عيبان محمد السامعي
” النضال السلمي تضحية من طرف واحد .. !!”
الشهيد الوطني الخالد جار الله عمر
النشأة الأولى:
ولد الشهيد جار الله عمر عام 1942م في قرية كهال عمار , مديرية النادرة بمحافظة إب . فقد أباه مبكراً وعمره لم يتجاوز الـ 6 أشهر نتيجة إصابته بداء مفاجئ .
بدأ تعليمه في كُتَّاب القرية “المعلامة”, ثم انتقل إلى ذمار للدراسة في المدرسة الشمسية وتلقى فيها العديد من المعارف وهو في سن 16 عاماً, حيث انكبَّ على دراسة مناهج مكثفة في الفقه وعلوم اللغة والمنطق, والكثير من المتون كألفية ابن مالك ومتن الأزهار, ودرس على يد علماء وفقهاء, أمثال: إسماعيل السوسوة, زيد الأكوع, حمود الدولة, وأحمد سلامة.
انتقل بعد ذلك إلى صنعاء للالتحاق بالمدرسة العلمية, حيث أتاح له المناخ الجديد من تلقي المزيد من العلوم على يد أساتذة أجلاء, كتعلمه مادة الأدب على يد الشاعر عبدالله البردوني , كما استطاع أن يقيم علاقات واسعة مع قيادة الحركة الطلابية, وشارك مشاركة فعالة في التظاهرات الطلابية التي سبقت قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م, بل وقاد مظاهرات جماهيرية تعميداً لانتصار ثورة سبتمبر بعد قيامها.
الانخراط في العمل السياسي والنضالي
كان لقيام ثورة الـ 26 من سبتمبر عام 1962م أثراً كبيراً على الواقع الاجتماعي والسياسي في اليمن, بما أحدثته من تحولات نوعية على صعيد النشاط السياسي, فقد بدأ نشاط حركة القوميين العرب ينتشر بين الشباب والجيل الجديد. وكان للشهيد في غمرة هذه التحولات نشاطاته ومشاركاته المشهودة, حيث التحق بصفوف حركة القوميين العرب وكان من ضمن المؤسسين لاتحاد الطلبة, وهو أول اتحاد على مستوى الجمهورية الوليدة.
التحق عام 1963م بكلية الشرطة, وعُيِّن مدرساً فيها عقب تخرجه, شارك في الدفاع عن الجمهورية أثناء حصار السبعين يوماً.
في عام 1968م قام هو وبعض رفاقه بتأسيس الحزب الديمقراطي الثوري كتنظيم يجمع القوى الجديدة إبان الصراع مع القوى التقليدية.
أعتقل بعد ذلك في أحداث يومي 23 و24 أغسطس 1968م , حين تمكنت القوى التقليدية من حسم الصراع السياسي لصالحها عن طريق لجوئها إلى العنف .
بعد خروجه من السجن غادر إلى عدن عام 1971م نتيجة المطاردات التي تعرض لها, واستقر فيها لفترة.
انتخب عضواً في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الثوري اليمني عام 1972م. كما كان من مؤسسي الحزب الاشتراكي اليمني في مؤتمره التأسيسي الأول في 14 أكتوبر 1978م, وعضواً في المكتب السياسي للحزب ومسئولاً أول عن نشاط الحزب في الشطر الشمالي آنذاك تحت مسمى (حزب الوحدة الشعبية).
عاصر وشارك في كل الفعاليات السياسية التي مهدت للوحدة, ويعد من أبرز السياسيين الذين دعوا إلى انتهاج الخيار الديمقراطي في الكيان الوليد؛ باعتبار هذا الخيار هو الضامن الأساسي لبقاء الوحدة وتجذُّرها, واعتبار ألا قيمة فعلية لمعنى الوحدة في غياب الديمقراطية والشراكة الحقيقية.
عين عضواً في المجلس الاستشاري الذي تلا قيام دولة الوحدة عام 1990م. كما كان من أبرز الشخصيات السياسية التي شاركت في الحوارات السياسية خلال الفترة الانتقالية 1990- 1993م.
عين وزيراً للثقافة والسياحة عام 1993م, ويعد من أهم الشخصيات الحوارية التي حاولت منع حرب صيف 1994م وكان من أكثر السياسيين رافضاً لانتهاج خيار الحرب .
ساهم في إعادة بناء الحزب الاشتراكي اليمني بعد الحرب من خلال موقعه كعضو في المكتب السياسي ومسئولاً عن الدائرة السياسية للحزب.
أقام حوارات كثيرة مع الأحزاب السياسية من أجل ترسيخ العملية الديمقراطية وإزالة آثار الحرب, وأدت تلك الحوارات إلى تأسيس مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة وتالياً اللقاء المشترك كمكون يضم أحزاب المعارضة في البلد.
ساهم بفعالية في إنضاج الحياة السياسية من خلال موقعه كأمين عام مساعد للحزب, وكانت له مواقف جريئة وحكيمة تشهد له كل الفعاليات السياسية ضد سلطة الاستبداد والحكم العصبوي.
استشهاده
عاش الشهيد مناضلاً ومنحازاً للناس طوال حياته, واتسم بتواضعه الشديد وبساطته ودماثة أخلاقه. لقد نذر حياته من أجل هذا الوطن المُتعَب, وجسَّد في نضالاته وتطلعاته مشروع ديمقراطي تحديثي بديل يتخطى العناوين والانتماءات الضيقة (المناطقية والجهوية والمذهبية والسياسية) إلى محيط الوطن الرحب, كان مسكوناً بهموم الوطن ومستقبل الأجيال حتى آخر لحظة من حياته, مجلياً عن تلك المعاني والتطلعات في آخر كلمة له ( الوصية ) قبل دقائق معدودات من لحظة اغتياله الآثمة..
في صبيحة السبت الموافق 28 ديسمبر من العام 2002م, وأمام أكثر من 4000من قيادات وأعضاء التجمع اليمني للإصلاح وعدد من السياسيين والمثقفين, وعلى مرأى ومسمع ملايين البشر الذين كانوا يشاهدون شاشات التلفزة التي نقلت بالبث المباشر وقائع اغتياله.. انطلقت رصاصات الغدر والحقد والتطرف لتسكن قلبه العامر بالمحبة والنقاء ليفارق الحياة وينتقل للرفيق الأعلى..
أحدثت حادثة اغتياله الغادرة هزة عنيفة في وجدان المجتمع اليمني, فعمت مظاهرات ومسيرات ضخمة جابت معظم محافظات اليمن منددة بالعمل الآثم, وسادت حالة من الغضب العارم والرافض لجريمة الاغتيال, حيث شهد الموكب الجنائزي تجمع ما يربو عن نصف مليون مواطن في صنعاء وحدها .. وخرج مئات الآلاف من الناس في غالبية المحافظات في مسيرات جنائزية رمزية, عبَّرت فيها الجماهير عن حبها للشهيد, ومثلَّت حالة من الاستفتاء الشعبي حول رؤى الشهيد ومشروعه الوطني.. وأكدت في الوقت ذاته على أن عملية الاغتيال في حق مناضل وطني ومفكر تنويري بحجم جار الله عمر جريمة شنعاء لن تسقط بالتقادم, مهما طال الزمن أو قصر.
نعلم من قتل جار الله عمر ونعلم من يلجئ إلى السلاح والقتل, ونعرف تماماً مشاريع تلك القوى التي تقف خلف عملية اغتياله الجبانة, والتي تهدف إلى جر البلاد إلى أتون حروب وتشظيات لا تنتهي, وفي المقابل هم يعلمون لماذا يقتلون الوطنيين من أمثال جار الله عمر وآلاف من أمثال جار الله!! ويدركون الأهداف الوطنية الكبرى التي يحملها هؤلاء في ضمائرهم ووعيهم.. لكن مع كل ذلك سنظل مخلصين للقضايا الوطنية المشروعة والعادلة وسنظل دوماً نقدم الغالي والنفيس من أجل تحقيقها وتحقيق حياة كريمة لمواطني هذه البلاد الحبيبة..
مواقفه السياسية ومساهماته الفكرية
• الدعوة المبكرة إلى التعددية الثورية والسياسية:
اتسمت المواقف السياسية للشهيد أثناء الأزمات التي عصفت بالشطر الجنوبي بأنه كان يسعى دائماً إلى التوفيق بين التيارات المختلفة, وكان حريصاً على رأب الصدع وتجنيب الوصول إلى الصراع والافتراق, حتى أُتهِمَ من قِبل الأطراف المختلفة ـ نتيجة مواقفه التوفيقية تلك ـ بأنه يقف في الوسط وأن هذا الوسط بلا موقف ..!
لقد كان الشهيد يدرك بعين الرائي أن الانقسامات التي تحصل في صفوف الحركة الوطنية ستؤثر سلباً على المشروع الوطني برمته, وما يميزه أنه كان ناقداً, متجرداً, غير متحيز في نقده لكل التجارب السياسية بما في ذلك تجربته هو.
لقد دعا الشهيد منذ وقت مبكر باعتماد الديمقراطية والتعددية السياسية داخل الأطر التنظيمية للحزب والنظام الجنوبي بشكل عام, وقدم رؤية عميقة وشاملة أظهر فيها المعاني الجوهرية للديمقراطية والتعددية.. وأكد على حقيقة أن غياب الممارسة الديمقراطية أدى إلى نشوب الصراعات والخلافات, وساعد على استشراء البيروقراطية المتخلفة داخل الدولة, وشيوع الجمود, مما سبب تراجعاً في مسيرة المشروع الوطني التقدمي الناجز. وإزاء هذا الأمر دعا إلى إقامة تحالفات وطنية عريضة وتكوين كتلة تاريخية من أجل إعادة وضع المشروع الوطني التاريخي إلى سكته الصحيحة ..
• في جدلية الوحدة:
شكلت قضية الوحدة أهمية كبيرة لدى الشهيد, باعتبارها حدثاً تاريخياً تتعلق بانجاز مهمة وطنية كبرى تحقق للشعب ميزة امتلاك الكيان الوطني الواحد, وإمكانية أن تشكل نقلة حضارية للمجتمع ترفعه من متاهات التخلف وظلام التشظي إلى إلى أنوار التقدم والانتماء لروح العصر.
لقد نظر الشهيد إلى الوحدة ليس كغاية تُطلب لذاتها بل بما تحققه من مصالح لعموم الناس.
لقد قدم الشهيد في فترة الحوار السابقة للحدث الوحدوي رؤية استثنائية وبرنامجاً عملياً إلى النخبة السياسية من أجل تحقيق مشروع وحدوي حقيقي وواقعي, والذي ينبغي أن يقوم على أساس إيجاد أرضية مادية من المصالح التي تقوي النزوع الوحدوي, وإعادة صياغة المفاهيم والانتقال بالخطاب السياسي من مرحلة المراهنات السياسية المفلسة إلى آفاق أوسع يؤسس لوعي حقيقي يصب في خانة استكمال الهوية الوطنية, وقيم الانتماء.
كما رأى الشهيد ضرورة أن يقوم هذا المشروع الوحدوي على مبدأ الشراكة الحقيقية والتعددية وحق الاختلاف, وأن يتضمن دستور دولة الوحدة على الحقوق المدنية والسياسية ويقر بالمساواة بين الجنسين وكل ما له صلة بصيانة حقوق الإنسان. ويثبت حقيقة الاقتران التلازمي والعضوي بين الوحدة والديمقراطية, ويسعى بكل دأب إلى أن يكون انعكاساً حقيقياً للإرادة الشعبية, يسهر على مصالح الناس ويحافظ على المكتسبات الوطنية والتاريخية, ولن يتحقق كل ذلك إلا في إطار دولة مدنية, دولة مؤسسات, تقوم على مبدأ الاختيار الحر, والمشاركة الوطنية وتقديم الأفضليات, وقوة الحق وليس على حق القوة وأشكال الاستقواء والهيمنة ومنطق الإلحاق والضم.
حول الأزمة والحوار والمصالحة
يوصف جار الله عمر بأنه شهيد الديمقراطية والحوار والتسامح السياسي, ولعل هذا الوصف قد أتى كنتاج طبيعي وتعبير صادق عن الدور الذي كان يضطلع به الشهيد في مختلف المنعطفات والمراحل الصعبة.
لقد كان يمثل صوت العقل في زمن التشظي وحين تسود لغة العنف. كان يسعى دوماً للحيلولة دون الوصول إلى مرحلة التفجر والاحتراب. وحين تحل لعنة الحرب يكون من أشد الرافضين لها؛ إدراكاً منه للنتائج الكارثية التي تفضي إليها في تمزيق النسيج الاجتماعي, وإحياء نزعات الثأر وروح الانتقام, وتغذية العصبيات الطائفية والمذهبية والمناطقية, وخلق القابلية للاستبداد والخنوع, وتكريس قيم سلبية مثل احتراف مهنة الحرب وتمجيد القوة, ومنح المنتصر حق التصرف في شؤون المهزوم دونما حدود, وخلق مجتمع قابل للتحريض على الكراهية وعدم التسامح.
لقد انتهج الشهيد لمواجهة هذا الوضع الاستثنائي الحل السياسي السلمي باعتباره حلاً حضارياً يضمن البقاء والتعايش بسلام. لقد دعا منذ وقت مبكر إلى انتهاج الحوار وجعله لغة التعامل والتخاطب بين كافة مكونات العمل السياسي, والوصول من خلاله إلى صيغة لمصالحة وطنية وسياسية تاريخية, تعيد للوطن رشده بعد أن فقده جراء الحرب اللعينة. لكن ثقافة المنتصر المشفوعة بالفيد والنهب والمحاولة المستميتة لطمس هوية الآخر وقفت بالمرصاد ضد هذه الدعوات الحريصة, ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل سعى ذلك النهج الاقصائي الهمجي المتخلف إلى إطلاق أحكامه الجاهزة والقطعية والطعن في وطنية دعاتها. وإزاء هذا الأمر أدرك الشهيد أهمية وضرورة وجود موازين قوى مناسبة تفرض على النظام الحاكم ( السابق ) القبول بها, فقاد حوارات سياسية طويلة ومعمقة مع مكونات الطيف السياسي بالبلد, وأدت تلك الحوارات إلى تأسيس مجلس تنسيق للمعارضة, وتالياً اللقاء المشترك كتكتل أوسع.
اليوم ونحن نحيي الذكرى الـ19 لاستشهاد الرفيق الخالد جار الله عمر فإننا أحوج ما نكون إلى تجسيد قيم الشراكة والانسجام الوطني وفق منطق التعايش باعتباره لا يعترف فقط بكيانية الآخر ولكنه أيضاً يعترف بأحقيته في أن يعبر عن طموحاته وتطلعاته بكل أريحية.. إننا بحاجة ماسة إلى ممارسة حق الاختلاف وحمايته باعتباره (جذر الحرية بتوصيف الفيلسوف الشامل / أبوبكر السقاف).. وأخيراً نحتاج إلى تمثل السياسة العقلانية التي تحقق ثلاثية الحرية والعدالة الاجتماعية والسعادة الوطنية..