المواطن/ كتابات – حمود الحبشي
من الصعب تقدير تضحيات المناضلين خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات ، الا لمن عاش تلك ألفترة وعايش أحداثها واكتوى بنير ألقمع وعنف السلطة وأعوانها .
هي فترة من أنصع فترات العمل الوطني التي تطلبت الإختفاء ومتابعة المهام اليومية في ان واحد وفي ظل سيادة الحملات العسكرية وأعمال القمع والإعتقالات التي طالت المواطنين بشكل عشوائي ودونما تمييز .
لقد كانت انشطة الجبهة الوطنية اليومية تتلخص في كيفية بناء المناضل الفرد فكريا وسلوكياً وأخلاقيا بإعتباره حامل قضية وبنفس الوقت كيفية تعزيز العلاقة مع الجماهير والإنخراط في صفوفها وتمثل همومها اليومية في علاقة بين القول والممارسة الفعلية على الارض ،
ومن هنا لم يجد الاعضاء صعوبة في الاختفاء والبقاء فى المنطقة باعتبارهم جزء من هذا المجتمع بكل مآلاته .
و لم يكن يعاني افراد الجبهة من صعوبة في ذلك، فارتباطهم بالجماهير هو من يحميهم ويوفر لك السياج القادر على التحرك من خلاله. والاحتماء فيه ، و لا يمكن لمن يحمل هم الجماهير وتحررها من الوضع الذي تعيشه. إلا أن يحيا فى اوساطها .
فالمواطن عادة يحكم عليك من خلال مواقفك وسلوكك اليومي وقدراتك في التخاطب معه بما يتناسب مع واقعه .
وحتى في أشد مراحل القمع والإرهاب، لم تنفصل برامج الجبهة عن الجماهير أو تعزل نفسها ومهامها وتتوارى عن أولئك أعين المخبرين وبطش السلطة واجهزتها القمعية .
وفي الوقت نفسه ظل المواطن عونا للجبهة و في هذا الصدد نتذكر منها المرحلة التى أجتاحت فيها السلطة للمنطقة متبعة سياسة الأرض المحروقة فى أواخر شهر سبتمبر العام 1978م ، عبر الاعتقالات وتفجير البيوت وتشريد الأسر فى العراء ، والتي سميت بفترة حسين الحدي وتعيبنه مديرا لناحية السلام ،
مفتتحة مداهمة المنطقة عبر طريق قرية الحمري عزلة القفاعة وصولاً الى عزلة التبهة حيث كان أول اعمالها القمعية في عزلة التبهة استشهاد الرفيق محمد بن محمد عبده سعيد واصابة المرحوم حميد قائد عائض، وتفجير منازل كلاً محمد قائد عائض والرفيق ناصر عبدالقوي ، ترافق مع الحملة أعمال استخبارية خيانية تجلت في كمين نصبه مهيوب سيف عبده إستهدافا لمجموعة الرفاق الذين كانوا في قرية المقرعة ذهب ضحيته الاخ محمد غالب عبدالله .
لقد تجلت وحشية النظام وأعوانه فى ملاحقة المناضلين وتفجير بيوت المواطنيين بمجرد الشك بتعاونهم مع المناضلين وشملت اغلب قرى وعزل المنطقة ، وبالرغم من هدا كله لم تهتز علاقتنا بالجماهير وظلينا نعيش ونحيا بين اوساطها رغم الخوف والرعب من السلطة واطيافها .
نستطيع القول إن تلك المرحلة كانت هي الاخصب فى التوسع والبناء الحزبي وكسب ثقة الجماهير بعدالة مطالبنا ، ليس ذلك فقط وانما استطعنا في أوج حالات القمع والتدمير أن نفتح حوارات بين فصائل العمل الوطني في المنطقة ممثلة بـ ( الحزب الديمقراطي الثوري ، منظمة المقاومين الثوريين ، حزب الطليعة الشعبية ) ، وان ننجز تحالفا يوحد كفاحنا تحت مسمى لجنة العمل الوطني .
لم تكن العلاقة بين الفصائل الرئيسة ( الحزب الديمقراطي الثوري ومنظمة المقاومين الثوريين وحزب الطليعة الشعبية ) بالعلاقات السوية رغم امتلاكها جميعا لفكر ايديولوجي واحد وخط سياسي بأهداف وطنية مشتركة ، فقد تخللت تلك العلاقة نوعا من المنافسة والاستقطاب والمماحكات التي تصل أحيانا الى أعمال عدائية ، و لكن لوجود قيادات سياسية ناضجة كان كفيلا بحسم كل الخلافات ، فحياتنا المشتركة ، وقمع السلطة وإدراك الجميع لحجم المسؤولية والمخاطر المحدقة فرض على تلك القيادات الإنخراط في حوارات مسؤولة في الأشهر الأخيرة من العام 1975 م بغرض تجاوز الانقسام والتفرد
شارك فيها كلا من :
الرفيقان قائد سيف ( عبدالعليم )
والشهيد مصطفى البرزاني من قبل منظمة المقاومين الثوريين
والرفيقان يحيى الرازقي ، وحمود الحبشي عن الحزب الديمقراطي الثوري
والمرحوم قائد الصوفي ( ناجي ) عن حزب الطليعة الشعبية .
أثمرت جميعها عن قيام تحالف بإسم لجنة العمل الوطني ببرنامج سياسي شامل لكل الجوانب السياسية والجماهيرية والثقافية والعسكرية والأمنية ، هو اقرب الى برنامج الحزب الواحد اكثر منه الى التحالف ، كان ذلك سَبّاقاً على المستوى الوطني، وقبل أن تفكر القيادات المركزية العليا بالاتفاق على قيام الجبهة الوطنية الديمقراطية ، وهي خطوة لاقت مباركة وتقدير تلك القيادات .
وبذلك أصبح مواجهة الإستحقاقات النضالية اليومية تتم من خلال تنظيم موحد أكثر قدرة عن سابقيه على حماية نفسه وتطوير علاقته بالجماهير .
كانت الاعتقالات عشوائية ومبنية على شكوك وأدوات استخبارية متخلفة ومكروهة من قبل المواطنين، متعاونة مع السلطة لهم أهدافهم الخاصة في اغلبها ان لم تكن جميعها تصفيات حسابات مع رعاياهم ، وهدا ما قرب صفوف الجبهة اكثر من الجماهير.
فلقد أمتلأت السجون بالمعتقلين ، تدمرت منازل العشرات والمئات من المواطنين، وأنتشرت تجارة رؤوس البشر في كل المنطقة ولكل رأس سعر محدد في سباق محموم وصورة بشعة في تعليق تلك الرؤوس لتزين بها قبحهم على صدر الباب الكبير في تعز
أستطاعت الفصائل المنضوية في لجنة العمل الوطني استثمار كل تلك المساحة التي وفرها النظام بعشوائيته سياسيا وتنظيميا فكل الذين اعتقلوا وهم غير حزبيين ، خرجوا من السجون وقد أصبحوا مناضلين يمتلكون وعيا وفهما لطبيعة الصراع وضرورة مقاومة عنف النظام وهمجيته .
كما ان اولئك الذين تم تشريدهم من قبل السلطة تم لجؤهم الى احضان الجبهة الوطنية، لذلك لم يتمكن النظام من عزلنا ، فكلما ازداد القمع والإرهاب كلما توسعت ضرورة مقاومته وتوسعت معها صفوف الجبهة كما وكيف
في وضع كهذا مارسنا مهامنا بجدارة وثقة ، وظلينا على تواصل مع المعتقلين وندعمهم ماديا ونتواصل مع أسرهم ونقوم برعايتها ، ويجدر بالذكر هنا تلك التضحيات التي قدمها الرفيق قائد سيف من ممتلكاته الخاصة في تغطية تلك المساعدات سواء للسجناء او أسرهم .
من جهة اخرى تم ابتكار الكثير من أشكال العمل الجماهيري التي تتناسب مع اوضاع المنطقة من ضمنها تشكيل اللجان التعاونية الفلاحية من خلال الفلاحين انفسهم والتركيز في البحث عن مصادر للدخل .
كان من ظمنها في منتصف السبعينات بروز ظاهرة الكمبريشانات وانتشارها كوسيلة لتكسير الحجار بدلا عن الأدوات البدائية ، تفتق ذهن بعض الرفاق عن ضرورة امتلاكنا لبعضها ، وفعلا تبرع الرفيق قائد سيف بشراء أحدها …كانت قيمته بحدود ثلاثة الف ريال تعتبر يومها مبلغا كبيرا ، وتم تكليف الشهيد عبدالله عمر ( مدهش ) العمل على هذا الكمبريشن الذي وفر دخلا ماليا لتغطية الكثير من مصاريف العمل والسجناء وأسرهم .
لم تقتصر مهمة الكمبريشن على ذلك فقط بل أصبح غطاء للعمل التنظيمي والجماهيري ففي كل قرية ينتقل للعمل فيها لايغادرها الا وقد تم تنظيم خلية وخلايا حزبية
شاركنا فى العمل الجماهيري وفى التعاونيات وانتخابات هيئات التعاون الاهلي للتطوير متبعين مختلف الوسائل والسبل وفى التعليم والتوعية للمجتمع
تم تشييد وبناء مدارس نموذجية بتعاون المواطنين منها :
- تبنى المناضل قائد سيف بناء وتشييد مدرسة السلام في الأشموس العام 1970 م بتعاون ومشاركة المواطنين .
- وفي الامجود تم بناء مجموعة مدارس نموذجية البناء وتم توفير مدرسين متطوعين الى جانب مدرسي الدولة ، ولاتزال تلك المدارس قائمة وتعمل، وكان رائد هذا التوجه الشهيد قائد قاسم ( عبدالحكيم ) لاتسعفني الذاكرة سوى بأسماء اربعة منها هي
- مدرسة الخير بالعبري ، تجمع ممسى الصنع امجود وعزلة العمارنة
- مدرسة في القبة أمجود اسمها مدرسة الأمل
- مدرسة في الربوع اسمها مدرسة الثورة
- مدرسة بالكريف امجود اسمها مدرسة 26 سبتمبر .
وفي عزل أخرى تمت نفس الخطوات منها ما تم عبر اللجنة التعاونية الفلاحية بناء مدرسة في الشطين عزلة الرعينة وبعد أن استكمل البناء دفعنا بنخبة من المواطنين مع العاقل للمطالبة باعتمادها ، تحرك معهم أحد كوادرنا الجماهيرية المناضل سلطان الحسيني ، وحيت تم سؤالهم فى مكتب التربية ما اسم المدرسة أجابه بعنفوان الشباب اسمها ( مدرسة الفللاح ) ، نظر إليه المختص وكان ذكيا ، جره جانبا وقال له أتدرى لو سمعك أحداً فلا مدرسة معتمدة ولا سجن ستخرج منه .
وتم تسميتها على اثر ذلك الموقف ( مدرسة الفلاح )
أيضا شق طريق ( الامجود وضيحة ) حتى الصنع لاهميتها الخدمية رغم صعوبتها ، بل وتم وربط مماسي المنطقة بشبكة طرق متعددة، بواسطة وحدة شق أحدها ملكية المواطن محمد ألحاج من الفرع وأخرى تم الاستيلاء عليها في أثناء المعارك والاستفادة منها في حماية الأراضي الزراعية من السيول في وادي نخلة وشق الطرق بدلاً من الدولة التي تخلت عن مهامها تجاه المواطنين
ولذلك كان لابد لنا من محاولة سد الفراغ ، فقمنا بتشكيل لجان للإصلاح الاجتماعي من العقال والمشايخ لحل قضايا الناس وذلك لكسب ولاء المشايخ والعقال الذين كانوا متخوفين من استهداف الجبهة لهم .
قلنا لهم ( اي المشائخ ) هؤلاء رعيتكم فضوا نزاعاتهم لكن تحت رقابة دقيقة بدون اختلاسات وبدون تطويل أو ابتزاز ، عليكم أن تقلعوا عن عادات سابقة مكتسبة وعندما كثرت القضايا والخلافات التي لم تكن وجيهه تم فرض مبالغ رمزية ، وفي القضايا الكبيرة المتعلقة بالحقوق والمواريث كان يتم الاستعانة بقضاة لهم باع في هذه الجوانب .
لم تقتصر علاقة الجبهة الوطنية بالجماهير على العمل الكفاحي اليومي وانما أجترحت أشكالا عديدة كان لها أثرها في تطوير علاقتها اليومية من خلال عقد المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة في القضايا الكبيرة والمناسبات الوطنية وقد شهدت ساحة المؤتمرات في الملاوحة العديد من تلك الفعاليات التي شاركت فيها مختلف الفئات الشعبية بما فيها قطاع المشائخ والواجهات الاجتماعية والمنظمات التعاونية، نتذكر منها تلك المؤتمرات الشعبية التي أحتشدت لمناقشة مشروع الميثاق الوطني التي أحتوت على رؤية وطنية متكاملة حول ذلك المشروع .
لقد تم توظيف عديد من القدرات والمواهب الشعبية في رفع مستوى الوعي الوطني بأهمية الوحدة والسيادة الوطنية واهمية ان تستوعب الديمقراطية أساسا لعلاقة النظام بالشعب وكسلوك حضاري يومي… اذ تم تأسيس فرقة الصمود الفنية التابعة للجبهة الوطنية في مناطق شرعب والعدين بمبادرة من القائد الشهيد قائد قاسم والتي أبدعت في ماقدمته من اغاني واناشيد وطنية تمجد الشعب والثورة وتغني للوطن عبر الحفلات الغنائية التي اقامتها في مناسبات عدة ومن خلال أشرطة الكاسيت التي أنتشرت في كل ارجاء الوطن وبين المغتربين على وجه الخصوص .
لقد كانت كل أشكال النضال مشرعة ابوابها على كل الصعد السياسية والثقافية والجماهيرية وألفنية ولم يكن الجانب العسكري سوى أحداها والذي فرضته ضرورات الدفاع الإيجابي عن النفس ، مثل صدور صحيفة ( ألقضية) الناطقة باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية في مناطق شرعب والعدين، والتي شكلت نقلة معبرة عن مدى الإهتمام بالجانب الثقافي والاعلامي ونقلة الى المستوى الجماهيري، نذكر ان المناضل سعيد الصوفي من قرية الاساعدة مخلاف ، والمناضل علي ردمان من السهيلة بني وهبان قد أبليا فيها بلاء حسن،
وكم هي عظيمة جهود الرفيق حمود سيف بن سيف قُبير رحمه الله في توفير متطلبات النشاط الثقافي والاعلامي ودعمه بكل الاجهزة والأدوات من اجهزة طباعة وكاميرات الخ عبر تبرعات ابناء قبير المغتربين .
ما نقصده هنا هو التوضيح أننا كنا ولا نزال حملة قضية وطن وشعب، ولذلك لابد من تأكيد هذا عبر مسيرتنا وعلاقتنا بالناس ، سواء نجحنا او اخفقنا ، ليس مهما ، المهم أننا حاولنا .
لا تستطيع نكران أنه كان للجبهة اخطاءها وهفواتها ، بل واننا مقتنعون انه ثمت اخطاء مثلها مثل أي حركة سياسية ولكنا اليوم نتحدث عن وقائع تاريخية وأي محاكمة للتاريخ يجب أن تتم بعقلية لحظتها وليس بعقلية اليوم