كتاب المواطن / سلامة كيلة
الفصل السادس:
الحركات الاجتماعية ومفهوم العدالة الاجتماعية في الثورات في البلدان العربية
الثورات في البلدان العربية طرحت مسألة العدالة الاجتماعية، وفرضت البحث في السبل التي تحقق حياة أفضل للشعب، بالضبط لأن الثورات أباتت على حالات فقر شديد وبطالة عالية، وانهيار في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، وبالتالي أبانت عن حالة مروعة من الإفقار والتهميش، لكن لا بد أولًا من الإشارة إلى أن مفهوم العدالة الاجتماعية عمومي بشكل ما، فهو مفهوم متغير ويخضع للمنظور الطبقي الأيديولوجي، بمعنى أن التيارات الليبرالية يمكن أن تستخدمه، كذلك تيارات في اليسار، وكل يراه في حدود “المشروع الطبقي” الذي يطرحه، فقد عبرت تجارب الناصرية والقومية عمومًا عن شكل ما من العدالة الاجتماعية، وطرحت الكينزية صيغة محددة لشكل من العدالة الاجتماعية، كما يجري تداول صيغ أخرى في هذا الوقت تقوم على تشجيع المشاريع الصغيرة (1)، بالتالي كيف يمكن أن نتناول هذا المفهوم في سياق الثورات التي اندلعت في البلدان العربية؟ وكيف طرحت المسألة في هذه الثورات؟ وما الذي يحقق العدالة الاجتماعية؟ وأي عدالة اجتماعية؟
سننطلق من مفهوم مبسط يتمثل في تحقيق “عيش كريم” لمختلف طبقات الشعب، رغم أن هذا التعبير مطاط بعض الشيء، لكنه المقابل للوضع المعيشي القائم الآن، بالتالي ستنطلق من مطالب الطبقات الشعبية، المعنية أصلًا بمسألة العدالة الاجتماعية، لكي نلمس ممكنات تحقيقها، وفي أي تكوين اقتصادي اجتماعي، وهنا يجب أن نلمس الطابع المؤقت والطابع المستدام للمفهوم، بمعنى كيف يمكن تحقيق عدالة اجتماعية عابرة، أي تحقيق مطالب آنية يستهلكها الزمن ليعاد التمايز الاجتماعي (الطبقي) من جديد، وتعود الحاجة إلى “العدالة الاجتماعية”(2).
إن طرح مطلب العدالة الاجتماعية ينبني على وضع اقتصادي ينتج عنه “سوء توزيع الثروة”، وهو الأمر الذي يفضي إلى وجود تمايز طبقي واسع بين من يمتلك الثروة ومن يعمل، أو يتهمش نتيجة العجز عن استيعاب البنى الاقتصادية للقوى العاملة الوافدة إلى سوق العمل، وبهذا يصبح هناك طبقة تمتلك النسبة الأكبر من الدخل الوطني، وأغلبية شعبية لا تمتلك سوى جزء ضئيل لا يكفي العيش (وهذه هي الوضعية التي أنتجت الثورات في البلدان العربية).
لا شك في أن للنمط الاقتصادي أثرًا كبيرًا في تحقيق هذا التمايز، ولهذا يطرح السؤال حول هل أن النمط الاقتصادي القائم يمكن أن يصلح لكي يحقق العدالة الاجتماعية، أو أن المطلوب هو تجاوزه لبناء نمط اقتصادي يتضمن هذا الهدف؟
هذه مسألة كانت في جوهر الثورات التي نهضت في البلدان العربية، حيث جرى العمل خلال عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، ومع مطلع القرن الجديد على تشكيل “نمط اقتصادي” أوجد هوة واسعة في المجتمع بين من يمتلك الثروة وبين الطبقات الشعبية من جهة، لكنه أيضًا قام على أساس ريعي بعد أن جرى تهميش الصناعة والزراعة كقوى منتجة، وبالتالي فرض توسيع عدد العاطلين عن العمل، وأوقع المجتمع في عجز كبير نتيجة الحاجة إلى الاستيراد من جهة أخرى.
في هذا الوضع باتت نسبة البطالة مرتفعة للغاية (تقدّر بنسبة 30% من القوى العامل) (3)، وكذلك نسبة الفقر الشديد، والفقر النسبي، وسنجد بأن الأجور قد انهارت أمام ارتفاع الأسعار، وأن قطاعات اقتصادية انهارت، مثل الزراعة والصناعة، مخلفة الفقر والبطالة لنسبة كبيرة من الشعب، وهو الأمر الذي أوصل الطبقات الشعبية إلى حالة مزرية من الفقر والعجز عن العيش، وهو الأساس الذي دفع إلى انفجار الثورات، حيث كانت تلك الطبقات هي القوة الأساسية فيها.
هنا سنلمس بأن الأمر بات يتعلق بإعادة التوازن في المجتمع، ومن التساؤل حول هل أن ذلك يمكن أن يتحقق في ظل النمط الاقتصادي القائم أو من الضروري تجاوزه لتحقيق “العدالة الاجتماعية”؟
وإذا كانت طرحت الثورات شعارات تتعلق بالحرية والديمقراطية والدولة المدنية في مواجهة نظم استبدادية، فقد طرحت الثورات كذلك مطالب “اقتصادية” يمكن تلخيصها في: البطالة، الأجر المتدني، انهيار التعليم والصحة وتحويلهما إلى سلعة، انهيار البنية التحتية، تهميش المرأة، وهذه مطالب فئات واسعة من الشعب انطلاقًا من مجموعة الإحصاءات التي تتناول الفقر والبطالة والتهميش (4)، دون أن نشير إلى الملاحظة العيانية التي تؤكد الأمر ذاته.
ولا شك في أن تحقيق العدالة الاجتماعية بمعناها الواسع يتطلب تحقيق هذه المطالب أولًا وبالأساس، حيث إن العدالة تطرح هنا مقابل عدم المساواة الذي تشكّل خلال العقود الماضية، والذي أفرز حالات الفقر والبطالة والتهميش، وفرض في الأخير انفجار الثورات.
منذ ثورة تونس طرحت مسائل العمل والأجر، وتكررت في مصر، وكان واضحًا أن الطبقات الشعبية لم تعد تحتمل الوضع الذي تعيشه، حيث أفقرت وتهمشت إلى حد أنها باتت تحس بأنها على شفير الموت جوعًا، لهذا تعمم مطالب العدالة الاجتماعية، وأصبح شعارًا رئيسيًا في الثورات (5)، وهذا يفترض البحث في المعنى الذي قصدته هذه الطبقات، هل أنه يعني تحقيق تلك المطالب فقط، أو أنه يتضمن إعادة توزيع الثروة في المجتمع؟ أو أبعد من ذلك، أي تغيير النمط الاقتصادي الذي فرض هذه الوضعية؟
في المستوى الشعبي سنلمس بأن الأمر ظل منحصرًا في تحقيق المطالب، أي العمل والأجر وإعادة الأرض للفلاحين (كما في مصر خصوصًا)، وربما الأمل في تعليم مجاني وضمان صحي، وتحسن في البنية التحتية، أي ظل منحصرًا في تحسين وضع هذه الطبقات لكي تستطيع العيش، دون وعي بكيفية تحقيق ذلك نتيجة أن هذه الطبقات وصلت إلى ذلك عبر حسها (أصلًا المتعلق بتهديد وجودها)، لأنها لا تمتلك الأدوات المعرفية التي تسمح بتحليل الواقع وتحديد السياسات التي تفضي إلى تغييره بما يحقق مطالبها، هذا الأمر يجعلها تدافع عن المطالب ولا تتقدم خطوة لتحديد كيف يمكن أن يتحقق ذلك، وها أن سنوات تمّر والمطالب هي ذاتها تطرح، دون الوصول إلى أن الأمر يقتضي تغيير كلية السلطة، وليس تبديل أشخاص من السلطة بآخرين، وأن المسألة تتعلق بمصالح طبقية هي التي تفرض على السلطة الدفاع عن النمط الاقتصادي القائم ورفض تغييره، ومن ثم التسويف لكي لا تحقق مطالب الشعب، لا شك أن التجربة أفهمت القطاعات النشطة من هذه الطبقات أن الأمر يبدو أبعد من تغيير أشخاص، ومن ثم لا بد من البحث عن بديل.
بالتالي سنلمس بأن الطبقات الشعبية تعتبر أن معنى العدالة الاجتماعية هو تحقيق مطالبها آنفة الذكر، وهي لم تربطها بعد في صيغة التغيير السياسي الاقتصادي الضروري لكي تتحقق، وهذا مخاض لا زال يخترق الحراك الشعبي، وربما أًصبح مدار نقاش وتلمس من قبل القطاعات النشطة، لكنه لم يتبلور بعد في صيغة واضحة تحدد كيفية تحقيق “العدالة”، وهل أن ذلك يرتبط بتعديل النمط الاقتصادي القائم (عبر فرض الضرائب التصاعدية على الرأسمال، وتحقيق شكل كينزي في الاقتصاد، أو حتى الشكل الناصري)، أم أنه لا بد من إزالة النمط الاقتصادي القائم وتأسيس نمط بديل يتضمن حلًا حقيقيًا للمشكلات المجتمعية، وبالتالي يحقق تلك المطالب؟
في مستوى آخر، تبنت بعض الأحزاب مطلب العدالة الاجتماعية، خصوصًا هنا أحزاب اليسار، لكن سنلمس بأن المفهوم لديها مشوش، وينحصر في الغالب في تعديل الواقع الاقتصادي القائم من خلال فرض ضريبة تصاعدية (6)، أو الإشارات العامة حول فرض توزيع عادل للثروة، أو بضمان حق العمل والأجر المناسب، والتعليم والصحة المجانيين، وتوفير الخدمات للشعب، دون لمس النمط الاقتصادي ذاته.
مع ملاحظة أن الأحزاب التي طرحت هذه الموضوعات كانت ضعيفة وقليلة، بينما كانت الأحزاب الإسلامية والليبرالية تركز على حرية الاقتصاد واستمرار اللبرلة، دون إشارة، أو مع إشارات ضعيفة تتعلق بمعالجة وضع الفقراء، أكثر من ذلك جرى الهروب من معالجة هذا الأمر إلى تحويل الصراع إلى صراع بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية من أجل التعمية على المطالب الجوهرية التي تطرحها الطبقات الشعبية، أي أن الأمر فرض تهميش وتنحية كل بحث ونقاش في مسألة “العدالة الاجتماعية”، أو في طرح حلول للمطالب المتعلقة بالعمل والأجر والمناسب، والتعليم المجاني والضمان الصحي، وهذا أمر طبيعي لأن الإسلام السياسي (والإخوان المسلمين خصوصًا) يطرح الحل الليبرالي تحت مبدأ فقهي يقول إن “في التجارة تسعة أعشار الربح”، وهو أصلًا يعتمد على قاعدة اجتماعية من التجار، وأيضًا لأن الأحزاب الليبرالية تعتمد بداهة على الاقتصاد الحر وتعميم اللبرلة، وهي في بلداننا غير قادرة على تحقيق الحل الكينيزي، حيث إن تشابكها مع الرأسمال العالمي حولها إلى رأسمالية ريعية تنشط في الخدمات والسياحة والعقارات والاستيراد والبنوك، هذا التكوين هو أصلًا ما فرض تهميش الكتلة الأكبر من الشعب، وأوجد مشكلات البطالة والفقر وانهيار التعليم والصحة والبنى التحتية.
كل ذلك يوضح بأن مفهومًا واضحًا للعدالة الاجتماعية لم يتبلور بعد في الحراك الشعبي، وأن الأحزاب التي “انتمت” للثورة بعضها ليس معنيًا بالأمر لأن توجهاته الاقتصادية تتنافى مع أي شكل من أشكال العدالة، وبعضها يتناول الموضوع بشكل مشوش لأنه يطرحه في سياق النمط القائم، وربما بخجل في الغالب، حيث إن كل الأحزاب تقريبًا لا زالت تركز على شكل الدولة وطبيعة السلطة دون أن تلمس النمط الاقتصادي بشكل جدي، أي تتناول علاقتها كأحزاب سياسية بالسلطة، ولا شك في أن “موجة الديمقراطية” التي اجتاحت العالم مع العولمة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية قد أثر كثيرًا في حصر نشاط مجمل الأحزاب، بما في ذلك اليسار، في مسألة الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وهذا ما حكم الخطاب السياسي طيلة عقدين سبقا الثورات، وكانت مطالب الطبقات الشعبية خلال الثورات هي التي فرضت طرح مطلب “العدالة الاجتماعية” في الواقع، حيث أخذ النقاش حوله مجراه، وإن بشكل ضعيف، دون أن تلزم الأحزاب “الأكبر” به، وبات مطلبًا لبعض أحزاب اليسار، لكن في تفسيرات متعددة، لا تقطع مع النمط الاقتصادي القائم، أي ترى إمكانية حل مشكلات البطالة والأجر المتدني من خلال تحديد الحد الأدنى والأعلى للأجر، أو من خلال فرض الضريبة التصاعدية على الرأسمال.
هذا الأمر يفرض معالجة مسألة العدالة الاجتماعية في بعدها الاقتصادي، ومن ثم الطبقي، أي هل أن هناك إمكانية من خلال إصلاح جزئي أو شامل في النمط الاقتصادي القائم أن تتحقق العدالة الاجتماعية؟ وبالتالي هل أن الطبقة الرأسمالية المسيطرة، أو بعض فئاتها التي تسعى إلى السيطرة، معنية بإجراء هذا الإصلاح؟
يمكن أن ندرس المسألة على ضوء تحديد أن “العدالة الاجتماعية” يمكن أن تتحقق من خلال تحقيق المطالب المباشرة، أي العمل والأجر، وهذا شكل أولى لها يضمن المقدرة على العيش، لكن يمكن أن تكون أوسع من ذلك من خلال تحقيق الضمان الاجتماعي الشامل ومجانية التعليم، وضمان الحق في العمل.
نظريًا يمكن أن تتحقق هذه المطالب من أجل تحقيق “العدالة الاجتماعية في صيغتها الأبسط”، في إطار النمط الاقتصادي الرأسمالي القائم، وهذا ما تحقق في البلدان الرأسمالية، وما مثلته تجارب النظم القومية، فالأمر يتعلق بحل سريع يستجيب لهذه المطالب ضمن النمط الاقتصادي القائم، أي عبر تشغيل العاطلين وزيادة الأجر كسياسة تهدف إلى توسيع السوق، أو ربما أوسع من ذلك من خلال فرض حق العمل والضمان الاجتماعي الشامل والتعليم المجاني (كما طرحت الكينزية)، هذه في صيغة أولى.
لكن هناك صيغة ثانية تتعلق بحل جذري ينطلق من كيف لا يمكن أن يعود عدم التساوي في توزيع الدخل، والحفاظ على مستوى مستقر للمعيشة، وهنا تصبح المسألة أبعد من أن تكون عدالة اجتماعية وفق كل النظريات المطروحة حول المفهوم، وهو ما يفرض تجاوز النمط الرأسمالي بالضرورة، أي يجري الحديث عن الاشتراكية.
وهذا يطرح السؤال حول الحل الممكن؟
أي كيف يمكن توفير فرص عمل؟ وكيف يمكن زيادة الأجور بما يحقق مستوى معيشي لائق؟
أيضًا من سيقوم ببناء منظومتي التعليم والصحة لخدمة المجتمع؟
طبعًا هذا يتطلب توظيف رأسمالي في قطاعات تسمح باستيعاب اليد العاملة العاطلة والتي تدخل سوق العمل سنويًا، وتسمح بتوفير فائض مالي يسمح بزيادة جدية في الأجور، ويوفر إمكانيات بناء جدي لمنظومة التعليم والصحة، والبينة التحتية.
وهو السؤال الذي يتعلق بالنمط الاقتصادي الذي يحقق ذلك، حيث لا بد من الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج، فهذا وحده هو الذي يسمح بتحقق حل جدي لمشكلة البطالة والأجر المتدني، ويفرض بناء منظومتي التعليم والصحة، وأيضًا البنية التحتية، فقد ارتبطت مشاكل الإفقار والبطالة وتلاشي التعليم والصحة المجانيتين، وانهيار البنية التحتية بالتحول الليبرالي الذي حدث منذ سبعينيات القرن العشرين، والذي أفضى إلى تفكيك “القطاع العام”، وتسليع التعليم والصحة وإلى تحكم طبقة “ضيقة” بمجمل الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد كان يمتلك قوى إنتاج في الزراعة وإلى حد معين في الصناعة، إلى اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد والبنوك، والمضاربات في أسواق المال.
وفي هذا السياق انهارت منظومة الضمان الاجتماعي وحق العمل والتعليم المجاني والصحة المجانية، وهذا النمط الاقتصادي هي المهيمن الآن، وكما أشرنا هو الذي فرض انفجار الثورات، وطرح المطالب التي كررتها الطبقات الشعبية.
ولقد باتت الطبقة الرأسمالية المسيطرة جزءًا تابعًا في إطار النمط الرأسمالي العالمي، ومخضعة للطغم المالية، لمصالحها وسياساتها، ولهذا لمسنا كيف أنها ترفض حل مشكلات الفقر والبطالة، وتتمسك بالنمط الاقتصادي دون أن تفكّر في إصلاحه أو تغيير بعض بنياته (ومن ضمن ذلك كان الإخوان المسلمون الذين يعبرون عن فئة رأسمالية تجارية مافياوية “تقليدية”)، واستمرار الموجة الثورية في البلدان التي تخلصت فيها من رئيسها وفتحت على “الديمقراطية”، يؤشر إلى هذا “التعنت” الذي يسم تلم الطبقة، ولهذا ظلت مطالب الطبقات الشعبية كما كانت في زمن “النظام القديم”، أي حق العمل والأجر المناسب والتعليم والصحة المجانيين.