المواطن: خاص
(الحلقة السادسة)
عيبان محمد السامعي
الضرورة الملحة للفيدرالية في اليمن:
رأينا فيما سبق ذكره, كيف فشلت تجربة الدولة البسيطة في اليمن, وأنها لم تنتج سوى تركّز أكبر في السلطة واحتكار أعمق للثروة.
وقد اتخذتْ عملية مركزة السلطة والثروة في اليمن شكلاً معقداً يمكن وصفها بـ”مركزية عنقودية انشطارية”. قُسمّت البلاد بموجبها إلى: مركز (عاصمة الدولة) وأطراف تابعة (بقية محافظات البلاد), حيث المركز يستأثر بالسلطة والثروة ويحرم الأطراف منهما.
وفي كل قسم من هذين القسمين الرئيسيين, وجدنا تقسيمات فرعية انشطارية: فالعاصمة تنشطر إلى مناطق نفوذ “مركز” ومناطق تخوم “أطراف”, ففي الأولى تتركز مؤسسات الدولة والأحياء الراقية ومنازل كبار قيادات الدولة والسفارات, مثل: منطقة حدة, ومنطقة السبعين, ومنطقة الحصبة, ومنطقة التحرير, فيما بقية المناطق تعيش على الهامش, وتزدحم فيها العشوائيات, وينتشر فيها الفقر والجريمة.
وعلى ذات المنوال تنشطر مناطق الأطراف (المحافظات) إلى قسمين: مراكز الأطراف وتتمثل بعواصم المحافظات, وتخوم الأطراف وتتمثل بالبلدات والأرياف. حيث تستحوذ عواصم المحافظات على القرار المحلي والمشاريع ويتكدس فيها السكان, في حين تُهمَّش البلدات والمناطق الريفية وتبقى تابعة لعاصمة المحافظة.
وقد أفضى هذا الوضع إلى ترييف المدن بفعل هجرة أبناء الريف إلى المدينة بحثاً عن فرص للحياة, وتكدّس هؤلاء في الأحياء الشعبية التي تفتقر إلى الخدمات وينتشر فيها الفقر والجريمة.
ولم تقف المركزية عند هذا المستوى, بل أضحتْ حالة بنيوية شاملة, تجلّت في صور مختلفة في السياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة مناحي الحياة.
فجماعة السلطة “مركز” والمجتمع “طرف”, والحزب الحاكم “مركز” الحياة السياسية وأحزاب المعارضة “أطراف”, والطبقة الطفيلية الكمبرادورية “مركز” الحياة الاقتصادية وبقية المنخرطين في النشاط الاقتصادي من عمال وعاملين وملاك صغار “أطراف”, ومسؤول مؤسسة حكومية “مركز” المؤسسة والعاملين فيها “أطراف”, وشيخ القبيلة “مركز” وبقية أبناء القبيلة “أطراف”, وزعيم الحزب “مركز” وبقية أعضاء الحزب “أطراف”, والرجل “مركز” والمرأة “طرف”, والأب “مركز” العائلة وبقية أفراد العائلة “أطراف”… وهكذا.
يُضاف إلى كل ما سبق, التحديات الجسيمة التي أفرزها انقلاب 21 سبتمبر 2014م ونشوب حرب أهلية وتدخل اقليمي في مارس 2015م.
لقد أحدث هذا المسار تصدُّعاً كبيراً في جسم الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي, وتعزز الخطاب المناطقي وتكرست الدعاوى الطائفية بصورة غير مسبوقة. فقد بات الخطاب التقسيمي: شمال وجنوب, زيدية وشافعية, يمن أعلى ويمن أسفل, روافض ونواصب, قحطانية وهاشمية, هو الخطاب السائد.
أمام هذا الوضع المتفاقم الذي يهدد سلامة الكيان الوطني, ليس بإمكان العقل السياسي اليمني إلا أن يبحث عن حل حقيقي جاد, ولن يكون هذا الأمر مواتياً إلا بتغيير شكل الدولة البسيطة إلى الدولة الفيدرالية.
إنّ الخيار الفيدرالي علاج وقائي ضروري لتفادي تشظي اليمن إلى دويلات. وهو الحل الواقعي الموضوعي المطروح في مقابل المشاريع التطرفية الأخرى التي تتمثل بـ: التمسك بالدولة البسيطة, والمشروع الطائفي, ومشروع فك الارتباط.
خيار الدولة الفيدرالية يمثل المدخل الموضوعي لحل القضية الجنوبية ومعالجة النتائج الكارثية لحرب 1994م. ويمثل آلية ناجعة لمواجهة المشروع الطائفي الذي يدّعي بالحق الإلهي في الحكم وحصره في ولاية البطنين, كما يمثل مصداً وطنياً أمام تنامي الدعوات الجهوية وسط البلاد.
نقاش مع الممانعين للدولة الفيدرالية:
من المفارقات العجيبة في هذا البلد أن تجد فريقين يقفان على طرفي نقيض لكن يجمعهما موقف واحد!
ينطبق هذا الوصف على كلٍ من:
أنصار الدولة البسيطة, وهم لفيف من أطراف سياسية وطائفية ومثقفون وكُتّاب.
دعاة فك الارتباط: بعض فصائل الحراك الجنوبي.
يفترق الفريقان في النظرة إلى الوحدة القائمة, لكنهما يتفقان في الموقف الرافض للفيدرالية!
فالفريق الأول: ينظر إلى الوحدة القائمة كقيمة مقدسة “لاهوت”, وينكر أنها تعاني من أزمة أو وصلت إلى فشل!
وعلى هذا الأساس يتمسك بخيار الدولة البسيطة, ويرفض الفيدرالية.
أما الفريق الثاني فيرفض من حيث المبدأ أي صيغة لإعادة بناء الوحدة في إطار اليمن, بل ويتنكر ليمنيته, ويتبنى خيار فك الارتباط ومشروع الجنوب العربي!
يبني الفريقان مواقفهما الحادة انطلاقاً من أرض الماضي, وليس بناءً على فهم جدلي للواقع وملابساته؛ لهذا يرفضون فكرة الفيدرالية حتى لمجرد طرحها للنقاش!
لقد عمدوا إلى تشويه النظام الفيدرالي وتعبئة الناس ضده, وأجزم أنه خلال الخمس سنوات الماضية لم تتعرّض فكرة للتضليل والتشويه مثلما تعرّضت فكرة الفيدرالية!
فقد لجأ قادة الفريق الأول إلى أَبْلَسة الفيدرالية وشيطنتها, وتصويرها للناس وكأنّها مروق عن الدين, أو مؤامرة كونية تهدف إلى تقسيم البلاد. واشتغلت ماكنة التحريض في وسائل الإعلام وفي منابر المساجد وفي الأماكن العامة ضد كلّ من يتبنّى خيار الفيدرالية.
لقد أصيب هؤلاء بفزعٍ كبير لأنهم يرون في الفيدرالية خطراً يهدد مصالحهم غير المشروعة.
أما من يتزعمّون الفريق الثاني فقد لجأوا إلى استثارة عواطف الناس ـــ لا سيما في الجنوب ـــ ضد الفيدرالية, واعتبروها محاولة للالتفاف على مطالب الجماهير في فك الارتباط والاستقلال!
والفيدرالية في لُحمتها وسداها ليست تقسيماً للبلاد, ولا هي مضادة للدين, ولا هي أيضاً حيلة لاحتواء المطالب المشروعة للجماهير.
الفيدرالية نظام إداري ـــ سياسي وصيغة من صيغ الوحدة, تكمن مزّيتها في أنّها تحدّ من احتكار السلطة والثروة في يد أقلية أو جهة, وتعيد توزيعهما بشكل عادل بين كافة المواطنين. والفيدرالية نظام معمول به في كثير من دول العالم بما فيها دول إسلامية حققت قفزة نوعية في النهوض الاقتصادي والاقتدار الوطني (ماليزيا مثالاً).
الفيدرالية منظومة تشريعية ومؤسسية تعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع, وتضع كافة المكونات الاجتماعية ومن مختلف المناطق على قدم المساواة والتكافؤ الندي, فلا يوجد في الدولة الفيدرالية “مركز” و”أطراف تابعة”, كما هو الحال في الدولة البسيطة.
الخيار الفيدرالي هو الخيار الأقل كُلفة والأكثر واقعية من بين الخيارات الأخرى المطروحة. فخيار التمسك بالدولة البسيطة لم يعد خياراً مقنعاً لقطاعات شعبية واسعة نظراً لما جَنَته تجربة الدولة البسيطة من وبال على اليمن, والحرب الأخيرة قد وسّعت دائرة الناقمين على الدولة البسيطة.
أما خيار فك الارتباط فهو قفزة في المجهول, وغير مأمونة عواقبُهُ على صعيد وحدة الجنوب؛ إذ أنه لا يلقى إجماعاً شاملاً من الجنوبيين أنفسهم, فهناك طيف واسع من أبناء المحافظات الشرقية يتوجسون منه خيفةً.
يتبع…