الحلقة الثالثة
حمود محمد المخلافي
العودة بالذاكرة إلى فترة الإعتقال مؤلمة جدًا، إنها الوجه الأخر الذي تتجلى فيه بشاعة الانسان ووحشيته وتسقط فيه كل الأقنعة السياسية والدينية والإنسانية، التى تصول وتجول خارج أسوار المعتقل تتحدث عن الفضيلة والإنسانية والإستقامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
في السجن تشاهد الوجه الخفى للنظام لا اقصد النظام السياسي، وانما المنظومة العامة للنظام السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع كاملًا، جميعنا قرأ أغلب الأدبيات والمذكرات التي تتحدث عن المعتقلات ومايجري فيها لكني أقول لكم ومن واقع تجربتي أن كل ماكتب لا يعكس ولا يمكن أن يعكس تلك البشاعة في الانسان، والأنظمة التي تحكم، يكفيني أن أورد إليك مثالًا واحدًا فقط، عندما يصل التوحش فى انسان أن يصاب بالأرق ولا يستطيع أن ينام إلا على أصوات أنين وحشرجات الموت والدم وطقطقة العظام بل لا يستطيع أن يأكل ويفقد شهيته إذا لم يكن هناك اجساد لبني آدم معلقة أمامه ومضرجة بالدماء فاقدة للوعي.
أضرب لكم مثالًا آخر، وأشير له بالاسم، يعرفه أغلب المعتقلين، وأسمه محمد المقراني، تصل البشاعة لديه ان لا يستثار جنسيًا مع زوجته أم عبدالناصر إلا بعد وجبة تعذيب بشعة، يفتح سماعة التلفون ثم تبدأ المراسم فى الجلد والتعذيب ليسمعها كل ذلك عندما يتشبع ينطلق سريعًا إليها ويتناسي بقاء السجناء معلقين في المسلخ تاركًا إياهم للعساكر، والعديد من رفاق السجن يحتفظون بالكثير من النوادر حول هذا الجانب.
لا تقتصر عملية التعذيب للمعتقلين على ما يعانوه على أيدي المحققين بل تتعداها إلى ماهو أسوأ من ذلك لتشمل ابتزاز المعتقلين من قبل العساكر والمستلمين في البوابة.. يبتزون السجناء في أسعار مقاضي الحدرة وفي مايحتاجه السجين من الخارج قات أو غيره.. كل الأشياء لها أسعار سياحية
الرعاية الصحية تكاد تكون معدومة فعند وجود حالة مرضية كبيرة وبعد ضجيج السجناء ومطالبتهم بمعالجة زميلًا لهم، يتم إستدعاء شخص إسمه الظرافي لا أدري أهو صحي أو دكتور للإطلاع على الحالة وصرف حبوب إسبرين أو نوفالجين مهما كانت الحالة ونوعيتها.
كثيرة هي المرات التي يغلقون فيها غرفة تفتيش الحمام لينسد ويمتلئ بالمياه الوسخة ويبدأ بالجريان إلى الداخل بإتجاه الغرف والصالة وليس هناك من حل سوى أن يتولى مفيد أو غيره تجميع مبلغًا من المال حسب طلب العسكري ليتم استدعاء أحد العمال ليقوم بإزالة الانسداد.. وبكل وقاحة يقوم أحد العساكر بإغلاق الكهرباء لتتوقف المروحة الوحيدة في رغبة شديدة بمضايقة وتعذيب المعتقلين..
أشكالًا متعددة من الأذية يتم اكتشافها بعقلية إجرامية ومتوحشة هدفها الوحيد القضاء على ماتبق من علامات الانسانية… لقد كانت التسلية بين السجناء تتم من خلال لعبة الكوتشينة والشطرنج، يتم ادخال اللعبة عن طريق العسكري المستلم.. الذي تثور فيه وحشيته وتستيقظ عندما يشاهد السجناء منشرحين في اللعب والضحك فيفتح الباب مهاجمًا السجناء، ناهبًا أوراق الكوتشينة والشطرنج (تلعبوا لعبة الكفار… الخ من الشتائم) لنعود في اليوم الثاني نترجاه ونشتريها من جديد.
يتم إختيار الحراس بدقة من أكثر الناس حقدًا والمصابين بحالة إنفصام أو مركب نقص ويعانون من نبذ إجتماعي كونهم يكونون أكثر قدرة على الأذية للآخر وامتهانًا للغير.
كانت فرقة الحراسة للتعامل المباشر مع السجناء
1/ مغلس لا أعرف اسمه كاملًا أكبرهم عمرًا.. مؤذي.. مستفز دائمًا يلهج بلسانه، يخرجها حتى أثناء حديثه معك.
2/ راوح من ماوية شاب يعاني من إحساس بالنقص.. يعبث بالسجناء وحاجياتهم المرسلة من الزوار.
3/ قاسم العديني رجل قصير القامة.. يعتبر أكثرهم انسانية وعطفًا في تعامله مع السجناء.. وهو من حمل رسالتي للخارج.
4/ قائد الصبري من صبر.. ليس مؤذيًا كثيرًا ولكنه يكثر من الضجيج.. ذات مرة سرق صعب (حمار) من الحارة ونقله إلى صبر، انكشفت سرقته فشكته صاحبة الحمار إلى الإدارة وتحولت إلى قضية وتم تكليف ضابط أمن الإدارة بحل القضية.. فتعاون مع الصبري زملاؤه في دفع قيمة الحمار، في الفترات الأخيرة كان يعمل حارسًا في جبل الجرة للأرضية التي حجزت وكان منتظرًا بناء فندق فيها قبل تشييد فندق سوفتيل.
تصل درجة الإسفاف من قبل الحراس الى درجة بالغة في الإمتهان… إذ يمنعون زيارة السجين من قبل أسرته حسب المزاج.. يستلمون حاجياته من ملابس وأكل ومصاريف ليوصلوها هم للسجين، لكن قبل تسليمها عليها أن تتوقف بين يدي مغلس أو راوح.. فالتفتيش مهم ليس خوفًا من تهريب ممنوعات ولكن يقومون بالعبث بتلك الحاجيات، فاللحمة اللذيذة يجب أن تؤخذ ضريبة عينيه عليها وكذلك القات يجب أن يسلم بعد تعشيره (العشر).. عالم عجيب ليس فيه ثوابت أو كرامة أو أمانة… قيم تتساقط بين أقدام الجلادين واتباعهم
هناك محققين باتت شهرتهم مرتبطة بالقسوة والتوحش منهم محمد المقراني وعلي السعيدي وآخر اسمه راجح، لا أعلم اسمه كاملًا، عندما يحال معتقل إليهم فأعلم أنه محكوم بالموت.
مجرد ذكر اسماؤهم يصيبك بالرعب وإحالة معتقل إلى أحدهم تجعلك تستعيد تلك الأسطورة الرومانية عندما يطلقون الأسود في الحلبة ويجبرون معارضيهم على الدفاع عن حياتهم..
مناضلين كثر فارقوا الحياة على أيدي هؤلاء وكثيرون أصيبوا بعاهات جسدية، الرفيق الشهيد إدريس محمد عباس سقط شهيدًا بين يدي الجلاد راجح في تعز.
من حسن حظ الرفيق شاهر بل من المعجزات أن ظل حيًا، عندما أحتجز في غرفة التعذيب أسبوعًا ليمارس بحقه كل صنوف التعذيب من قبل شلة من الجلادين بينهم علي السعيدي وراجح.. ليمارسا معه ليس التحقيق ولكن التعذيب من أجل التعذيب
بعد ستة أشهر من الاعتقال أثير موضوع إعتقالي، في احدى لقاءات الرئيسين صالح وعلي ناصر كيف تعتقلون محاورًا؟ كان القمش حاضرًا وأنكر حدوث ذلك كونه لم يبلغ، بناء على توجيهات الرئيس صدر أمرًا بالأفراج إلى فرع الامن الوطني بتعز الذي رفض مديره احمد الأنسي تنفيذه لماذا؟.
تجمعت الزعامات المشيخية والجماعات المختلفة معنا والذين باتوا اصدقاء حاليًا، حاملين ملفاتهم وبياناتهم ووضعوها امام الآنسي في مكتبه قائلين هذه تهمنا لهذا الذي تريدون الافراج عنه وهذه جرائمه، أتاني شاؤوش السجن وكان طيبًا تجاهي وابلغني هيه هناك مظاهرة عليك فوق، كل المشائخ موجودين لا أريد ذكر أسماء ولا انا حاقدًا عليهم، انا افهم ان هذه هي طبيعة التصرفات في ظل الصراعات السياسية واغلبهم لا زال حيًا ويعيش ودخلنا فى علاقات وتحالفات وتحدثنا كثيرًا عن علاقاتنا في الماضي وأين اصبحنا الان.. أستدعانا المدير الانسي في المساء وواجهني بالقول هناك أمر بالإفراج عنك ولكنني لا أستطيع تنفيذه موضحًا لي الأسباب، هذه مصاريف وغدا سننقلك إلى صنعاء ليفرجوا عنك هم من هناك، توكل على الله، هي سابقة نادرة فالسجين الذي ينقل لا يبلغ.
في البشائر في صنعاء قضيت أربعة أشهر، أرسلت بعدها إلى السجن المركزي لفترة وإعادتي إلى البشائر، لم يتم التحقيق معي سوى مرة واحدة فقط كانت من قبل محمد اليدومي.. نزع الرابط عن عيوني في الغرفة التي يقبع فيها وحقق معي مباشرة، لم أكن أعرفه أو أسمع عنه إلا فيما بعد، لم يكن تحقيقًا ذي أهمية.. كان ألهدف منه تذكيري بشخصيتي التي ربما أكون قد نسيتها، إسمك… منطقتك.. وضعك… عملك تم النداء عليّا في إحدى صباحات صنعاء الباردة مع فراشك، طبعًا لم يكن لدي فراشًا وإلى السيارة لأكتشف أنني متجه إلى تعز بأمر إفراج للمرة الثانية… كانت السيارة بيجوت أجرة من فرزة صنعاء تعز.. ولحسن حظي أن سائق السيارة عبده احمد سعيد من قرية الجبال مخلاف وهو أحد أقرباء الوالدة التي كانت مشردة مع الوالد في السعودية لايعلمان مصيري أحي أنا ام ميت.. حينها فرحت وأطمأنت نفسي بوجود من يطمئن الوالدة على حياتي
وصلت تعز أجرجر قيودي إلى باب الفرن مجددا.. عندما فتح باب الفرن.. كانت فجيعتي لهول ما رأيت….
ملاحظة
ماتحفظه الذاكرة عن صنعاء البشائر والسجن المركزي ضمن الحلقات القادمة
يتبع الحلقة الرابعة