المواطن/ ثقافة
علوان مهدي الجيلاني كاتب وأديب يمني
المشتغلون بالثقافة والكتابة والإبداع في اليمن قد يكونون الأكثر معاناة بين أمثالهم في كل بلاد العالم.. حتى على مستوى الرموز الأدبية والثقافية الكبرى..
والذين نالوا وضعاً مستقراً نوعاً مّا لم ينالوه إلاّ وقد ذهب العمر ولم تعد لهم قدرة على الإنتفاع به..
لقد ذهبت إلى منزل الشاعر والأديب الكبير عبدالله البردوني صبيحة فوزه بجائزة العويس..سنة 1993م وجاء الأديب والإعلامي المعروف محمود الحاج ومعه طاقم من التلفزيون يحمل الكاميرات ويجهِّز للقاء معه بهذه المناسبة..وقبل إجراء الحوار قال محمود الحاج يداعب البردوني: نمسك الخشب يا أستاذ عبد الله فقد صرت – ما شاء الله – برجوازياً..
تبسَّم البردوني وكشف عن ساقيه اللذين هالنا امتلاءهما بندوب داكنة تشرح تاريخاً طويلاً وقاسياً من الجروح والإصابات..ثم قال: هذه آثار مغامراتي التي كنت أقوم بها إلى المقاشم في ليالي الشباب كي أسكت جوع بطني بشيء من الفجل أو الكراث.. وكانت المقاشم محاطة بحواجز من الخشب والحجارة وأنا أعمي أصطدم بحاجز، وأتعثر بحجر أو أقع في حفرة..ولا أعود إلا وقد خضَّب الدم ساقي وقدمي.. الجائزة تجيء اليوم وقد ذهب الشباب وتقدم العمر واشتدت وطأت الضغط والسكر وانهد الحيل.. وصرت محروماً من المآكل والمشارب اللذيذة..أما اللذائذ الأخرى فلم تعد واردة…إن هذه الجائزة تبدو بادرة مشكورة كونها تشعرنا بالتقدير والاحترام لما أنجزناه وتعبنا من أجله وأخلصنا له..
وسكت البردوني قليلاً قبل أن يطفر على شفتيه حس السخرية ليقول: لكن الجوائز في الغالب تجيء متأخرة..خاصة إذا كانت تحمل إلى جانب قيمتها المعنوية الكبيرة قيمة مادية كبيرة أيضاً كهذه الجائزة..لقد قال الأديب الإيرلندي الشهير برنارد شو حين علم عن فوزه بجائزة نوبل: لقد رموا لي القشة بعد أن وصلت إلى الشاطئ ولعل شو لم يكن يقصد أنه قد اشتهر شهرة واسعة وإن كان هذا صحيحاً..ولعله أيضاً لم يكن يقصد الاستغناء المادي مع أن ريع كتبه ومحاضراته في بلاد الغرب يوفرله هذا..ربما كان يقصد أنه قد وصل إلى مرحلة من العمر تنتهي فيها قدرة المرء على الاستمتاع بما يوفره المال من لذائذ العيش..
ولا مقارنة بين وضع عظيم يمني كالبردوني ووضع أديب آخر في بلاد العالم..وقد سئل كاتب أوروبي هو السويسري ماكس فريش: كيف حالك؟
فأجاب: أعمل ثلاثة أشهر في العام، وأسافر للسياحة بقية شهور العام..وأسكن هنا عند سفح الجبل على الشاطئ، على ارتفاع 180 متراً حيث يتوافر الأكسجين بشكل مناسب، ودرجة الحرارة معتدلة، وقوة الجاذبية تصلح لسني ووزني وتتيح لي الكتابة في وضع مميز ومريح..
إن اليمني كاتباً ومبدعا وفناناً ومثقفاً بشكل عام يمارس نشاطه في واقع أكثر بكثير من أن نصفه بالصعب تهميشاً وإبعاداً قسرياً عن الأضواء والتكريم والحفاوة.. حيث المؤسسة الرسمية هشة ومتقطعة الحضور وتفتقر إلى الخطط والاستراتيجيات المنظمة لعملها..وحيث المؤسسات الأهلية مرتهنة لمزاجية القائمين عليها.. ناهيك عن كون المؤسسات الرسمية والأهلية جميعها تمتثل في عملها غالباً لأمراض السياسة والتحيزات الحزبية والمناطقية وينعكس عليها ما تعاني منه مؤسسات الدولة الرئيسة من فساد وفوضى وتعوّد على الارتجال والاستسهال..
وذلك كله يضاف إلى الفقر وعدم استقرار البلاد والشعور بعدم الراحة وقلة الثقة في الحاضر والخوف من المستقبل وعليه، واليمني المشتغل بالثقافة والابداع يكاد يكون الوحيد الذي ما يزال يحصل على الكتاب بصعوبة في عالم اليوم.. وهو يكتب للصحف والمجلات اليمنية بلا أمل في الحصول على حقوق لما أنتجه.. وإذا حصل على شيء فإن مكافأة كتابته لعشر مقالات لا تكفي مصروف يوم واحد له ولأسرته..
والكاتب اليمني إذا أنجز كتاباً يعجز في الغالب عن طباعته.. وإذا استطاع طباعته لا يستطيع الاستفادة مادياً منه.. فإذا وزعه للمكتبات وأكشاك بيع الكتب ضاع حقه فلا أحد يستطيع الحصول منهم على شيء، وإذا باعه للوزارات وغيرها من مؤسسات الدولة عرَّض نفسه لهوان التردد على تلك المؤسسات من أجل أن يحصل على قيمة ماباع، وقضى على نسخ كتابه بالسجن في مخازن وبدرومات لا يقرؤها فيها أحد..
لكل تلك الأسباب يغدو إصرار المثقف والكاتب والمبدع اليمني على البقاء والاستمرار عملاً بطولياً.. لأنه تجديف متواصل في بحر هائج شديد الملوحة لا سمك فيه ولا فنار ميناء يلوح.. بل هو عيش في منطقة وعرة ومدببة تدمي وتجرح طوال الوقت.. وهذا بالذات من أهم أسباب غياب الحفاوة والتكريم ومن قبلها غياب التقدير النقدي والتشجيع بأنواعه.. فالمثقفون والكتاب والمبدعون اليمنيون مثل كائنات تعيش في صحراء شاسعة قاحلة .. يقل فيها الاعتراف بحق الآخر في الوجود..لاعتقاد كل واحد أن ذاته أحق بالبقاء وتوهمه أنه كي يبقى فلابد أن يموت الآخرون..وهو بهذا المعنى يقتات بهم كما تقتات كائنات الصحراء القاحلة بشركائها في المكان.. وحين يتماهى كاتب يمني مع تراثه العتيد في الاستكثار على زملائه..وغمط معاصريه.. وتسخيف واحتقار أي جهد بغض النظر عن نصيبه من الجودة..فعليك أن تتذكر كائنات الصحراء وسيتبين لك أنه لا يستكثر ولا يغمط ولا يسخف ولكنه يقوم بعملية صيد وقتل بكل معنى الكلمة.. لأن كل تلك الأحاسيس وما يتبعها من تلفظات يترتب عليها في الغالب.. مضايقة في الرزق..وحجب عن الفرص والأضواء والتناولات النقدية .. وحرمان من الترقي الوظيفي.. إلى غير ذلك من أنواع القتل والتدمير الذي ينتهي بعدد كبير من المبدعين فرائس للإحباط والعزلة وكذلك الجنون..
وهذا الكتاب ليس إلا امتداداً لجهود سابقة – (قمر في الظل) الذي صدر سنة 2010م على سبيل المثال – وهو وإن كان في صميم المحاولة للتعريف بمنجزات مجموعة من المبدعين وإلقاء الضوء على ما أبدعوه..فإنه أكثر ملامسة لشخصياتهم وذواتهم, في دوران العمر وتقلَّبات العيش ومتاعب الحياة، نشداناً للحرية ونضالاًوطنياً وإنسانياً، تلقياً للمعرفة، واشتغالاً على التنوير واجتراحاً للإبداع والفكر كتابة وفنوناً، وإشاعة للثقافة في مختلف تجلِّياتها، وأكثر من كل ذلك معاناة لوعورات الطريق، وضنك الظروف، وكثرة مطالب الحرية.. في واقع يثقلك بالواجبات ويحرمك من أبسط الحقوق.. أيضاً فيه شييء من صلة شخصيات الكتاب بمجتمعات السياسة والأدب والفن والثقافة وصلتهم بأنفسهم وبالآخرين من حولهم..كما أن فيه شيئاً من صلتي أنا شخصياً بكل واحد ممن كتبت عنهم..وهي صلات تتفاوت من الصحبة العميقة والمعايشة الطويلة إلى التلقي المثابر الممزوج بالمعرفة الشخصية الكافية للكتابة..ناهيك عن كون كل شخصية من الشخصيات المكتوب عنها انطلقت غالباً إما من محيط اجتماعي إحاطتي به كبيرة وإما من حاضن سياسي وثقافي أنتمي إليه وإما يقع دائماً في مجال بحثي وتناولاتي..
بقي أن أوضح للقارئ معنى عنوان الكتاب (ملامتية) وسبب اختياري له..
فالملامتية هم قوم من أهل التصوف أنسوا بالخمول..وسلموا من آفة الجاه..
وأنا حين اخترت ال (ملامتية) اسماً لكتابي لم يكن يهمني من هذا الاسم (المصطلح) تلك التفاصيل الواسعة التي ترد عنهم في كتب التصوف وكتب الطبقات أوكتب التعاريف والمعاجم والموسوعات.. فما يهمني هنا جزئية الأنس بالخمول والسلامة من آفة الجاه..وهي جزئية ليس المقصود في اشتغالي هذا معناها الظاهر.. إنما المقصود معكوس معناها..المقصود وجهها الآخر.. وهو في حالة من تتموضعهم هذه التناولات..عيش طويل في الهامش.. ونضال غير عادي..وإبداع وأدب وفكر وآراء نيرة وجهود كبيرة تبذل بعيداً عن الأضواء والتقدير الواجب والشهرة المستحقة وما يترتب عليها من حقوق ومكاسب مادية ومعنوية..
وإذا كان الملامتية في المصطلح الصوفي قد لجأوا إلى الهامش ونأوا بأنفسهم عن التقدير أو الشهرة والوجاهة برضا منهم واقتناع وسلامة نفس..فإن العيش في الهامش كان في الغالب مفروضا على ملامتية هذا الكتاب بفعل ما ذكرناه سابقاً من عيوب في واقعنا أبرزها قصور المؤسسة وانعدام تقاليد الرعاية والإنصاف في مشهد ثقافي ضعيف تتساند أركانه على مشهد وطني هش ومخلخل طوال الوقت..وفي حين يتبين لنا أن بعض من تناولناهم قد عاشوا في الهامش ملامتية غصباً عنهم وبقرار سياسي نتيجة موقفهم من المؤسسة الرسمية أوموقف المؤسسة منهم..فإن البعض الآخر قد عاشوا حالاً أسوأ لأنهم همَّشوا تهميشاً مركَّباً..فهم أبناء هوامش جغرافية أو هوامش سياسية في الوطن لم يخرجوا منها..وهي بطبيعة الحال أكثر فقراً وأقل إمكانات من المراكز ثم هم يشتغلون على مواضيع تتواطأ المؤسسة الرسمية بوجوهها المختلفة مع بعض المتسلطين في المشهد الثقافي على استبعادها قصداً بذرائع لا تعلن لكنها، تخبر عن نفسها في الأفعال والممارسات لذلك فإن من يتموضعهم الكتاب من هذا النوع كانت ملامتيتهم أكثر قسوة لأنها مضاعفة ولأنها تتم غصباً عنهم..مع أن شعورهم بوجعها كان أقل ثورية من شعور ملامتية المركز.. والسبب أن ملامتية المركز يحتكَّون يومياً بمصادر الاستفزاز ومثيرات النقمة في الفعاليات التي تقام أكثر ما تقام لغير مستحقيها وفي السفريات التي يتحكم مزاج المؤسسة في الاختيار لها..وفي الوظائف والمناصب والترشيح للأعمال.. وغير ذلك..مضافاً إليه أن مفاعيل التهميش الواقع عليهم هو موضوع دائم لمثاقفاتهم.. وحاضر في كل حوار يدور بينهم..في حين يبقى ملامتية الهوامش الجغرافية بعيدين عن هذه المثيرات. لذلك تكون ثورتهم قليلاً لأنفسهم وكثيراً للجغرافيات المهمَّشة التي يعيشون فيها..فوجع تهميشها عندهم أوضح وأعلى صوتاً من وجع تهميشهم..إنهم يتلاشون في مواجع أمكنتهم وذلك يجعلهم ملامتية ثلاثة أضعاف وما أكثر من ماتوا منهم ملامتية منسيين ومحرومين من كلمة إنصاف تخفف من وطأة التجاهل والنسيان.
علوان مهدي الجيلاني