المواطن/ كتابات ـ ياسين الزكري
حين تعصف الحروب او الكوارث الطبيعية او الأوبئة يصبح دور الاعلام مساوياً أحد أمرين
الكارثة، أو المعرفة، وحين يدير الاعلام ظهره عن المعركة الفعلية فهذا يعني أن ثمة طبخة مغايرة عاجلة يتم تحضيرها في كواليس السلطة لكن لحساب آخرين.
تحتاج اطراف الصراع تغيير الحقائق للحصول على مكاسب أعلى من ناحية، وكسب تعاطف الجمهور من ناحية أخرى.
في أجواء من هذا النوع يحتاج الجمهور الى معرفة حقيقة مايدور حوله، فلا يحصل عليه، ذلك أن صناعة الأجواء الضبابية توفر البيئة الملائمة لانتشار الشائعات التي تمثل بدورها حاجة ملحة لتسويق الطبخة.
يمكن تقييم حال البلدان في العالم الثالث من خلال أمرين غالبا ما يشاح النظر عنهما ..ولاء الاعلام ..واستقلالية العقل المثقف ومع ميل الكفة هنا وهناك صوب المال او النفوذ يدخل البلد مرحلة انحطاط ينكرها “الاعلام”، ويتسول بها “المثقفون” و”الخبراء” ، فيما ينخر الانحطاط المجتمع من اعماقه بصمت في خلفية المشهد، بدءاً من قيمه المدنية والأخلاقية التي تمثل محور ارتكازه.
ولأن القيم والأخلاق نسبية فإنها قابلة للتغيير بخلاف ما يتوقع كثيرون.
قد يتساءل البعض كيف يمكن لقيم إنسانية مشتركة أن تتغير في حين أنها احدى ضمانات بقاء الناس موحدين في مواجهة الكارثة.
حسناً .. وهل يظل الناس فعلا موحدين؟! ما يتغير هو الدلالات أما المسميات فتظل قائمة، تماما كما لو أنك غيرت في مواصفات البسكويت وحافظت على ذات الغلاف.
في العادة يلعب الاعلام الرسمي دور مندوب توصيل التضليل السياسي الى المنازل، لكنه يظل في نظر الجمهور الأكثر ثقة كونه ناطق باسم الحكومة التي يعوِّل المواطنون عليها من منطلق أن معلوماتها اكثر دقة لاعتمادها في تحصيل تلك المعلومات على أدوات الدولة الأكثر اطلاعا ..أوليست الدولة الكيان الحامي والضامن للجميع؟
غير أن الأمور تصبح أكثر كارثية حين يعمد الاعلام الرسمي ذاته الى تزوير فكرة الدولة
مالاتدركه السلطات المتهاوية بشكل مبكر أو مالاتقوى على ادراكه في الوقت المناسب لإحباط انقلاب سلس قادم من وراء جدرانها،هو ما تحث مراكز النفوذ المنضوية ضمن هياكل هذه السلطة الخطى للاستباق اليه، ألا وهو إعادة صياغة المفاهيم الأساس بطريقة مغايرة تتماشى مع أهدافها البعيدة
النجاح في تغيير المفاهيم الأساس التي قدمت السلطة نفسها من خلالها يعني انسحاب ولاء المجتمع لتلك السلطة، أي سحب البساط من تحتها بشكل هادئ لحساب مراكز النفوذ الطامحة التي ستقول لاحقا حين تصل الى السلطة انها ستواصل السير على درب “النظام الفقيد” في حين أنها ستسير على رؤية الدولة المزورة التي دفعت بها في زمن السلطة التي ترعرعت في ظلها وحمَّلتها رويداً رويداً مساوئ التحول الذي تراقبه بدقة من وراء الستار، وفي اللحظة التي يكتمل فيها التشويش أمام الرأي العام يتم الانقضاض عليها لتبدأ السلطة الجديدة قيادة الرأي العام الى المربع البديل الذي تم التمهيد له، وما أن تتضح الرؤيا حتى يجد الراي العام نفسه معتنقا قيم المربع البديل.
سيهتم النظام البديل قبل الظهور المباشر بالسيطرة على متاحات خطة عمل السلطة القائمة مختصرا كل تفاصيل تلك العملية لاحقا في تهمة يتم الصاقها بالسلطة السابقة ومن ثم بدء دورة جديدة من امتصاص دم الشعب بحجة العودة الى نقطة استقرار الأوضاع المواتية للانطلاق وهي التسمية المنقحة لاطالة امد البقاء في نقطة الصفر، حيث “لايمكن للأوضاع ان تسقط مادامت مستقرة على القاع” بتعبير ديستويفسكي.
الاعلام ليس مسألة ترفيَّة ويكفي أن نعلم أن أي بلد يحترم نفسه يرسم استراتيجيتين لتحقيق رؤيته البعيدة “استراتيجية الدولة او خطتها المفصلة في كافة الاتجاهات، والاستراتيجية الإعلامية المصاحبة” وليس شيئ آخر.
من وجهة نظر إعلامية/ سياسية، تفشل الحكومات في أداء مهامها لسببين: حين لاتضع خطة عمل تفصيلية قابلة للمتابعة والتقييم وبالنتيجة غياب الاستراتيجية الإعلامية وهذه حكومات ينبغي ان لا تستمر كون معالجة كوارثها ستكون أكثر ايلاما للمجتمع من وضعه ابان تشكيلها، والسبب الثاني حين تضع الحكومة خطة عامة ولاتضع استراتيجية إعلامية وفي هذه الحالة تعمل الحكومة لحساب أعضائها ومراكز النفوذ التي تمسك بخيوط اللعبة.
أما حين تضع الحكومة استراتيجية إعلامية خاطئة فثمة هدفان..
تسليط الضوء على نقطة انحراف السلطة القائمة عن مسار عقدها الاجتماعي المفترض مع الشعب وبالنتيجة بدء معركة صامتة على نار هادئة هي معركة سحب الولاء عن تلك السلطة تمهيداً لسيطرة مراكز النفوذ المستفيدة من هذه السلطة على ذات السلطة.
فيما يتمثل الثاني في تغيير المفاهيم الأساس التي ستعمل السلطة الجديدة خارجها ولكن تحت عنوان استعادة تلك المفاهيم التي افسدتها السلطة السابقة.
من مسلمات الحكم أن تحرص السلطات على احكام السيطرة على اعلامها الرسمي واوسع قدر من “الاعلام الصديق” كي تتمكن من كسب ولاء الشعب لها، وتضليله في محطات الفشل، وبالتالي فلاتوجد سلطة تكشف فشلها على وسائل اعلامها ..
أما حين يحدث ذلك فإن مراكز النفوذ الطامحة هي من تفعل، بغرض تمرير مقدمات اجندتها التي ستتحول الى خطة حكم لاحقاً، ولعل ما لايلحظه الجمهور حينها،تأكيد هؤلاء لحلفائهم استكمال السيطرة على أدوات السلطة القائمة وتأكيد ذلك عبر استعارة متحدثين محسوبين على ذات السلطة ومؤسساتها تعمل السنتهم لحساب الطامحين.
سيسوق هؤلاء باسم السلطة القائمة ذاتها لساعة الصفر من خلال ايحاء مدروس لخلخلة ولاءات السلطة القائمة عبر أدواتها.
أن تصل الأمور الى ذلك المستوى يعني أن خوض منافسة الدوري النهائي هو كل ماتبقى أو بتعبير آخر تغيير اتجاه الولاء الشعبي والفكرة كثيراً ماتتكرر هنا وهناك.
سينقلب الطامحون لكنهم لاتروقهم فكرة وصفهم بالانقلابيين، ولذلك فلابد أولاً من خوض معركتهم لتصفية الخصوم المحتملين غداً من وراء وجه السلطة القائمة كخدمة أخيرة قبل رميها في قفص الاتهام، ثم لاحقاً سيفاوضون خصوم تلك السلطة.
سيواصل الاعلام ذات المسار عن تلك المعركة “الفاصلة” التي تمثل من ناحية ضرورة البداية المطمئنَّة للسلطة الجديدة،وهو مالن يتطرق اليه، ومن ناحية أخرى تبديل المواقع بين الخصوم ليغد الخصم الأساس ثانويا وحليف السلطة المنهارة خصما اول،وهو ماسيتم التركيز عليه.
سيواصل الاعلام حملته الخارجة عن سيطرة السلطة المتهاوية من وقت مبكر، لكنه هذه المرة سيكشف الستار عن ابطال معركة الضرورة، سيسوق الاعلام الابطال الجدد كمنقذين ومع تلك الحملة المبرمجة مسبقا، يتغير اتجاه الولاء ظاهريا عبر الدفع بمنابر وشخصيات وحشود الطامحين المعدة مسبقاً، الذين سيحلون آنياً بشكل مكثف محل الرأي العام الواقع تحت تأثير الصدمة، وحين يفيق الشعب من دوامة التشويش، تكون الأمور قد تغيرت!