المواطن/ كتابات – فريدة النقاش
ليس غريباً أن يختار مناضل على شاكلة «عبد الفتاح إسماعيل» الشعر سيفاً ثالثاً، إلى جانب السيفين اللذين قاتل بهما عبر عمره، النضالي وهما:
الارتقاء بوعي الكادحين ثم تنظيمهم وصولاً إلى الكفاح المسلح ضد الاحتلال.
الشعر هو آخر مملكة الحلم بعالم جديد: سوف يكون الناس جميعاً فيه، فنانين وشعراء، ومثلما تعامل مناضلون كبار مع هذه الحقيقة، فمدوا يديهم إلى المستقبل وأتوا به ـ من المحلية ـ ليزرعوه في الحاضر الفوار بالمعارك يتجه النقد الماركسي بخطى ثابتة لدراسة القوانين الجمالية الجديدة، التي يولدها الإبداع الجماعي بتجاربه الغنية، وهو يستشرق بزوغ هذا الواقع الجديد.. واقع الناس الشعراء حين يتم التحرر النهائي للإنسان، وتزول كل أشكال الاستغلال، ويبزغ العصر البشري الحق.. أي حين تنتصر الاشتراكية في كل أنحاء العالم وينـزرع الحلم في مملكة الحرية المفتوحة على الفرع الدائم.
- * *
كتب ماو تسئ تونج الشعرـ حادياً للمسيرة الطويلة لفلاحي الصين وعمالها وهم يدخلون إلى عصر الاشتراكية. كذلك كتب«هو شي منه» الشعر، وهو يجوب فيتنام بصندله المطاط يعبئ الطبقة العاملة وحلف الكادحين، ويقود الحرب ضد الاستعمار الفرنسي ثم الإمبريالية الأمريكية.
وفي غابات يولقيان، وفي حمى الفلاحين كتب«أرنستو شي جيفارا» الشعر، وكان أيضاً سلاحاً بتاراً. كذلك كتبه «أجوستينونيتو» وهو منغمس في الكفاح ضد الاحتلال البرتغالي لأنجولا لتدخل بلاده بعد ذلك إلى عصر الاشتراكية.
يشترك هؤلاء الساسة الشعراء في أنهم جميعاً كانوا قادة من نوع جديد، طابقوا بين السياسية والثورة، ومارسوا الأولى كفن رفيع لإدارة الصراع لصالح الكادحين، فخلقوا تناغماً فريداً بين الفكرة والحياة، بين الحلم والممارسة.. حلقوا في عالم الموسيقى.
يتشكل عالمه على مستويين. أحدهما يضرب بجذوره في تاريخ اليمن وفي تراث الشعب موضوعاً في سياق جديد، والآخر يمتد في المستقبل وليس للحاضر وجود لأن قانون الجدل بين المستوين يجعله في حالة نفي دائمة.. هذه الحالة هي إيقاعات تتداخل..وتعلو نغماتها وتحتدم كلما بتنا على أهبه تحقيق هذا الحلم، بالاتساق والانسجام الداخلي الشامل.. مملكة الحرية.. ولادة المستقبل من تشابك الماضي والحاضر حيث تنشأ صورة شاملة لعالم كلي، هي تشكل خيالاً خلاقاً لحركة واقع يموج بالثورة، ولحركة الوجود الإنساني في العالم، إذ ينهض أساسه الفلسفي على نظرة مادية للعالم تخضع لماديتها وملموستيها كل الأوهام.وينهض أساسه الواقعي على تفصيلات النضال الدؤوب المتصل.لذا نجد أن الثقة بلا حد في قدرات الإنسان هي القاعدة الرئيسة التي يقف عليها كما أنها هي القاعدة الرئيسية للأدب والفن الواقعين، التي تتطور أساسها وأساليبها لترتقي إلى الواقعية الاشتراكية وهي تندرج بدورها في سياق ثقافة جديدة تؤسس لعالم جديد خال من كل قهر.
لكن لا يظل «عبد الفتاح إسماعيل» الماضي أو المرتجى، ولا إيقاعات عالمه، ينغلقان على نفسيهما انتظاراً لحلول مملكة الحرية عبر غنائية ذاتية، بل ينخرطان بكل قوة في خضم الفعل شأن حياته كلها فيأتيان بالدراما المتأججة في ثنايا العالم الكلي.
كذلك هو يختار مضمون عالمه وتقاليده وقيمه من بين مضامين وتقاليد وقيم معطاة وهي أيضاً في حال تشكلي.
إنه اختيار آخر داخل الاختيار الأصلي للإنتاج الفني، وانتقاء واع لتفصيلات من ضمن ملايين التفصيلات.وتشكل هذه الاختيارات خصوصية الشاعر الثوري ضمن تقاليد وقيم الحركة الثقافية التقدمية ككل.
- * *
لم يكن بوسع شاعرنا لكل هذا إلا أن يختار الشكل الواقعي متعدد الأصوات في أعمق تبدياته وتركيباته، حيث الفعل الواعي هو نشاط ثوري وموقف ثوري، يستحيل أن ينتج عنهما تغيير عشوائي أو غير مفهوم.فثمة هدف وغاية. مواجهة الاحتلال..أبان الكفاح المسلح، ومواجهة القوى الرجعية حاملة لواء الموروث الخامل، وجحافل الظلام، أبان المرحلة المتقدمة من الثورة الوطنية الديمقراطية.
لا يتحدث الشاعر عن إنسان من المطلق، رغم أن ما ينشده هو ذلك الإنسان الحر أي المطلق، لأنه سيكون حراً حرية شاملة في المستقبل.لذا فإن بطلته ونغمته الرئيسية هي الكدح في أعمق رؤاه، ذلك الذي يجعله متوفراً على روح أممية أصيلة تضفر بصيرة ثاقباً التاريخ لخامس اليمن بالتاريخ الإنساني.. بالإنسان الكادح الذي صنع التاريخ وصنع الحضارة وهو قادر بسبب هذا على أن يمزج بين التقاليد الإنسانية والثورية العامة وتقاليد الطبقة العاملة في اليمن وفي الوطن العربي.. والعالم كله.
ألم نقل إنه يقيم الشعر في مملكة للمستقبل، ويتطلع من قوة الحاضر المتغير أبداً، غير القائم أبداً…مشدود البصر للأمام، حتى حينما يأيتنا صوت «عمرو بن معد يكرب» من أعماق خاص سحيق نجده يتطلع للأمام، ويقرأ جيداً خرائط المد والجزر، ويتقن السير في الحالتين ترشده النجمة تلك النجمة الحمراء فوق اليمن.. ويعرف ذلك كله بفعله..والعقل الثوري يستضيء دائماً وأبداً بشعلة في القلب.
لعله لو قُِدِّر لـ«عبد الفتاح إسماعيل» أن يقرأ شعرياً وبنفس العناية مستهدياً عنده الشعلة في القلب ـ ما قاله الجزر في يناير 1986م. والذي طالما تنبأ به بشكل غامق في ثنايا عمله..لكانت لنا قصيدة أخرى من قصائد حياته في صد من ولهَّهُ الارتداد عن الثورة، وتحويل إيقاعها في اتجاه العالم القديم لكانت هذه القصيدة حاملة لمعرفة ثورية وجمالية جديدة من واقع التجربة العامة والذاتية.. إذ أن الشاعر كان سيرى القابضين على «سيف الضياء» الوعي، وهم يدافعون عن الثورة والحزب ويستشهدون دونها حيث يبقى سيف الضياء ـ الشعر مشهراً.
ويقدم هذا الحشد المتميز من الكتاب والنقاد والمفكرين رؤى مختلفة تكمل بعضها بعضاً لشعر عبد الفتاح إسماعيل وخبرة حياته تدلنا جميعاً على هذا الأثر العميق الباقي أبداً والذي لم ينجح الموت في محوه وإنما يزيده تألقاً وتوهجاً فيضيء لنا الطريق رغم الغياب القسري الذي هو حضور دائم.