المواطن/ كتابات- ياسين الزكري
كلما حاولت المعارك الصغيرة استنزافك، اصنع ساحة تكفي لانجاز كبير ثم ادعو الجميع
تشظيات في كل اتجاه ..فوضى عارمة.. فصائل ومجموعات مسلحة منفلتة ..عصابات في كل شارع وزقاق.. اعلام أدمن خطاب الكراهية ونثر الأحكام الجاهزة كقنابل عنقودية ..وجمهور غارق في الشائعات والتضليل.
كانت تعز أواخر العام 2017 صورة مصغرة لما تمر به المناطق الخاضعة للشرعية اليوم من الجنوب الى الشمال ..كتل من التعيينات المعيقة ..احتراب النيران الصديقة مابين غرف البيت المطوق بمدفعيات العدو.. ومجارير نهب تطفح فوق الأرض.
لا إجابات متاحة لمعرفة حقيقة ما يحدث ولا كيف يحدث ما يحدث.. كانت جبهات الأرياف تدير معاركها كما لوكانت في معزل عن الكنترول العام ، وكانت بنادق المدينة تتمترس في فوهتين واحدة نحو شركاء الداخل وأخرى نحو العدو .. وقد يحدث أن تدير ظهرها بين فينة وأخرى للمعركة الأساس وتحشد امكانياتها نحو صراعات الداخل الثانوية حينا وربما المختلقة أحيانا.. صراعات تستهلك المال والعتاد لحساب دوائر ضيقة على حساب الوطن الكبير بحسب تعبير الشارع السياسي
كان حال تعز آنذاك يشبه الى حد كبير حال المحافظات والمناطق المحررة اليوم عبر اليمن الكبير حينما صدر القرار الجمهوري رقم 83 الذي قضى بتعيين الدكتور امين أحمد محمود محافظا للمحافظة في ديسمبر من العام 2017
وصل محمود الى مدينة تعز في فبراير من العام 2018 وأوضحت كلمته الأولى لأبناء المحافظة أهمية أن تمتلك الرؤية قبل أن تخطو على ارض التيه..
إعادة ضبط اتجاه ابرة البوصلة صوب العدو الواحد المشترك المتمثل في مليشيا الانقلاب كانت أولى اولوياته ..
في العمل السياسي ثمة كومة من العوائق أمام كل خطوة تود أن تخطوها في الطريق الصحيح.
ظل الرجل يعمل ليل نهار ..التقى الجميع وسمع وناقش بعقل متفتح وحدس تحليلي مسئول
في السياسة أيضاً لن تحصل خلال اللقاءات على خلافات بائنة .. الجميع سيطرحون الطرح المثالي ذاته لكن الترجمة أمر يخضع لاجتهاد المصلحة او مصلحة الاجتهاد
ظل محمود يتجول كشعاع ضوء في خارطة بتعقيد متاهة متنقلا في بيئة تتنوع احراشها بين مغارات مظلمة وأفاق ضبابية ومفردات رمادية وافعال هلامية حينا واحيانا غير مرئية، ولأن الرجل متحرراً من قيود المشاريع والمصالح الصغيرة لم يلتفت لكل تلك الاعراض التي توزعت بين مسيرات التغرير المنظم ووقفات الاجر اليومي والاغراق الإعلامي المضلل وكل ذلك كان يستهدف الرجل ومشروعه ..الرجل بشكل مباشر بغية اثنائه او احباطه والمشروع الذي ظل يتشكل حلم نجاة وسط كل ذلك الكم من الفوضى المنتجة خصيصا لاعاقة فكرة عودة الدولة
الفكرة التي تمثل من ناحية تطلعات الشعب وطاقة آماله ،ومن ناحية أخرى كابوس رعب لؤلئك الذين يجدون في أجواء الانفلات بيئة خصبة للتربح وبناء النفوذ ..لم يلتفت الرجل لأعراض المرض بل راح يكافح الجرثومة .
مسافة شهرين فقط كانت كافية لتجميع ملامح الصورة، ليخرج الرجل بعدها برؤية مكنته في بضع شهور من تحقيق ما وصف بغير الممكن خلال سنوات ثلاث …
أن تضع خطة للعمل فأنت تضع بالنتيجة المنطلقات والغايات الأساس للخطة الموازية “الخطة الإعلامية”.
كان اعلام المحافظة لحظة وصول الرجل الى مركز المحافظة متعدد المنابع في الظاهر لكنه يعمل كحزمة موحدة في المنطقة الخطأ.
كان اعلاما يسير على ذات الطريق الموازي الذي تنتهجه السياسة خارج علم الساسة وفنونها. طريق اللامسئولية. كانت شائعة واحدة على تطبيق الواتس أب مكثفة النشر وعالية السرعة في التدوير والتكرار عبر المجموعات والرسائل الجماعية كافية لترحيل عشرات الاسر الى العراء دون مبرر حقيقي او أسباب منطقية سوى ما يمكن ان تفعله العصابات بالبيوت الخالية.
كان اعلام المحافظة يتوزع كمتاريس حرب على مسارات أربعة ..ابقاء المواطنين ورؤوس الأموال الصغيرة الباقية خارج دائرة المعلومة وداخل دائرة الخوف تعزيزاً لأسباب بقاء البيئة الصالحة للابتزاز اليومي وتبرير تقاسم الإيرادات خارج المسار الرسمي .. صناعة نمور ورقية لتوفير موارد إضافية من خلال صناعة المشكلات مرة ومن خلال العمل على تعليقها مرة ثانية إضافة الى الدور الذي تلعبه تلك الكائنات الهلامية في تمويه قنوات تمرير الإيرادات الى مراكز النفوذ..
وثالثا إبقاء الوضع العام في حالة فوضى امنية وارتباك مستمر تجعل الحديث عن إمكانية عودة الدولة مجرد نكتة لا تضحك أحدا.. أما رابع المسارات فكان أخلاقيا حيث تمثل فيما بات يوصف بحملات الدفع المسبق .. تلك الحملات المنظمة التي تتخذ شكلا مزيجا من القصص المختلقة والوثائق المفبركة والسب والقذف والتشهير الخارج عن قيم المجتمع واخلاقه الاصيلة ..حملات ممنهجة تستهدف كل محاولة أوتوجه يسعى صوب تصحيح مفهوم او وضع ما ،أو صوب استعادة ملامح الدولة.
كانت الحرب دمرت بنية المدينة وقطَّعت المعارك الجانبية اوصالها ومزقت حملات وسائل التواصل المبرمجة نسيجها الاجتماعي وشوهت معالمها القيمية والأخلاقية، وكانت النتيجة أن صارت تعز حينذاك ابعد ماتكون عن الشبه بتعز.. المحافظة المنقوشة في ذاكرة الداخل والخارج، وكانت استعادة الصورة الاصلية محض مجازفة ، ذلك أن الفوضى كانت وصلت الاذهان فتشوهت في ذاكرة الناس مفاهيم المدنية والدولة وفقدت المدينة ابرز مرتكزات مدنيتها عبر التاريخ ..”التعايش والقبول بالآخر” هوية العاصمة الثقافية.
ثلاث جمل فقط يمكنها تكثيف المشهد الوارف بالتفاصيل .. ” تطبيع الحياة. استعادة مظاهر الدولة .. تفعيل المؤسسات” ..ثلاث جمل تخلقت في تعز وتصدرت كل عناوين الاخبار في مختلف وسائل الاعلام والخطابات الرسمية وغير الرسمية ..ثلاث جمل تجذَّرت بالكثير من العمل على الأرض حتى غدت فلسفة وحياة يلمسها الجميع أينما يممت الرحلة وجهتهم في مديريات تعز المحررة.. ثلاث جمل أضاءت طريق الإنجاز المعتم أمام محافظات أخرى وانتجت بالتوازي برنامجا سلسا للمتابعة والتقييم
مثّل تسليم الموظفين حقوقهم بوابة عبور الخدمات الى المواطنين إذ تلت تلك الخطوة أخرى تمثلت بـ استعادة مقرات مؤسسات الدولة الخدماتية والايرادية وإعادة تأهيلها وتشغيلها.. تنظيم الإيرادات عبر اوعيتها القانونية .. تحرير المتنفسات من بارود الثكنات .. تفعيل المؤسسة الأمنية وإزالة النقاط العشوائية وتسهيل حركة التنقل أمام المواطنين والبضائع ،بعض شواهد الطريق الآمن الذي مرت عبره الجموع عائدة الى منازلها وفتحت معها المحال أبوابها لتعج الأسواق والمدينة بعد سنوات اليباب بالحياة.
حين تحاول مراكز النفوذ تقليص ساحتك ..حقق شيئا من أجل الناس.
في مراحل الحروب وفترات الانتقال تغدُ حكومة التكنوقراط خارج العالم الافتراضي أول الطريق الصائب للخروج بالبلد من دوامة المتاهة. رغم ما شيدته المحاصصة من الموانع والسدود في ذات المناطق المعدة لمد الجسور.
بالقليل من الكفاءات والفرص والامكانيات المتاحة ..بالكثير من المسئولية والجهد والإرادة .. حاكت السلطة المحلية في المحافظة بقيادة محمود العام 2018 معادلات جديدة أمكنها في زمن وجيز حشد وتفعيل القوى والكفاءات ليتحول الانجاز الى وتيرة عمل يومية
عقل متفتح ورؤية واضحة الأهداف .. مهارة في تفعيل القوى ومقدرة على اتخاذ القرار ..
أدوات تألفها الجدوى العالية.
بدعم من فخامة الرئيس وتنسيق وتعاون ناضج ومسئول من ومع مؤسسات دول التحالف العربي العاملة في اليمن انتشل محمود المحافظة من أنقاض الحرب ووحل الفوضى الممولة والجريمة المنظمة ليقفز بها فوق كل ذلك الركام الى الساحة الاوسع ..اعادة تجميع الصورة الأصلية في رحلة جمعت بين الإرادة الوطنية والمسئولية والمعلومة التي تحترم حق وعقل الجمهور.
ومع كل خطوة على طريق تطبيع الحياة تعززت في الاذهان مفاهيم الدولة وقيم التعايش والمدنية .. قرارات تترجم الرؤية وكلمات تترجم الإنجاز، ومعها تبين الخيط الأبيض من الاسود
تطبيع الحياة عملية تبدأ من حضور مظاهر الدولة بشكل فعلي وفاعل على الأرض بذلك القدر الذي يعيد انعاش الثقة المتبادلة بين المواطن وحكومته ، ولأن الدولة منظومة مؤسسات فلابد لهذه المؤسسات أن تكون فاعلة على مقياس وصول الخدمة الى المواطن بشكل افضل
استكمال التحرير وإقامة الدولة الاتحادية مطلب الوطن الأساس .. اليوم وبعد سنوات من المحاولات الفاشلة لاشباع الثقوب السوداء بات من الممكن القول أن الحلول الفاعلة لايمكنها النمو خارج الساحة الواسعة.
عادت تعز الى حدائقها ومتنزهاتها بسمة طفل وايقاع أغنية واحتفال حين عادت المسئولية المغيبة والغائبة، وأصبح برنامج عمل الرجل “الساحة الواسعة للإنجاز” حاجة ملحة للانطلاق في شتى المحافظات والمناطق الخاضعة للسلطة الشرعية. وأرق مخيم على رؤوس مشاريع الشرذَمة ومصالح الاتجار بالحروب.. والسؤال الى اين ستتجه خيارات المدى المتوسط ..الخروج من المستنقع ..ام التوغل أكثر في اتجاه اللاعودة؟