كتاب المواطن / سلامة كيلة
لهذا يصبح السؤال الطبقي هنا هو، من يمكن أن يقوم بذلك؟ هل أن الرأسمال الخاص يمكن أن يتوجه إلى الاقتصاد المنتج وهو الذي (عبر ارتباطه بالطغم المالية العالمية) أسس لاقتصاد ريعي مافياوي؟ وهل أنه قادر على بناء مشاريع صناعية وزراعية ضخمة هي ضرورية من أجل حل كل هذه المشكلات وفتح الطريق للتطور الحديث؟
مع الأسف إن البرجوازية منذ بدء نشوئها ترابطت مع الرأسمال الإمبريالي نتيجة اللاتكافؤ الذي أسسته الرأسمالية ذاتها، والهوّة التي أوجدتها بين المراكز والأطراف، والتي جعلت كل تنافس في السوق المفتوح هو لمصلحتها، لأنها باتت تمتلك الرأسمال الضخم والخبرة العالية والسوق الواسعة، وهي العناصر التي سمحت لها (بالإضافة إلى قوة الدولة التي تسيطر عليها) بأن تفرض إيقاعًا عالميًا لا يسمح بنشوء رأسمالية منتجة (أي صناعية خصوصًا) جديدة، وكل المحاولات الناجحة التي جرت بعد تشكل الرأسمالية كنمط عالمي مع بداية القرن العشرين تحققت في التضاد معها، وعبر أشكال “غير تقليدية”، أي من خلال دور أساسي للدولة، فالتنافس في سوق مفتوح كان يميت ليس المشاريع الجديدة فقط بل أساسًا يميت التفكير في بناء قوى منتجة، وهو ما حوّل الرأسمال إلى النشاط في “الهوامش”، أي في المشاريع الوسيطة، وأساسها التجارة (كمستورد ومصدر)، ثم بعد سيطرة الطغم المالية شهدنا التشكل الرأسمالي القائم الآن، أي الاقتصاد الريعي، الذي يقوم على النشاط في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك والمضاربة والبورصة.
هنا ليس من حل لمسألة العدالة الاجتماعية في ظل النمط الاقتصادي القائم، بالضبط لأنه كنمط ريعي لا يسمح بذلك، على العكس، وكما أشرنا، هو الذي أسس الـ”لا عدالة”، وإذا نظرنا من منظور رأسمالي أوسع سنجد بأن الطبقة الرأسمالية لا تستطيع تجاوز هذا الشكل الريعي للاقتصاد نتيجة التكوين العالمي للرأسمال، فقد تشكلت فيه كطبقة ريعية، وبهذا يتناقض مفهوم العدالة الاجتماعية بمعناه “البسيط” مع استمرار سيطرة هذا النمط الاقتصادي، وهذه الطبقة الرأسمالية بالضرورة، وبتقديم بديل يتجاوزها.
وهذا الأمر لا بد من أن تصل إليه الحركة الاجتماعية خلال صراعها مع السلطة الممثلة لتلك الطبقة، لكن لا بد من “إدخال الوعي” للطبقات الشعبية لكي تكون قادرة على تحديد بديلها، حيث إننا ننتقل هنا من “رد الفعل”، ومن النشاط العفوي الذي يطرح مطالب مباشرة إلى بلورة الرؤية التي تسمح بتقديم “الخطوات الملية” والتكتيكات الضرورية لتحقيق هذه المطالب، وهذا يطرح مسألة الخيارات “الأيديولوجية” التي يمكنها أن تقدم الفهم لهذا الأمر، وتسمح بتحديد استراتيجية قادرة على تحقيقه.
وما دامت الرأسمالية غير معنية بتأسيس قوى إنتاج كما أشرنا، لا بد من تحديد البديل الممكن الذي يتولى ذلك، ولا شك في أن الأمر يتعلق مجددًا في دور الدولة الاقتصادي، ما دام الرأسمال الخاص ينشط في القطاع الريعي نتيجة تشابكه بالرأسمال العالمي، وكان هذا الدور يسمح بحل مسألة “العدالة الاجتماعية” وفق الصيغة الأولى كما لمسنا في تجارب الناصرية والبعث (ما كان يسمى تجارب حركات التحرر الوطني)، حيث لعبت الدولة دورًا مهمًا في الاستثمار في قوى الإنتاج، والتعليم والصحة، وفي ضمان الأجر المناسب وفرص العمل والضمان الاجتماعي، رغم أن بنية النمط الاقتصادي ظلت رأسمالية، وكان ذلك هو السبب الجوهري في نقل الثروة الممركزة بيد الدولة إلى “أفراد” هم الفئة التي مسكت زمام السلطة، ومن ثم إعادة إنتاج اللاتساوي، والنمط الاقتصادي الذي أشرنا إليه، ولهذا سيكون السؤال الطبقي مهمًا هنا، حيث إن الإجابة على أن الرأسمالية عاجزة عن تطوير الاقتصاد بما يستوعب حل المشكلات، يفرض بالضرورة البحث عن البديل، ولقد كانت الفئات الوسطى الريفية هي التي حاولت ذلك سابقًا، وأسست لـ”عدالة اجتماعية” مؤقتة تحت مسمى الاشتراكية، هل يمكن لفئات وسطى أن تلعب هذا الدور الآن؟
ربما تكون دراسة مدققة لمجمل الأحزاب التي تستند إلى الفئات الوسطى مهمة للإجابة على هذا السؤال، لكن ما يطفو على السطح، كما أشرنا حين تناول وضع الأحزاب، هو أن الميل الليبرالي هو الذي يهيمن على مجمل الأحزاب (ربما مجموعات صغيرة هي خارج هذا المنظور)، وأن الفكرة المركزية التي استحكمت خلال عقود ثلاثة سابقة تمثلت في أن لا خيار غير الرأسمالية، وأن النشاط يجب أن يتركز على أن تصبح الدولة ديمقراطية، وهذا منظور يبتعد عن مسألة تحقيق العدالة الاجتماعية بالضرورة، لأنها ليست واردة في صلبه، ولأن المنظور الاقتصادي المطروح يكرر النمط الاقتصادي القائم الذي أسس الـ لا عدالة، بمعنى أن النخب التي يمكنها الآن أن تصبح في السلطة لا تمتلك في هذه المسألة حلًا، لأنها تكرر النمط الاقتصادي الذي أنتج المشكلة، ولهذا تلمس بأن طرحها لمسألة العدالة الاجتماعية مبهم أو غائب، وكما أشرنا فإنه ما دام الأمر يتعلق بتغيير النمط الاقتصادي فإن الضرورة تفرض تجاوز الرأسمالية من أجل تحقيق نمط اقتصادي يتضمن “العدالة الاجتماعية”، وهذا يطرح التفكير في المنظور الطبقي الأيديولوجي الذي يتأسس على تجاوز الرأسمالية.
بالعودة إلى مفهوم العدالة الاجتماعية سنشير إلى أنه عادة ما يطرح كتعبير عن وجود حلول للطبقات المفقرة في ظل النمط الرأسمالي ذاته، ولقد حققت الرأسمالية في بعض مراحلها العدالة الاجتماعية (الكينزية ودولة الرفاه)، لكن الأمر هنا كان يتعلق بتشكيل اقتصادي متطور، وهيمنة رأسمالية على العالم فرضت أن تتسع الطبقة الوسطى، وأن تربط الأجور بالأسعار لكي تتوسع السوق الداخلية، وكان نهب العالم هو الذي يسمح بذلك، بالتالي كان الظرف المحدد يسمح بتحقيقها، وسنجد أنها بدأت في التراجع مع تصاعد أزمة الرأسمالية.
ولقد طرحت كصيغة “اشتراكية” في نظم حركات التحرر الوطني (منها النظم القومية الغربية)، لكن كان أساسها هو تحقيق “توزيع عادل” للثروة في ظل سيادة الملكية الخاصة (وقدسيتها)، وحق الترسمل، وهو ما جعل المساواة المتحققة في مرحلة أولى تنقلب إلا لا مساواة فظيعة بعد إذ، من خلال تفكيك القطاع العام ونهبه، ومركزة الثورة من جديد بيد أقلية تسيطر على السلطة في ظل نظام استبدادي، لأن الفئات الوسطى التي مسكت بالسلطة مالت إلى “حل مشكلاتها هي” عبر مراكمة الثروة بطرق غير “رسمية” أولًا.
وبالتالي يمكن الاستنتاج بأن مفهوم العدالة الاجتماعية كان صيغة تلطيف الاستغلال الرأسمالي، لكنها صيغة مؤقتة سرعان ما تنهار أمام مصالح الطبقة الرأسمالية المسيطرة، وهو الأمر الذي يفتح، ربما، على طرح مسألة التغيير في صيغة أكثر جذرية تحقق مطالب الطبقات الشعبية، في تكوين اقتصادي حديث.
وإذا كانت قد مرت سنوات ثلاث على بدء الثورات، وحدثت تحولات في عدد من البلدان، فإن السؤال الذي يطرح ذاته هو، هل تحققت مطالب، أو بعض مطالب الطبقات الشعبية؟ سنلمس بأن احتجاجات العمال لا زالت مستمرة، حتى في بلدان مثل تونس ومصر، فهل أن شيئًا لم يتحقق؟ وهل أن تغيرًا قد حدث في فهم هؤلاء لمطالبهم ولكيفية تحقيقها، وبالتالي توصلوا إلى مفهوم محدد للعدالة الاجتماعية؟ هنا نشير إلى المطالب، هل ظلت كما هي أم تغيرت؟ وإلى الوعي بها من قبل العمال أنفسهم، هل طوروا الرؤية أم ظلوا يطرحون هذه المطالب في حدود الوعي السابق؟ وهذا الأمر ينطبق على الفلاحين الفقراء وكل الفئات الوسطى التي طرحت مطالب محددة حيث لا بد من تلمس الفارق في الوضعية بين فترة ما قبل الثورات وما نتج عنها في المستويين.
وفي المقابل هل تطور النقاش حول مفهوم العدالة الاجتماعية؟ وبالتالي ماهي الصيغ توصل إليها؟ وما هو موقف الأحزاب اليسارية خصوصًا من هذا المفهوم بعد الثورات؟
نشير أخيرًا إلى أن الأمر يتعلق إذن بالتكوين الاقتصادي الذي يؤسس للفروق الواسعة وسوء العيش لدى قطاع كبير من المجتمع، فهذا التكوين هو الذي أوجد أغلبية مهمشة، ومن ثم كيف يطرح هؤلاء المفقرون مسألة مقدرتهم على العيش؟ وهل أن لديهم وعي في معنى “العدالة الاجتماعية”؟ أو أي صيغة تحقق لهم عيشًا كريمًا؟ لنصل إلى أن هذا الأمر يرتبط بنشوء أفكار واضحة ومحددة من قبل فئات تمتلك مشروعا مجتمعيًا يتضمن تحقيق ذلك، بالتالي سنلمس بأن هناك علاقة بين الحركات الاجتماعية و”النخب السياسية”، هي غائبة في الواقع الراهن كما أسلفنا، الأمر الذي يطرح إشكالية كيف يمكن أن يتبلور مشروع واضح يعبر عن هؤلاء المفقرين، ويحدد كيف يتحقق؟
فالمفقرون يطرحون ما يحسون به، وعلى النخب أن تبلور كيف يتحقق في الواقع ما يحقق لهؤلاء عيشًا كريمًا، لكن من خلال ثورتهم وفاعليتهم هم بالذات، بالتالي كيف يمكن أن يرتقي الوعي بمسألة “العدالة الاجتماعية” لديهم؟ وكيف يمكن أن يحققوها؟