بلال الطيب
يُؤكد البعض أنَّ استعدادات الإماميين لإسقاط صنعاء كانت قد بدأت حين اكتفى المصريون بحماية مثلث صنعاء – تعز – الحديدة، بخطة عسكرية أخذت اسم (النفس الطويل)، صحيح أنَّ القوات المصرية بدأت حينها بالاعتماد على بعض الوحدات العسكرية اليمنية، إلا أنَّها – أي الخطة – أعطت بيت حميد الدين ومُرتزقتهم فرصة كبيرة لتركيز وتكثيف أنشطتهم بين صفوف القبائل، والاستعداد لإسقاط صنعاء.
ترجع التمهيدات الأولى لحصار صنعاء إلى شهر أغسطس1967م، حيث قامت مجاميع إمامية بقطع طريق الحديدة – صنعاء، تم حينها تجميع قوات عسكرية وشعبية لمواجهتها، نجحت في طردها، لتبقى تلك القوات، والتي كانت قوات الصاعقة بقيادة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب إحداها، في تأمين ذلك الطريق حتى بداية حصار صنعاء الفعلي.
كانت التجمعات الجمهورية حينها مُفككة الأوصال، وما أن اقترب الخطر من صنعاء، حتى أخذت تتقارب وتتجانس، ولم يُترك للثرثرة السياسية مجالًا، وطغى – كما أفاد مُحسن العيني – الشعور بالخطر على الجميع، الخطر على الجمهورية، والخوف على الثورة، ومكاسب الشعب، فالمصريون يرحلون ويستعدون لإجلاء قواتهم، والسعوديون يضاعفون من دعمهم للإماميين.
شعر الجميع حينها أنَّهم يخوضون معركتهم المصيرية من أجل المُستقبل، وفي سبيل التقدم الاجتماعي، والاستقلال الوطني، وضد التدخل الخارجي، وعلى الفور فُتحت المخازن، ووزعت الذخائر، وبدأ التدريب الميداني في ساحات المدارس، والمعسكرات، كما تحركت النخب السياسية تؤكد الرغبة في السلام، وتطلب العون من أصدقاء الجمهورية، وتُشهد العالم على عدالة القضية.
كان هجوم الإماميين الأول على جبل حروة، القابع على البوابة الرئيسية التي تربط العاصمة بثلاث طرق رئيسية سنحان – خولان – بني بهلول، سارعت حينها قوات شعبية بقيادة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر لاستعادته، بمساعدة مجاميع من قوات الصاعقة قادمة من مدينة معبر، انسحبت القوتان من شدة القصف، وهكذا تحقق للإماميين احتلال الجبل 24 نوفمبر 1967م، وقطع طريق صنعاء – تعز، وقد اتهم الشيخ الأحمر القبائل المُحيطة بذلك الجبل بخذلانهم للجمهورية، وتنكرهم لجميع الاتفاقيات المُبرمة سلفًا.
تقدم الإماميون دون مقاومة إلى مشارف صنعاء، وتمركزوا في دار الحيد، ودار سلم، وحزيز، وأرتل، لتُعطى في اليوم التالي الأوامر للقوات المُتواجدة في طريق الحديدة – صنعاء بسرعة الانسحاب؛ كي لا ينفرد بها الإماميون القادمون من ذلك الاتجاه، والأهم من ذلك تعزيز قوى الدفاع عن العاصمة من الداخل، وتضييق قُطر الدائرة الدفاعية، في خطة مغايرة لما حدث في مارس من العام 1948م.
تم سحب قوات الصاعقة بقيادة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب، والمظلات بقيادة النقيب حمود ناجي من جبلي القرن والمنار إلى داخل العاصمة، وسحب لواء النصر من جبل النبي شعيب إلى جبل براش شرق صنعاء، وسحب كتيبة لواء الوحدة من بني حشيش إلى شمال مطار الرحبة، وسحب الكتيبة الثانية من لواء النصر من البيضاء ورداع إلى جبل براش، والكتيبة الثانية من ذات اللواء من جبل النبي شعيب إلى تبة العرة لحماية المطار الجنوبي.
كما تم سحب مجموعة المقدم عبدالله دارس من برط للمُشاركة في الأعمال القتالية في المحور الشمالي للعاصمة، وسحب سرية أحمد بن سعد من مأرب، وإلحاقها بالحرس الجمهوري، وفشلت محاولة سحب لواء الثورة من محور ثلا – مسور؛ لأنَّ الإماميين قطعوا الطريق، وبقي ذات اللواء في مكانه كنسق ثاني لمشاغلة العدو، ليتم نقل عدد من أفراده بطائرة الداكوتا إلى موقع الاستاد الرياضي حاليًا، وكانت قوة احتياطية في سلاح المشاة.
كانت الاستراتيجية الدفاعية للقوات الجمهورية، والتي لا يتجاوز عددها الـ 4,000 مُقاتل قائمة على مبدأ الدفاع الضيق، اللواء العاشر يدافع عن الجانب الغربي، ويتمركز في سفوح جبل عصر وبيت عذران، وعن الجانب الشرقي لواء العروبة مُشاة، ويحتل مواقع على تباب مُطلة على الوادي، وقرية القابل، ومُدعم بدبابات ت34، ولواء الوحدة مُشاة، ويحتل مواقع مُتناثرة في ذات المحور، وكتيبة من لواء النصر، وطلاب الكلية الحربية المدعومين بالمدفعية، ويحتلون مواقع في جبل نقم.
وعن الجانب الشمالي كتائب مدفعية ميدان سواحلي، وقواعد صاروخية ب ام 13 تحتل مواقع نيران في ذات المحور، بالإضافة إلى مجموعة أفراد من الأمن العام، وطلاب كلية الشرطة، وكتيبة المدرعات من اللواء الخامس، وكتيبة من لواء النصر مدعومة بدبابات، وعن الجانب الجنوبي مجموعة من الأمن المركزي، وفصيلة من قوات التدريب المهني.
فيما كتائب الصاعقة والمظلات، والتي تجاوز عددها 1,000 مُقاتل، كانت تَعمل باستماته كقوة ذات فعالية على كل الجبهات، ومُشكلة القوات الجمهورية مجتمعة تكمن في أنَّ أعدادها وإن مكنتها من حماية أبواب المدينة إلا أنها تُقصر في إمكانية القيام بدور هجومي لدحر المُتسللين في معركة حاسمة، يضاف إلى ذلك أنَّها لم تكن ذات وحدات منتظمة ومتكاملة، مما أدى إلى اختلال موازين القوى لصالح القوات المعادية بنسبة 7-1.
بدأ حصار صنعاء الفعلي صبيحة يوم 28 نوفمبر 1967م، بعد أنْ فرض الإماميون سيطرتهم على مُعظم السلاسل الجبلية المُحيطة بمدينة صنعاء، ما أكسبهم كثيرًا من الميزات التكتيكية، حيث تمكنوا من نصب مدافع بعيدة المدى على قمم تلك الجبال، وبدأوا بقصف وسط العاصمة المُحاصرة.
وهكذا، وبالتزامن مع مغادرة آخر جندي مصري ميناء الحديدة، وطرد آخر جندي بريطاني من عدن 30 نوفمبر 1967م، تعرضت صنعاء لقصف مدفعي من بيت بوس، وجبل عَيْبَان، وقد سقطت أولى القذائف على باب النهرين، ثم جامع عقيل، ثم توالت القذائف على الإذاعة، والقصر الجمهوري، وثكنات العرضي، والكهرباء، فيما تولت المدفعية الإمامية المنصوبة على جبل الطويل في بني حشيش قصف الروضة، ومصنع الغزل والنسيج، والأحياء الشمالية للمدينة، ومدرسة المظلات، ومطار الرحبة، لتستخدم الطائرات مهبطًا صغيرًا جنوب العاصمة، ميدان السبعين حاليًا، وقد أحدث ذلك القصف الغادر بعض الخسائر في الأرواح، والمباني، والممتلكات.
حدثت حين ذاك عديد مواجهات أعادت الثقة بالنفس، وفي اليوم الذي سقط فيه جبل عَيْبَان، شنت القوات الجمهورية بقيادة النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب هجومًا مُضادًا، إلا أنَّ تلك القوات – للأسف الشديد – لم تتمكن من استعادة الجبل، وعن تلك المعركة قال عمر الجاوي: «في ذلك اليوم، قدمت الفئات في صنعاء جلَّ ما تقدر عليه من أجل الانتصار، فلقد قاتلت القوات المسلحة في التحام بالسلاح الخفيف والمتوسط».
وفي نهاية الأسبوع الأول للحصار ردع الجمهوريون هجوم القائد الإمامي الفريق قاسم مُنصر 6 ديسمبر 1967م، وطردوا قواته التي اخترقت الدفاعات الجمهورية من الحافة، وظهر حمير، وقرية الدجاج، وهذه الأخيرة قريبة من مصنع الغزل والنسيج، سُميت تلك المعركة بـ (معركة شعوب)، وكان للنقيب عبدالرقيب عبدالوهاب وقوات الصاعقة دورًا بارزًا فيها، وشهد بذلك قاسم مُنصر نفسه، ونعته ببطلها، قام عبدالرقيب بهجوم مضاد، وتمكن من إفشال هجوم العدو، ومكث ثلاثة أيام في أحد المواقع يقاتل كجندي.
كما كان للمقدم عبدالله دارس ومجاميع قبلية من برط دورًا مُكملًا في تلك المعركة، احتل تبة المطلاع، ورابط فيها حتى انتهى الحصار، وسميت من يومها باسمه (تبة دارس)، وكانت تلك العملية أول نصر تحققه القوات الجمهورية خلال ملحمة السبعين يومًا البطولية.
وفي اليوم التالي انتقل الرئيس الإرياني وأغلب قيادات الدولة إلى مدينة الحديدة، بعد أن لاحقتهم القذائف الإمامية حيثما حلوا، وبدقة عالية؛ بل أنَّه وفي أحد الأيام – كما أفاد عبدالعزيز عبدالغني – سقطت في القصر الجمهوري 12 قذيفة والرئيس موجود فيه، انتقل الأخير بعد ذلك إلى منزل الشيخ محمد علي عثمان، فكانت القذيفة الـ 13 في انتظاره.
قام قبل ذلك بيومين إماميون من خولان باحتلال جبل النهدين، لم يمض يوم على سيطرتهم على الجبل، حتى جُمعت مجاميع قبلية وحرروا الجبل، إلا أنَّ الإماميين عادوا وسيطروا عليه مرة أخرى، فكانت قوات الصاعقة والمظلات هذه المرة لهم بالمرصاد.
في ظل تلك المتغيرات العاصفة، كان لا بد من تماسك الصف الجمهوري أكثر، خاصة بعد تخلي عدد من الضباط الكبار عن مسؤولياتهم، وقيامهم برحلة الشتاء إلى القاهرة، ودمشق، وبيروت، وأسمرة، في البدء عُين النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب ذو الـ 25 ربيعًا رئيسًا لهيئة الأركان 10 ديسمبر 1967م، تحت ضغط وإلحاح كبيرين من زملائه الضباط ذوي الرتب الصغيرة، مع استمراره في مهامه قائدًا لقوات الصاعقة، وشوهد الرجل وهو يحمل جهاز اللاسلكي على ظهره للاتصال بقادة الجبهات، في الوقت الذي يحتزم فيه بقنابله وذخيرته، ويحمل على كتفه رشاشه السريع، وتحدث مقربون منه أنَّه كان يستبسل في مواجهة العدو، ويقوم بضرب النار حتى تسيل الدماء من أذنيه.
قام النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب بعد تعينه بتجميع أفراد الشرطة العسكرية مُعززين بمجموعة من الصاعقة بقيادة النقيب صالح أبو بكر بن عامر، ليقوموا جميعهم بهجوم مضاد على القوات الإمامية المُتمركزة في القرب من جبل عصر، وطاردوها حتى الصباحة، وتم أسرها، والاستيلاء على أسلحتها، ثم عرضها في ميدان التحرير، ويعتبر هذا – كما أفاد محمد صالح الحنبصي – ثاني نصر حققته القوات الجمهورية.
عاشت صنعاء أقسى لحظات الحصار، تملك اليأس من تبقى من قادة الجيش، واجتمعوا في منزل القائد العام ورئيس الوزراء الفريق حسن العمري مع البقية الباقية من الوزراء، ومُمثلي المقاومة الشعبية، والمشايخ 28 ديسمبر 1967م، واقترح صاحب المنزل الداعي لذلك الاجتماع عودة اللجنة الثلاثية المطرودة سلفًا؛ تحت مُبررات أنَّ الأخيرين يقتربون من عَصر، والظروف العسكرية لا تُساعد على هزيمتهم، وأنَّ برقيات المسئولين في الحديدة تؤكد نفاد الذخيرة، والإمدادات، والوقود، وأنَّ سلاح الطيران لن يتحرك من الغد.
قوبل ذلك الاقتراح بالرفض من قبل القيادات الشابة، والمقاومة الشعبية، وكان جوابهم: «لا مساومة على مصير الثورة، وينبغي أنْ نقاوم حتى النهاية»، رافعين شعار (الجمهورية أو الموت)، وأقنعوا الجميع بضرورة الدفاع والمقاومة حتى النهاية، ولو كان أولئك الأبطال أذعنوا لخيار المُفاوضات لما صمدوا – بعد ذلك – ومُقاتليهم لحظة واحدة.
مع نهاية الحصار، صرح الفريق العمري لوسائل الإعلام أنَّ مجموع الهاونات والمدافع الصاروخية التي كانت تصلي صنعاء بحممها، تجاوز الـ 100 مدفع، فيما قدرت القذائف التي سقطت داخل العاصمة بحوالي 3,000 قذيفة.
وفي حساب النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب رئيس هيئة الأركان، أنَّ 40 عملية عسكرية – هي مجموع العمليات التي جرت خلال تلك الفترة، وأتبع تصريحه بالقول: «كان علينا أن نحرز كل يوم انتصارًا صغيرًا، ومن مجموع هذه الانتصارات الصغيرة يتحسن الموقف يومًا بعد يوم، حتى نتمكن من احراز نصر كبير».
حَلَّ شُباط – فبراير 1968م، بدأت بوادر الحسم تلوح في الأفق، ومن3 إلى 8 من ذات الشهر، كانت معارك عَيْبَان الأخيرة تحجز صفحاتها بزهو في كتب التاريخ.
كطرفي كماشة، وتحت ستار كثيف من الضباب، وزخات خفيفة من المطر، أطبقت حشود النصر على القوات الإمامية المُتمركزة هناك، قوات مُسلحة ومقاومة شعبية خرجت من صنعاء بقيادة النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب، ومن الحديدة خرجت قوات أخرى مدعومة بقوات شعبية قوامها 5,000 مقاتل، بقيادة الشيخ أحمد عبد ربه العوضي، مسنودة بسلاح الطيران.
كغير العادة، كان صباح 8 فبراير 1968م زاهيًا مُشرقًا، تحطمت فيه متارس الإماميين، وفروا تاركين مئات القتلى، وعشرات المدافع، وفي منطقة متنه التحمت قوتا فك الحصار، شاع الخبر فتوافدت الجماهير مُحتفية بذلك النصر الكبير.