا سريعًا ومعدل نمو استثنائي.
وبالرغم من عنف ذلك الزلزال الاقتصادي لم تتداع الرأسماليه منهارة.
وفي محاولة للتغلب على نتائج فوضى الإنتاج في اقتصاد قائم على (المشروع الحر)، اضطرت الرأسمالية إلى أن تتخلى جزئيًا عما يشكل مبدأها بالذات: عن نظام لا يعرف من قوانين غير قوانين السوق.
فقد لجأت البلدان الرأسمالية، آخذة بعين الاعتبار النجاحات الاقتصادية الأولى التي حققها الاتحاد السوفياتي متغلبًا في زمن قياسي على عقبة التأخر الاقتصادي والتقني الموروث عن الماضي، لجأت الى تدابير كان الاقتصاديون (الليبراليون) يعدونها حتى ذلك اليوم (اشتراكية): تدخل الدولة، ثم التخطيط.
ولكن الدولة الرأسمالية في محاولة منها لتذليل المصاعب من دون ان تضع في قفص الاتهام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والركض وراء الربح، وضعت نفسها في خدمة الاقتصاد بدلًا من أن تضع الاقتصاد في خدمة حاجات المجتمع بأسره.
ولقد كان للسياسة المستوحاه من نظريات كينز، طبيب الرأسمالية بعد ازمة 1929، هدف مزدوج: الإبقاء على مستوى عال من الاستخدام وضمان معدل مرتفع للنمو، وكانت الوسائل الى ذلك: نفقات الدولة لانعاش الإنتاج، والضرائب لتمويل هذا المجهود، وسياسة الاستقرار النقدي ومكافحة التضخم.
وقد أمكن طوال ثلاثين عامًا على وجه التقريب، وبالرغم من فاصل الحرب العالمية الثانية الدامي، أمكن الحفاظ على اورثوذكسية الرأسمالية الجديدة هذه بصرف النظر عن كل عقبة. ولقد كان من المفروض بالنمو الاقتصادي أن يحل المشكلات طرًا: وضع حد للفقر، تأمين الاستخدام التام، الإفلات من التضخم، تحسين السكنى والبيئة وجملة شروط الحياة، توفير الموارد اللازمة لمساعدة العالم الثالث (للإبقاء عليه في معسكر (العالم الحر) كما أوضح ذلك بفظاظة روستو في (بيانه المناهض للشيوعية))، وأخيرًا تمويل برامج الفضاء والهبوط على سطح القمر.
ولم يتحقق من جميع هذه الأهداف غير هدف واحد: القمر ، لأن المشروع كان من مستتبعات الحرب الباردة.
أما على سائر جبهات الرأسمالية الأخرى، وعلى امتداد الستينات، فإن الأمل النيو–كينزي في نظام رأسمالي قادر على التغلب على تناقضاته الذاتية قد تداعى وانهار.
أولًا بسبب التضخم: فقد اتضح بجلاء متعاظم إن المحاولة (المجهضة) الرامية إلى الإبقاء على الاستخدام التام وعلى معدل مرتفع للنمو تتسبب لا محالة في ارتفاع الأسعار والتضخم. وباءت بالفشل جميع المراهنات التي كانت تقول بإمكانية التخلص من ذلك الارتفاع بوسائل اقتصادية خالصة. وفي كل مكان من العالم الرأسمالي (حتى في الولايات المتحدة في 15 آب 1971!) اضطرت الحكومات إلى الرجوع إلى ذلك القرار القليل الخيال والباطل المفعول، قرار تجسيد الأجور والاسعار كما في زمن الحرب!
أما المؤشر الثاني للفشل فيتمثل في أزمة النظام النقدي العالمي الدائمة. ومما له دلالته إن الولايات المتحدة، التي تسيطر بتوظيفاتها على العالم الرأسمالي، هي التي عرفت اكبر عجز في ميزان المدفوعات. وعلة هذا العجز تنبع من مبدأ سياستها بالذات: فأكبر امة صناعية في العالم كرست في الخمسينات والستينات من 10 الى 15% وسطيًا من دخلها لأغراض عسكرية. وقد أدت نفقات التسلح، المتعاظمة باستمرار والرامية إلى حفز الإنتاج الاقتصادي والحفاظ على (الظرف المؤاتي)، أدت إلى تدهور قيمة الدولار وإلى زعزعة اقتصاديات جميع الأقطار الرأسمالية بحكم هيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية على العالم.
ويتجلى التناقض الثالث والفشل الثالث في فشل (مساعدة العالم الثالث). فالتفاوت بين الأقطار (المتخلفة) والاقطار الغنية لم يتقلص، بل هو ما يفتأ على العكس يتفاقم، فلم يحدث قط في العالم ان جاع مثل هذا العدد الكبير من البشر من حيث مطلق القيمة: فثلثا الإنسانية، أي ملياران ونصف مليار من الكائنات البشرية، يعانيان من سوء التغذية ونقص التغذية. وعبثًا نبحث عن تفسير ديموغرافي لذلك: فمنذ عام 1965 يزداد الإنتاج الغذائي في العالم بمعدل 3% سنويا بينما يزداد السكان بمعدل 1,5 % فقط. والحق ان العلة الرئيسية لهذا الوضع ترجع إلى الاستعمار الجديد، توأم الرأسمالية الجديدة، الذي يفرض على بلدان العالم الثالث اسعارًا بالغة التدني للمواد الأولية التي يبتاعها منها واسعارًا بالغة الارتفاع للتجهيزات التي يبيعها إليها، بحيث أن شراء جرار زراعي في عام 1972 بات يكلف ثلاثة اضعاف أو أربعة اضعاف ما كان يكلفه في عام 1962 من قصب السكر او الفول السوداني أو البن. وفي مثل هذه الشروط فإن ما اصطلح على تسميته بـ”مساعدة العالم الثالث” هو في واقع الأمر مساعدة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية فمقابل كل فرنك او دولار او جنيه إسترليني أو مارك يمنح لقطر من اقطار العالم الثالث حتى يتمكن من الاستمرار في الشراء من أوروبا أو اميركا، يرتد إلى جيب (الواهب) اثنان أو ثلاثة من الفرنكات أو الدولارات أو الجنيهات الاسترلينية أو الماركات. وفضلًا عن ذلك يتم سنويًا انفاق 200 مليار دولار على التسلح و12 مليارًا فقط على (مساعدة) البلدان المتخلفة، المتخلفة بسبب ميراث الاستعمار القديم والرأسمالية الجديدة الراهنة.
لم منيت النبوءة الكينزية بهذا الإخفاق الذريع؟
إن المسكنات والملطفات التي حاولت الرأسمالية الجديدة أن تأتي بها قد افسحت المجال لحين من الزمن لتمويه بعض تناقضات النظام الاقتصادية من خلال تشديد حدة تناقضاته الاجتماعية والإنسانية. وبذلك لم تعد ازمة الرأسمالية تتلبس شكل الازمة الاقتصادية الكلاسيكية –من طراز 1929- بل شكل أزمة في مجمل نموذج الحضارة الرأسمالية على جميع مستوياتها: الاقتصاد والسياسة والثقافة.