المواطن/ كتابات – قادري أحمد حيدر
الإهداء:
إلى الأستاذ الباحث والرفيق/ فهمي محمد .. باحث جاد يتطور بسرعة ليمتلك ناصية البحث على أسس معرفية/ فكرية نقدية، وهذا جانب مما أود الإشارة إليه في إهدائي هذا. أما الجانب الأخر فهو تأكيده في كل ما يكتب على رفض الوقوف عند عتبات السلطان أو مناجاة السلطة بما تريده من القول، وسعيه لتأسيس وقوفه الواعي على باب معرفة الحقيقة لمواجهة سطوة غياب الإحساس بشرف المسؤولية .
إنه واحد من شباب الثورة الذي لم ينتظر إشارة من السلطة بموقع معين في حظيرتها ليصمت صمت القبور كما هو الحال مع البعض ممن تشرئب ارواحهم قبل اعناقهم إلى موقع صغير في السلطة المتهالكة. وبقي محافظاً على صورة المثقف في داخله.
إليه مع خالص التحية والتقدير.
لا جدال في أن تجربتنا في اليمن مع بناء الدولة المدنية، والوطنية الديمقراطية الحديثة قد باءت بالفشل، في الشمال والجنوب -بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة في كل شطر على حدة – مع وعينا وادراكنا العميقين أن الفشل/ العجز في بناء الدولة المدنية الحديثة يعود جذره التاريخي العميق إلى غياب المقدمات المعرفية الفكرية – التنويرية- بقضية وجود وبناء الدولة الحديثة التي أسميناها في أدبنا السياسي العربي بــــِ”الدولة الوطنية”. ونقصد بـــِ”المقدمات المعرفية الفكرية”، أولاً: “عصر الأنوار”، وثانياً: التنويرية العقلانية، والبنى المادية الاقتصادية الرأسمالية التي صاحبت ظهور البرجوازية، في أوروبا، ومهدت للفكر التنويري العقلاني، والفلسفة الإنسانية التي جعلت من “الفرد / الإنسان، محور الكون”، وكان من نتائجها ظهور فكرة “العقد الاجتماعي”، أي أن هناك سياقاً فلسفياً/ مادياً اقتصادياً عملي، تاريخي، قفزنا عليه أو تجاوزناه، وجاءت المرحلة الاستعمارية الإمبريالية في تحولاتها المدمرة والخطيرة لتعمق من أزمة التحول في مجتمعاتنا العربية.
مع أن هناك دولاً آسيوية وأفريقيا ،كنا –عربيا- في مستوى أكثر تطوراً وتقدماً منها على كافة الأصعدة، وعرفت –كذلك- الظاهرة الاستعمارية، ومع ذلك تمكنت بقدراتها الذاتية من تجاوز أوضاع الانتقال إلى مستويات اقتصادية ودولتية أعلى، وصارت اليوم من “دول العشرين” : الهند الصين كوريا الجنوبية البرازيل وغيرهم، علما أن اليابان كانت إلى ما قبل سبعين عاما في وضع ومستوى علمي وتعليمي وصناعي متقارب مع مصر، إن لم نقل اقل في بعض الجوانب من مصر كما تشير بعض التقديرات .
نؤكد على ذلك حتى لا نرمي العبء كله على الخارج، ونتحلل من مسؤوليتنا الذاتية المباشرة في ما وصلنا إليه اليوم.
إن فشلنا وعجزنا في بناء الدولة الحديثة إنما يعود في جزءٍ منه إلى عوامل تاريخية ماثلة في المقدمات الفلسفية/ المعرفية، وكذا لعوامل ذاتية/ داخلية: ارتهاننا للماضي، وإعادة انتاجه ونحن نتقدم إلى المستقبل. إلى جانب ذلك الشرط الاستعماري الإمبريالي الذي قطعاً ساهم في تعميق التجزئة ، وتكريس التخلف ، فالنهب الاستعماري لآجال طويلة، طالت آثاره التدميرية البنى الاقتصادية ، والاجتماعية، إلى جانب نهب ثروات المنطقة واخضاعها لخدمة المصالح الإستعمارية.
ومع ذلك تمكنت دول شبيهه بنا وقريبة منا، بل وأدنى منا في مستويات التطور، من تجاوز أوضاعها ومن تجاوزنا –كما سبقت الإشارة-. وفي تقديرنا أنه ليس شعارات لا “صوت يعلو فوق صوت المعركة”، والاستعمار، وحل المسألة الاجتماعية أولى من المسألة الديمقراطية ومن قضية الحريات، سوى أردية وأغطية لذلك التخلف الذي أطرنا أنفسنا به لتبرير عجزنا وفشلنا في بناء الدولة الحديثة، بعد أن استعضنا عن مفهوم ومصطلح “الدولة المدنية الحديثة”، بمصطلح “الدولة الوطنية”، للدلالة على مواجهة الخارج اللاوطني/ الاستعماري دون تجاهل أو إهمال الشروط الاستعمارية التي وضعت في مواجهتنا في شمال اليمن وجنوبه، من بعيد قيام الثورتين اليمنيتين / سبتمبر/ وأكتوبر، اللتين وجدتا وقامتا في مناخ الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين. كان لا بد من الإشارة إلى ذلك لتستقيم القراءة على قاعدة موضوعية عقلانية ونقدية تاريخية.
وجاءت الوحدة اليمنية السلمية على قاعدة التعددية والديمقراطية، لتؤكد أن الموانع والتحديات كانت، وما تزال كبيرة، وهي المصاعب والتحديات التي كان يفترض أن يتم التمهيد لتجاوزها قبل إعلان قيام الوحدة، وأن تسبق قيامها –على الأقل- لتخفف من عواصف الممانعة والمعارضة ليس لاستمرار دولة الوحدة، بل لمجرد البدء التنفيذي الاجرائي في التأسيس لقيام الدولة الوطنية الحديثة. ولذلك كانت المعارضة للوحدة من الأشهر الأولى لقيامها باتفاق سياسي ضمني وعملي بين شقي طرف الوحدة في الشمال، وهو ما أشار إليه الشيخ عبدالله بن حسن الأحمر في مذكراته (ص248) ، من أن فكرة وقضية الوحدة ، والاتفاق على بناء دولة الوحدة لم تكن أكثر من لعبة سياسية – أو هي بهذا المعنى- بين أطراف سلطة صنعاء: العسكر، ومشايخ القبائل، ورجال الدين السياسي. ومن هنا كان ضرورة البدء في وضع العصي أمام حركة دولاب الوحدة السلمية، وفي وجه أي محاولة أو امكانية للبدء السياسي أو الإداري أو القانوني والدستوري في بناء دولة الوحدة. لذلك فقد جرى تحشيد وتجييش ، المجاميع العسكرية والقبلية، والدينية من كل طوق صنعاء باسم معارضة ورفض الدستور “العلماني”، والتوجه “الماركسي/ الشيوعي”، لبناء الدولة، تحت غطاء خطاب سياسي ديني تكفيري/حربي لأطراف واسعة من المجتمع، ضمن صفقة سياسية – كما أشرنا- بين علي عبدالله صالح والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وشيخ التكفير/والحرب، عبدالمجيد الزنداني، والمجاميع “الجهادية”، العائدة من أفغانستان. وهنا بدأت الاغتيالات لقيادات الدولة الجنوبية، ولقيادات الحزب الاشتراكي، ثم حاولت وسعت إلى أن تطال كل قياداته العليا: من رئيس البرلمان، إلى رئيس الحكومة، إلى عضو مجلس الرئاسة، وقيادات عسكرية، ووزراء، ومحافظين، وقادة حزبيين، ورجال دولة. وقد وصل عدد من طالتهم الاغتيالات خلال سنة إلى أكثر من مائة وستين قيادياً وكادراً حزبياً .. وهو مؤشر سياسي أمني عسكري، وقف حائلا في وجه أي محاولة لتحول جدي نحو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، حيث كان الإصرار على الاستمرار في إدارة السلطة، والدولة بذات الطريقة القديمة، مستثمرين حالة أن الدولة قد أعلنت وقامت دون أسس ودون مقدمات مؤسسية وإدارية، وقانونية ودستورية واضحة.
ولذلك رفع سوط شعار “الانفصال” في وجه كل من يدعو إلى تصحيح وتصويب مسار الوحدة، ومن هنا أيضاً وواجهت محاولة إخراج “وثيقة العهد والاتفاق”، بكل ذلك العنف والرفض والمماطلة، حتى القتل. وحين جرى توقيعها –وثيقة العهد- في الأردن/ عمان تحت ضغط الحراك السياسي، والجماهيري الواسع في كل البلاد، جرى العمل الجدي لعدم تنفيذها بعد التوقيع، في صورة إعلان بيان الحرب 27 إبريل 1994م والذي سبقه تسويفات في عدم اتخاذ أي إجراء سياسي إداري قانوني دستوري في السير باتجاه بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة.
لقد كشفت الحرب ونتائجها المأسوية أن اتجاه الرفض والممانعة في قلب سلطة صنعاء السابقة –بعد الوحدة وبعد حرب 1994م- كان أكبر من أن يحتمل مشروع قيام دولة سلطة القانون، والمساواة، والعدل على انقاض “دويلة المركز والعصبية”، ومن هذه الخلفية صدرت فتوى التكفير ، ولذلك كانت الحرب خيارهم الوحيد لإعادة إنتاج النظام القديم .. ومن هنا -كذلك-، استشعار جميع أطياف وشرائح وطبقات المجتمع قبل الحرب من أن لا خيار سوى الدخول السياسي، والوطني العام إلى مشروع بناء الدولة الاتحادية، بـــِ”المخاليف”، وكانت وثيقة “العهد والاتفاق”، هي راية الخلاص الوطني، على طريق لجم تيار الحرب، والشروع في تنفيذ الخطوات الأولى نحو بناء دولة اتحادية تعاقدية مدنية.
لقد كان المسار الوحيد المتاح والممكن أمام اليمنيين جميعاً، ليس سوى الشروع الطوعي (بالاتفاق)، إلى خيار تنفيذ “وثيقة العهد والاتفاق” التي جرى نقضها بالحرب.. ولذلك لم نتعلم من التاريخ، ونجد أنفسنا اليوم مرة ثانية نكرر ذات الخطأ السياسي القاتل، بالانقلاب على “مخرجات الحوار الوطني الشامل”، وهي وثيقة اجماع وطني حقيقي لجميع أطراف المجتمع على طريق دولة مدنية حديثة ديمقراطية اتحادية من عدد من الأقاليم يجري الاتفاق حول عددها بالتوافق السياسي الحواري، وليس عبر “الفرض الإداري”، خارج نطاق التوافق السياسي بين جميع أطراف المعادلة السياسية الوطنية اليمنية .. ومن هنا كان اصرارنا وإقرارنا جميعاً في قلب مؤتمر الحوار الوطني من أن الدولة البسيطة (دويلة المركز التاريخية)، فشلت وعجزت، بل وسقطت تاريخيا، عن أن تكون دولة لجميع مواطنيها، ومن أنها غير مؤهلة واقعياً وسياسياً لإنجاز مهمات المرحلة التاريخية الآتية.
ولذلك اتفقت جميع المكونات والأطراف السياسية، والمدنية والشباب والمرأة، والمستقلين ، من أن وثيقة ” مخرجات الحوار الوطني الشامل” هي مدخلنا لذلك. وهنا ادرك علي عبدالله صالح تحديداً وخاصة بعد تثبيت نص منع القيادات العسكرية الكبيرة إلى الدرجة الرابعة، من ذوي القرابة في المشاركة في الحكم إلاَّ بعد مرور عشر سنوات، -وهو الذي كان يحلم بالتوريث عبر قلع العداد- ولذلك كانت مجاميعه، وأزلامه تعمل وبتوجيهات مباشرة منه، وبجهد حثيث لتعويق سير أعمال “مؤتمر الحوار الوطني”، عبر كل الفرق المعنية. وباء فالهم/حلمهم بالفشل، وخرجت “المخرجات” للعلن بالتوافق الوطني العام، وبحضور وتأييد دولي واسع.
ويمكننا القول والتأكيد من أننا وفي قلب مؤتمر الحوار الوطني الشامل لم نقر نص مبدأ أو قرار “الستة الأقاليم”، وبقى خيار “الستة”، و”الاقليمين” في دائرة البحث، وهي الثغرة، -وغيرها كثير بعد ذلك – التي نفذ منها تحالف الحرب في تنفيذ الانقلاب، بعد أن أدخل علي عبدالله صالح الحوثيين طرفاً في معادلة الانقلاب، والحرب على “مخرجات الحوار الوطني” وكأنه كان يستقوي بهم ضد جميع الأطراف السياسية في البلاد، لينتقم من ثورة فبراير 2011م فقادته روحية الانتقام إلى حتفه.
ومنها دخلنا إلى دائرة الحرب المستمرة القائمة، وملاحظاتي في حينها واليوم حول خيار دولة اتحادية من ستة أقاليم، سجلتها وثبتها في كتابي عن “القضية الجنوبية” وفي أكثر من موضوع، وتحت عنوان “ملاحظات على دولة اتحادية من ستة أقاليم” أعدت نشرها منقحة ومعدلة في شهر مايو 2019م في وسائل التواصل الاجتماعي .
واليوم لا خيار سوى استعادة العملية السياسية السلمية من حيث توقفت أو من حيث جرى القطع معها بالانقلاب والحرب، على قاعدة المواطنة، والمساواة ، والعدالة الاجتماعية، على طريق بناء دولة مدنية حديثة ديمقراطية، وهو ما أشارت إليه بوضوح نصوص وقرارات “مخرجات الحوار الوطني الشامل”.
وفي تقديري أننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى مطلوب منا أن نتوحد على قواسم مشركة سياسية ووطنية جامعة قبل أن تجرفنا رياح الخارج لخدمة أجنداتها السياسية الخاصة.
إن المطلوب منا اليوم، قبل الغد البدء بتشكيل تكتل سياسي وطني تاريخي ولو بمجموعة من الأحزاب والقوى السياسية والوطنية والنخب الثقافية والمدنية على قاعدة المصالح السياسية والوطنية المشتركة التي تجمعنا ، ونتحاور مع كل أطراف الخارج (إيران/ السعودية/ الإمارات)، حول الصيغة الوطنية المقبولة للعلاقة بهم ، من خلال خطاب سياسي وطني واضح الملامح والحدود، ومواقف نعمل من خلالها لاستعادة الدولة الوطنية اليمنية، وهو هدف استراتيجي، قد يساهم، لو توحدنا حوله، في أن يفتح أمامنا مداخل سياسية وعملية للخروج من الأزمة / الكارثة ، ووضع حد سياسي بأفق وطني ديمقراطي، يضع حداً لكل التداعيات الحاصلة لما بعد الانقلاب والحرب.
ولكن البداية السياسية والعملية هي في إنتاج كتلة سياسية وطنية تاريخية في واقع الممارسة، وليس عبر البيانات على طريق استعادة الدولة الوطنية اليمنية .
كيف ذلك؟ هذا هو مشروعنا السياسي والوطني الخاص الذي علينا أن نفكر فيه في مواجهة جميع أشكال التعويقات من الداخل، ومن الخارج هل نبدأ؟ متى نبدأ؟.