المواطن/ كتابات – طه العزعزي
هذا المثال (التعزي) أصلاً ولفظاً والذي اخترته عنواناً لمقالتي هذه ، لهو خير توصيف للحالة المقلقة التي وصلت إليها تعز الثورة والمدنية في ظل هذه الحرب الكاسحة التي جعلت من تعز مدينة منكوبة تعاني من الحصار ” الحوثو عفاشي ” القادم من الشمال الذي عمدّ على سحقها بالمعنى الحقيقي لكلمة سحق ، و من اقتتال داخلي بين فرقائها السياسيين والدينيين الذين يغلب عليهم طابع العتو والإستعراض ووهم الهيمنة الذي يبدو أن ذلك لايساعد على استقرار هذه المدينة وسلامة مواطنيها وأمنها الداخلي ، والذي لايساعد أيضاً على استكمال تحرير مدينة تعز وعودتها مرة أخرى كما كانت من ذي قبل .
إن العامل الجفرافي لتعز عاملٌ سلبي أكثر من كونه عامل إيجابي من وجهة نظري ، فهذه المدينة الواقعة في جنوب الشمال وشمال الجنوب تكاد تكون لا شمالية ولا جنوبية في نظر الشماليين والجنوبيين الذين تضيق بهم العنصرية وتسرف في خنقهم ودفعهم إلى هوة أعمق ، لذلك نرى أن مدينة تعز مدينة تقع حيث لا تقع .
إن هذا العامل السلبي للجغرافيا في مجتمعنا المتخلف هذا ، لم تنقدنا منه ثورة تكنلوجيا الإتصالات والمواصلات أيضاً ، هذه الثورة التي عول عليها كثيرون من المفكرين والفلاسفة والعلماء ، من ضمن هؤلاء المفكرين المفكر ” ريتشارد إي . نيسبت ” في كتابه ( جغرافية الفكر ) والتي أشار لها في المقدمة بعجالة سريعة ، ولكنها كانت عجالة كافية للإنتباه ، إنتباهي ربما أولاً ، والتي عولت عليها أيضاً في جفرافية الفكر اليمنية بالتحديد . كان بوسع ثورتي الإتصالات والمواصلات هاتين أن تحد من فكرة البعد والهامش والمنسي والمنبوذ أيضاً ، وتعمل على وحدة ودمج المجتمع اليمني دمجاً غير مختلاً كما هو في هذه اللحظة .
في بداية ثورات الربيع العربي الذي وصلت شرارتها إلى اليمن ، أصبحت المدينة “تعز” بأبنائها التجار والعمال البسطاء والمثقفين والجامعيين الطلاب المتواجدين في جميع محافظات اليمن شعلة هذه الثورة التي سيعاقبون عليها أشد عقاب في ظل الثورة نفسها بدءً من عام 2011م وحتى الآن ، وسببية هذا العقاب هي ناتجة عن خوف شديد تجاه أبناء هذه المدينة الذين أثبتوا مدى حبهم للوطن وإصرارهم على التغيير ولاسواه ، دليل عى ذلك مسيرة الحياة التي قطعتها الأقدام الطافحة القادمة من المدينة تعز إلى العاصمة صنعاء ،و تلك الصدور العارية التي كانت تواجه رصاصات نظام عفاش التي إخترقتها بإجرام ليس له مثيل ، وماقد جرى في ظل الثورة من تقتيل فوضوي بلا رحمة ، وما يجري الآن من حصار وتقتيل أيضاً للمواطن المتواجد في هذه المدينة المنكوبة لهو دليل على هذا العقاب الذي يسعى فيه الطغاة إلى نزع الحرية وإطفاء جذوتها المشتعلة في قلب كل ثائر ، إن إبراز مبدأ السطوة والتسلط الذي سعى إليه الطاغية عفاش ومليشياء الحوثي على إركاع هذه المدينة لهو نموذج حي مايزال يأخذ مدى أبعد من التركيع وزرع الخوف في قلب كل مواطنٍ يسكن فيها ، إنه مدى السحق والتهميش والحصار المحكم ومضاعفة الفتك ومجانية الهلاك والموت في حق كل مواطن يقطن فيها .
إن المهمة التي كانت تسعى لها ثورة الربيع في اليمن لم تحدث ، وما حصل بالفعل هو أسوأ بكثير مما كنا نتوقع حصوله ، فالحاكم الذي أحب السلطة والتزعم طويلاً ، أحب أيضاً أن يجهض بل ويمحو كل حركة من شأنها أن تزعزع كرسيه ، إنه في أسوأ الأحوال أراد أن تكون حالة اللا استقرار والدخول في حروب طاحنة ولا نهائية هي الحالة التي من شأنها أن تبقيه على كرسي الحكم المشلول وعلى كثيرٍ من الأفواه اليابسة التي ستترحم عليه وعلى ماضيه وحكمه فيما بعد ، وهي التي ستجعل من البسطاء أيضاً في لحظتنا الراهنة وأول هذه الثورة يشتمون الثوار الأنقياء الذين خرجوا لبناء يمن جديد والذين ضحوا بدمائهم الزكية من أجل ذلك .
ظلت تعز الثورة وأبنائها بوصلتا الشتم والسباب المناطقي بعد ثورة الربيع العربي ، وهذا التناسل اللا معقول نجده في مرحلة التيه هذه يذهب إلى المَشكل أو “السبب الوحيد ” كما هو الواقع ؛ حيث لم تنجح ثورة الربيع العربي . نجد الرجل التعزي يواجه كل أنواع الشتم والسباب واللعن في أكثر من محافظة يمنية بوصفه المسبب الوحيد لما آلت إليه ظروف الراهن في اليمن وبوصفه المسبب الأول لهذه الثورة المسروقة التي أصبحت في نظر البعض فكرة وسخة ، إن تعز التي قادت الثورة وعمدت على تصحيح المسار وتأصيل مبادئ التقدم والمدنية أصبحت شتيمة الزمان الراهن الذي أفضى إلى أكثر من إحتمال وتأويل بحقها كمسببة للفوضى والحرب والتخريب _ كما يرى الضيقون كخرم إبرة _ وأيضاً أصبحت شتيمة المكان المحدود ، فالتعزي الذي ما إن يخطو بقدماه صوب مدينة يمنية أخرى يجد نفسه ذلك المثقل بنظرات المشاهد المحدق والمستمع المنتبه في آن .
أيضاً بقي أن نشير إلى أن أبناء تعز يعيشون بعاطفتهم أكثر من كونهم يعيشون بعقولهم ، فالعاطفة التي تتملك أبناء تعز هي عاطفة حماسية تنزع إلى الرفض والتغيير وهي حماسة إيحابية ، ولكن هذه الحماسة أخيراً وأولاً لم يحمد عقباها كما نشاهد ونسمع الآن ، فتعز كما تدل الأحداث الأخيرة مدينة في قمة القلق والفوضى و الفوران الحماسي ، ومن فظاعة الحماسة في مآلات الأحداث المتصاعدة نرى أن أبناء تعز مدفعون بفعل قوتها للتطبيل والتصفيق مع كل من يظهر فيها ويحكمها ، وهذا مايدل على ماذهبتُ إليه أولاً من أن أبناء تعز يعيشون بحماستهم العاطفية أكثر مما يعيشون بعقلانيتهم الرشيدة ، وهو السبب الذي سيكون لتعز الوسطية بجغرافيتها اللامعة بين شمال الجنوب وجنوب الشمال فعل التطبيل البليد والتصفيق الحاد المتصاعد بجنون كما نرى الآن للجنوب وللشمال وللحوثيين والشرعية أيضاً ، فبعضٌ من أبناء تعز يقاتلون في صفوف الحوثيين وبعضهم الآخر ( وهم الأكثرية) يقاتلون في صفوف الشرعية .
إن أبناء تعز أكثر حماسة مما تخيلت ، لقد رأيت إلى حد ما البعض منهم يحرقون أنفسهم كي ينجو الجميع ، ورأيت الآخرين يحرقون مدينتهم كي ينجو الوطن .
أخيراً ، إن من جملة مشاكل تعز بل وأعظمها ، مشكلتها الجغرافية التي لم تستطع التوفيق والربط _وهي الوسطى _ بين شمال الجنوب وجنوب الشمال ، لذا حين تتأزم المشاكل وتنفجر أوضاع هذا الوطن فتأخد مدى كارثي أبعد ، على نحو فلسفي علينا “نحن القاطنون في تعز ” حين نبحث عن مفتايح الحلول أن نطيل النظر إلى الأرضية التي تقف عليها أقدامنا قبل أن نبدأ ، فالنظر إلى أسفل القدمين أسهل بكثير من التحديق بعيداً .
طه العزعزي .