حمود محمد المخلافي (الحبشي)
الحلقة الخامسة
مر على الفرن نماذج متعددة من مناطق شتى، ومن مواقع إجتماعية وجغرافية مختلفة تدلل على عزلة النظام وتمترسه في مواجهة رفض شعبي لسياساته، وعدم قدرته على معالجة قضاياه، بل وتنازع السلطة بين اجنحة تقليدية متنافسة..
العابرون:-
1/ محمد عبدالحميد من حصبان صبر أعتقل وهو في عمر لايتجاوز الثامنة عشرة بتهمة الإنتماء إلى الجبهة الوطنية.. كان موضع إعتناء وحماية كل السجناء تعرض لتحقيقات بهدف الوصول إلى عبدالغني محمدو أحد القيادات الجبهوية المطلوبة.. بذلت والدته جهودًا إستثنائية كلفتها مبالغ طائلة، كانت تزوره أسبوعيًا، ولم يهدأ بالها إلا بالإفراج عنه.
2/ إعتقال أربعة ضباط من صبر، من العاملين في المركز الحربي، تم إعتقالهم أثناء الدوام وإيصالهم إلى الفرن، وكان منظرًا يعبر عن خزي النظام عندما تم تقييدهم بملابسهم العسكرية (الميري) ظلوا في السجن حتى اليوم الثاني ليتم خروجهم لا أعلم هل هو إطلاق أم تم ترحيلهم إلى الأستطلاع الحربي.
3/ أحد الصحفيين العاملين بصحيفة الأمل.. عزعزي، او زعزعي، ظل لفترة ثم تم الإفراج عنه بمتابعة من الصحيفة.
4/ علي عبدالله الضالعي ناصري.. تم إعتقاله وضمه إلى الفرن.. سجن لفترة قصيرة وتم إطلاقه لم يعاني من التعذيب.
5/ عبده مهيوب الصبري من صبر الموادم، من أجل إعتقاله تم صناعة تمثيلية مفبركة من قبل مخبري الأمن الوطني، تمثلت بسرقة كبش في القرية، وبحسب الشكوى تم التنفيذ وطلب كل مواطني القرية فلم يذهب أحدًا، كان هو الوحيد الذي تجاوب في الذهاب إلى مركز المديرية حيث تم ترحيله مباشرة الى سجن الأمن الوطني.
6/ الأستاذ عبدالرقيب دغيش من قدس يعمل في التربية والتعليم أعتقل وكان أستاذًا للمعتقلين في التدرب وتعلم لعبة الشطرنج.
كانت التحقيقات بديهية إذ لا توجد أسرار يمكن إخفاءها في مناطق التواجد العلني للجبهة الوطنية في مناطق شرعب والعدين وماويه فالأوضاع فيها علنية والحركة فيها خصوصًا في أوج المواجهات ليست خافية.. الجديد فيها أن النظام أعتمد على مخبرين فاسدين في تعاملهم مع مهامهم أو أعوان يعتمدون على أحقاد سياسية ودوافع شخصية في التعامل مع مهامهم فكانت تقاريرهم مجافية للحقيقة ومهولة بمبالغاتها بهدف الحصول على المكافأة، لذلك تركزت التحقيقات بحثًا عن الفيد والغنائم المتمثلة بالأسلحة بما في ذلك السلاح الشخصي في تسابق محموم بين المخبرين والمشائخ والأعوان، وبدى أن النظام لم يمتلك سلطته فقد أصبحت الجبهة الإسلاميّة هي الأكثر سيطرة وتوجيه لسياسات النظام وهي المتحكمة في خطواته.
ماذا تعرف عن السلاح وانواعه؟ وأين هي مخازنه؟ ومن يتولى ذلك؟ واشتغلت عصا الجلاد وتفنن في التعذيب بهذا الآتجاه.
في الفترة الثانية لوجودي في الفرن انتهت حالة العزلة دون إرادة قيادة الجهاز فالسجناء من عموم المنطقة وكل سجين جديد يأتي يحمل معه كل معلومات المنطقة وكل سجين يفرج عنه يحمل معه الكثير من المعلومات عنا والكثير من الرسائل بالإضافة الى الزوار من ذوي وامهات المعتقلين.
اطمأنت نفسي على الأسرة زوجتي وإبنتي ولا يعدو ما أبلغت عنه أن يكون نوعًا من الحرب النفسية.. فقط أقلقني إعتقال عمي ناجي سعيد الحوباني وأصهوري علي وعبده وإسماعيل وتعرضهم للتعذيب ومحاولة الجلاد وأعوانه تصوير ذلك بأنه بسبب تزويجي إبنتهمأصبحت الزوجة مختفية ومطاردة، كل هم النظام هو العثور على حقيبة الحبشي بما فيها من وثائق التي خضعت لتحقيقات شديدة حولها.. لذلك لابد من كسر صلف المعتقل ولن يتحقق ذلك الا بإعتقال الزوجة أو تسليم الحقيبة، المؤلم هو إستغلال الجهاز والجبهة الاسلامية لضعاف النفوس والمتساقطين من الرفاق وتجنيدهم بهذا الإتجاه والذين كانوا أكثر تطرفًا في أداءهم.. كل الأخبار والمعلومات تصل يوميًا عبر الزوار الجدد فقد أصبحت الحواجز والموانع خارج سيطرة نظام المعتقل.
أكتظ السجن بالرفاق المعتقلين والكل يتعرض للتعذيب بحقد شديد من قبل الجلاد الذي ابتكر طرق جديدة وتفنن في الأداء الى درجة أصبح السجناء قادرين على التمييز بين طريقة جلاد و آخر.
لم تعد الحياة تطاق بسبب الإزدحام الشديد في الفرن خصوصا في فصل الصيف.. أحدثكم عن فرن عبارة عن خمس غرف تقريبًا مفتوحة على صالة، لا توجد نافذه واحدة اطلاقا.. هناك فتحة تهوية أعلى الباب الحديدي غير مجدية ويتعنت الحراس في إغلاقها.. هل تصدقوا أننا غير قادرين على النوم أو البقاء بجانب جدران الفرن بسبب أن عرق السجناء يتحول إلى بخار يتكثف إلى ماء يسيل على جدران الفرن مما يؤدي الى بلل الفرش والبطانيات.. هو فرن فعلا يصرخ بكل أشكال إمتهان الإنسان وحقوقه.. إنه نموذج بشع لنظام إستبدادي لم تعرف اليمن مثيلًا له.
يستدعي الجلاد في كل ليلة من عشرة إلى خمسة عشر معتقلا للتحقيق معهم دفعة واحدة.. إنها وليمة ثابتة، يقوم بتعليق كل السجناء في مسلخه ثم تبدأ عملية الضرب والجلد الجماعي والتندر على المعتقلين.. هو تعذيب من أجل التعذيب وليس من أجل المعلومات، عملية تأديب حتى لا يتجرأ يمني على رفع صوته في وجه النظام القروسطي.
تخيل مجمع من البشر بجلود مسلوخة.. الكل يئن ويتألم والكل يحاول التخفيف من الآم الآخر.
فوجئت في السجن بقدرات المناضلين على التحمل والمقاومة الذاتية للألم والجراح بصورة لم أتخيلها، نوعيات من الرجال في زمن لا يتكرر..
شعرت بأوجاع مضاعفة وأنا أرى رفاقي الذين كانوا يحملون مشاعل النور على أكتافهم ويحلمون بتغيير الواقع، يتعذبون وتسلخ جلودهم ليس لهم من ذنب سوى مقاومة الظلم ورفضهم للحياة بالطريقة التي يريدها المتسلط ومن حوله.
شاهدت:
• عبدالله مهيوب طاهر (محمود) وهو يجلد حتى قلعت أظافره وأصبح غير قادر على الإستلقاء على أي جانب من جسده فأينما أستلقى هناك جراح والآم تصرخ ورغم ذلك لم تهتز معنوياته وثقته بنفسه وبرفاقه، ظل مرحًا، ضحوكًا، يتندر على مايجري ويحاول التخفيف من الآلام النفسية لرفاقة.. أتذكر بعد وجبة تعذيب تلقاها وعندما أفاق على وجوده بيننا كان اول حديث له متندرًا: (بدأت أشك ربما يكون المقراني مخبرًا بأسئلته ههه) كل ما يستدعينا يوجه لي اسئلة.
• عبدالله حميد سيف الشجابي ذلك المرح كما كان خارج السجن يعيش حياته بإستهجان كل مايجري داخل السجن.
• رزاز خالد الكباش الذي وصل فيه التعذيب الى تهشيم ساقيه بالصبرة التي تفتح فيها القيود وإلى تعذيبه أمام خصومه من قبل رجب قحطان.
• عبدالله فرحان الكباش عذب حتى تورم كل جسمه بما يشبه الإستسقاء له موقف شجاع أهان فيه المحقق وأذله، ففي بداية التحقيق أتفقا على قول الصدق في فكاهة عجيبة إسمك، عمرك، حالتك التنظيمية، متى انتظمت في الجبهة الوطنية، وبدأت أسئلة المحقق تتوسع وتتصاعد.. فما كان منه إلا التنكر والتوقف عن التحقيق وأنكر حتى إسمه وهو ما افقد الجلاد رشده وإتزانه وصب عليه جام غضبه في وجبات تعذيب متواصلة خارج نطاق التحقيق.• مهيوب مأمون طاهر المجيدي شاب تم إعتقاله خلال عملية إشتباك مع أعوان النظام في المنطقة، بعد إصابته بطلقات في البطن تم إعتقاله وإيصاله إلى الفرن مضمخا بجراحاته وينزف دمًا، بعد أن تم استخراج الرصاص وخياط الجرح، لم يتم معالجته بما يتناسب مع اصابته كان يخضع لتطهير الجرح في البوابة من قبل ممرض يؤدي مهمته بمقابل مادي، كانت تدفعه والدته، بعد ان تم إطلاقه تزوج بزوجة ثانية وعندما سألته لماذا يا مهيوب؟ كان رده مش كنا على وشك الموت ولم نتذوق حلاوة الدنيا هه.
• طاهر عبدالواحد العزي بني محمود عندما وصلت الأطقم لإعتقاله وكان يرعى في الوادي أول خطوة يعملها وهو يصعد الطقم أن نادى زوجته ليقول لها انت طالق، لماذا يا طاهر؟ أجاب ضاحكًا حرام تظل منتظره لمدبر لا يعلم متى سيعود إليها.
• عبدالواسع نصر سيف يحي من عزبان هيجة شماسي.. شاب أعتقل العام 1978م في الفترة التي كان فيها حسين الحدي مسؤلًا عن شرعب ومسنودًا من قبل الجبهة الاسلامية.. اعتقل لشكوك حول إختفائنا في واديه.. أتذكر انه تم تجريد حملة عسكرية كبيرة في عمل إستعراضي شاركت فيه قوات النظام ومليشيات الجبهة الاسلامية والمشائخ واتباعهم لإعتقال شاب لم يتجاوز عمره العشرون عامًا وأستمر في السجن مايقارب العامين.. كان عضوًا في لجنة قيادة شبيبة الحزب.. بعد خروجه من السجن كان أكثر إصرارا على الإرتباط بالقضية النضالية، وهذه المرة الثانية التي يعتقل فيها ليشترك مع رفاقه في تلقي التعذيب أمام طاقم متخصص من الجلادين.. تم الإفراج عنه بعد عام من الإعتقال.. حاليًا يعمل في مصلحة الضرائب.
• طاهر محمد قاسم السهيلة أحد وجهاء الجبهة الوطنية في منطقة السهيلة.
• حمود كامل بني شعب واخيه عبدالله.
• سعيد عبداللطيف حزام بني سري..
• حمود احمد خالد الصلع عذب من أجل التعذيب وارهاب من بجانبه من السجناء.
حيث لم تقتصر الاعتقالات على المنظمين في الحزب والجبهة الوطنية وانما شملت الأنصار والمواطنين في مناطق سيطرة الجبهة الوطنية.
أحداث وقصص مضحكة ومحزنة في آن
كانت إدارة الجهاز وجلاديها تخطط ومحددة اهدافًا لها، وكنا نحن بالمقابل نخطط وهدفنا كيفية حماية المعتقلين من التعذيب، نقوم بتبادل المعلومات بين الجميع وتوجيه كل فرد ماذا سيقول عندما يستدعى للتحقيق في تنسيق لا أقول أنه نجح نجاحًا كاملًا ولكني اجزم أنه أدى مهمته إلى حد ما بما في ذلك الاعترافات بالأسلحة ومخازنها.
المفارقة في طبيعة الصراع وسلوكياته السلطوية انه لم يحقق من الاعتقالات والتعذيب واهدار حقوق الانسان مكاسب استثنائية.. فكل قضايا الصراع كانت مطروحة على بساط الحوار وتم مناقشتها وتلبية اغلب المطالب، إذ كانت توجيهات قيادة الجبهة تقضي بتمكين السلطة من بسط سلطتها ونفوذها على كل المنطقة وازالة جميع المظاهر المسلحة وتسليم كل الأسلحة الثقيلة بما فيها اسلحة الجبهة للدولة واعلان الولاء للنظام والإنخراط في معسكرات الدولة في عملية تجنيد لكل افراد الجبهة.. جميعها مطالب كانت تتحقق بسلاسة بناء على إتفاق تعز 1982م بين الرئيسين، الإتفاق الكارثة فلماذا اللجؤ الى هذه الأساليب القمعية من جانب النظام؟
يتبع الحلقة السادسة