سلامة كيلة
الفصل الأول:
الثورات وآفاقها: نظرة أولى
الانتفاضات في الوطن العربي، لماذا حدثت الان؟ وإلى أي شيء يمكن أن تفضي؟ وما هو مآلها الأبعد ومهمات اليسار؟
بدأت الانتفاضات العربية فجأة، ودون سابق إنذار، هذا ما ظهر لكثير ممن يشتغل بالسياسة، سواء تعلق الأمر بالنظم أو الإمبريالية أو الأحزاب، لكنها كانت تتقد منذ زمن بفعل التغيير العميق في الوضع الاقتصادي الذي بدأ بُعيد انهيار المشروع القومي ونهاية دور الدولة الاقتصادي، وأفضى إلى انتصار الليبرالية في أوقات مختلفة منذئذٍ، ولأن اليسار هرب من التحليل الماركسي فقد وقع في العجز عن تلمس وضع الطبقات الشعبية التي يظن بأنه يمثلها، ولهذا فوجئ كما فوجئ الآخرون.
ثم انتصرت الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا، وأجهضت في اليمن ودُفعت إلى الاستعصاء في سورية، وكانت قد سُحقت في البحرين. كما أن بلداناً أخرى تسير في مسار تفاقم الصراعات التي ستفضي إلى الانتفاضة، مثل المغرب والأردن والسودان والجزائر وحتى السعودية. لكن، قاد انتصارها في تلك البلدان إلى أن يصل إلى السلطة قوى إسلامية شاركت بشكل هامشي أو حتى لم تشارك في الانتفاضات، وهو الأمر الذي فرض الخوف من هذه النتائج.
وكانت الانتفاضات في كل من ليبيا وسورية قد أثارت اللغط أصلاً حول “المؤامرة الإمبريالية” ليبدو أننا في سياق “إعادة بناء” المنطقة وفق المصالح الإمبريالية كما باتت تكرر قوى ونخب “قومية” و”يسارية”. وظهر لهؤلاء ولآخرين بأن هذه هي النهاية الممكنة لكل انتفاضة راهنة، وأنها بالتالي أسوأ مما هو قائم.
وهنا يظل المنطق الذي حكم النخب والقوى هو ذاته، الذي لم يلمس ممكنات الانتفاضات نتيجة السطحية (أو الشكلية) التي تحكمه، وهو الآن لا يلمس الواقع بل تلمس النتائج التي تحققت لكي يبني عليها موقفه، دون إحساس بأن ما يجري هو أعمق من أن يتوقف عند هذه النتائج.
إذن ما الذي جرى؟ وإلى أين يمكن أن يوصل؟
حول المصطلحات
أثارت الانتفاضات نقاشًا حول ماهيتها، هل هي انتفاضات أم ثورات أم حراك لا يرقى إلى كل ذلك؟ ولقد أظهر النقاش أن الخلاف حول المصطلحات يؤشر إلى اختلافات أعمق، لكنه يوضح أن أوليات الفكر تبدو ملتبسة. فهناك من يخلط بين المصطلح الذي هو “رمز” ما يجري التوافق عليه من أجل تحقيق التفاهم في الحوار، ولهذا فهو محايد بصيغة ما، وهو جزء من تاريخ الفكر، أو هو الفكر ذاته، أي الفهم المحدد لفرد أو لتيار، وهو الأمر الذي يحمّل المصطلح عبئًا أيديولوجيًا من جهة، ويخضعه للذاتية التي تجعله مصطلحًا خاصًا لشخص أو لتيار وليس مصطلحًا توافقيًا مثل أي اسم لأي شخص من جهة أخرى.
لهذا يصبح الحوار مستحيلاً، لأن أوليات التوافق تنتفي، وهي المصطلحات، فيكرر شخص مصطلحاً ليفهمه الآخر في صيغة هي غير ما قصد ذلك الشخص. وبالتالي يصبح النقاش غرائبياً ويتحقق الاختلاف الذي سيبدو لمن هو خارج النقاش بأن لا معنى له لأنه لا يجد اختلافًا فيما يقال.
ماذا يجري إذن؟
هو حراك وانتفاضات وثورات معاً، فرغم ان هذه مصطلحات ثلاث، إلا أن الظاهرة تستوعبها. فهي حراك لأن ما يجري هو نشاط جماهيري، وهي ثورة لأنها نشاط يهدف إلى إسقاط النظام، وهي انتفاضة نتيجة الشكل الذي اتخذه هذا النشاط، والمتمثل في التظاهر الشامل، بالتالي فإن تحديده الأولي هو أنه حراك، لكن جوهره يتمثل في التمرد على السلطة ما يجعله ثورة، وفي شكل تظاهرات شعبية، هي ما جرى اصطلاح تعبير انتفاضة عليه.
بالتالي ليس كل ثورة يجب أن تنتصر، أو حتى أن تكون شاملة كل المجتمع أو البلد، وليست الثورة هي التي تهدف إلى تغيير النمط الرأسمالي لمصلحة الاشتراكية فقط، فهنا يحمل مصطلح الثورة عبئًا أيديلوجيًا يشوه الافكار التي تنبني عليه، وليس لزامًأ أن يكون هناك حزب قيادي لكي تكون ثورة، فالثورات يمكن أن تكون عفوية أو منظمة.
والانتفاضة ليست مستوى النشاط الشعبي الأدنى من الثورة بل هي شكل من أشكال الثورة، مثل الثورة المسلحة أو الاضراب العام أو العصيان المدني وهي يمكن أن تكون عفوية أو منظمة كذلك.
لهذا يجب أن لا نضيع في نقاش بديهيات، والنقاش أساسًا هو أيديولوجي يمكن أن تكون له مداخله الأخرى، التي يمكن أن توصل إلى نتائج أفضل، خصوصًا وأن الانطلاق من هذا التشوش في المصطلحات أفضى ويفضي إلى استنتاجات سياسية ومنهجية، وإلى التوصل إلى أحكام تتعلق بوضع الانتفاضات ومصيرها، وبالسياسات الضرورية لتفعيل دور الحامل الإرادي السياسي (الاحزاب)، وهي أحكام سلبية في الغالب. لهذا بدل أن يقدم الفكر ما يساعد الشعب المنتفض على تطوير انتفاضته، غرق في أحكام سوداوية، ونقاش لا معنى له، فظلت النخب، والأحزاب بعيدة عن الحراك الثوري رغم الحاجة الضرورية التي نشأت في كل الانتفاضات له.
فالانتفاضات عفوية، وهذا واضح من طريقة انطلاقها، ولهذا كانت بحاجة إلى الوعي الذي يعطيها “العقل”، ويؤسس لها التنظيم، ولهذا كان دور الفكر هو البحث في مشكلاتها، وفي آليات تطويرها، وفي تنظيم نشاطها، وبلورة الأهداف والشعارات التي لم تكن الطبقات الشعبية قادرة على بلورتها في مشروع تغيير يؤسس لنظام بديل.