فهمي محمد
بعيداً عن قراءة السطحِيين، التي لا تفرِّق بين ثورة 11 فبراير ونتائجها الوطنية وبين فعل الانقلاب عليها ونتائجه السياسية والعسكرية، التي أصبحت تشكّل في الحاضر مناخا للتسوية السياسية المرتقبة، وحتى لا نقع في مسألة الخلط أو القراءة السطحية، علينا أن ندرك في المقام الأول أن ثورة 11 فبراير هي الثورة الشعبية التي انتصرت فعلياً ووطنيا لسلطة العقل السياسي الحزبي، بل انتصرت لحضور مكوِّناته السياسية، بحيث أصبحت مكوّنات العقل السياسي الحزبي بمختلف توجّهاتها الفكرية هي المعنية مع ثورة فبراير في تقرير شكل المستقبل في اليمن.
كما علينا أن ندرك في المقام الثاني أن ثورة فبراير لم تنجح فقط في تعطيل مسار التوريث السياسي، الذي بدأ يتأسس في ظل النظام الجمهوري، وكذلك في سلب فائض القوة العسكرية المكدّسة لدى السلطة الحاكمة والتي كانت تحيط بأجواء حوارات السلطة السياسية مع أحزاب المعارضة، بل أكثر من ذلك نجحت الثورة فيما هو أهم على الصعيد الوطني،
اقصد خلق الفرصة التاريخية السانحة لليمنيين، فيما يتعلق بالوقوف بمسؤولية وطنية على جذور وأبعاد المشكلة اليمنية في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، ومن ثم تقديم الحلول المناسبة للمشكلة بعيدا عن رغبة الحاكم وسطوته، وهذا ما لم يحدث في تاريخ اليمن منذ ثورة سبتمر وأكتوبر.
وإذا ما أدركنا في المقام الثالث أن حاصل الأول والثاني لا يعني سوى أن ثورة فبراير قد انتصرت للفكرة الوطنية الجامعة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية.
فالمستقبل، الذي أرادت الثورة الثالثة تحقيقه في اليمن، هو المستقبل الذي تم الانقلاب على صيرورته قبل عشر سنوات حتى لا يكن هو حاضر الأجيال المتعاقبة في اليمن، بمعنى آخر مستقبل الثورة كان محكوما بمعطيات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وحتى عسكرية ناتجة عن تطبيق مخرجات الحوار الوطني الشامل، وتطبيق دستور الدولة الاتحادية في اليمن، وهذا يعني أن منطق الحقائق يقول إن معطيات الحاضر هي نتاج الانقلاب والحرب.
وإذ كان من الضروري في صلب هذه القراءة “السياسية – التحليلية” أن نعرِّج على أهم ملامح المستقبل الذي تم الانقلاب على وجوده حتى لا يكون مستقبل فبراير هو حاضر الأجيال المتعاقبة في اليمن، فإن الأهم من ذلك أن مسألة تحقيقه مع حدث الثورة لم تكن مجرد حلم مستحيل المنال، أو يوتوبيا معلقة في الهواء، بل كان نتيجة طبيعية وحتمية مترتّبة على نجاح الثورة يومها في إنتاج شروط التحولات /السياسية / الوطنية، التي نتناول بعضها فيما يلي -على سبيل المثال وليس الحصر:
1- ملامح المستقبل ومعطياته السياسية والاجتماعية وحتى الوطنية كانت تتشكّل مع ثورة فبراير على أساس أن اليمنيين قد وقفوا على ماضي وحاضر الصراع السياسي، ونتائجه الكارثية في اليمن، ومن ثم توافقوا على وضع الحلول المُلزمة، وفي مقدِّمة تلك الحلول الحل العادل للقضية الجنوبية الناتجة عن حرب صيف 1994، وكذلك الآثار الناتجة عن الحروب السته في صعدة.
2- ملامح المستقبل ومعطياته السياسية والاجتماعية والثقافية كانت تتشكّل مع ثورة فبراير على أساس قانون العدالة الانتقالية، الذي يعني في تطبيقه إدانة الفعل السياسي المجرم، ورد الاعتبار للضحايا، وجبر الضرر الناتج عن الجرائم السياسية.
3- ملامح المستقبل ومعطياته السياسية والاجتماعية الوطنية كانت تتشكّل مع ثورة فبراير على أساس أن تتحوّل السلطة السياسية الحاكمة تاريخياً في اليمن إلى دولة مؤسسات وطنية، وهو ما كان يعني أن الدولة اليمنية مع ثورة فبراير أصبحت ذات بُعدين اثنين يتعلقان بصيرورة المستقبل الذي يجب أن يكون :
البُعد الأول يتعلّق بمضمون الدولة، أو بفكرة الدّولة في اليمن، بمعنى آخر العمل على تحويل السلطة السياسية أو سلطة العقل السياسي التاريخي الحاكم في اليمن إلى دولة وطنية ديمقراطية تتجلى فيها سلطة العقل السياسي الحزبي، الذي نشأ فى الأساس على قِيم ومبادئ وثقافة الهوية الوطنية الجامعة، وليس على ثقافة المذهبية، أو القبيلة، أو المناطقية، التي كانت وماتزال تشكِّل هويات جزئية مؤسسة لسلطة العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.
غير أن هذا التجلِّي لسلطة العقل السياسي الحزبي مُحكوم في ظل مكتسبات فبراير بقواعد التعددية السياسية والديمقراطية الانتخابية، التي تؤدي إلى التداول السلمي للسلطة، هذا من جهة أولى؛ ومن جهة ثانية إذا كانت السلطة المتداولة سلمياً تعبّر في حقيقة الأمر عن وجود دولة وطنية ضامنة، فإن من بديهات وجود هذه الأخيرة وجود جيش وطني تتأسس عقيدته القتالية على الولاء للفكرة الوطنية، أو الولاء للوطن، وليس للحاكم بشخصه كما هو حال الجيش في ظل السلطة السياسية الحاكمة تاريخياً في اليمن، لهذا كان من الضروري مع مشروع فبراير إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية على أُسس وطنية.
البُعد الثاني يتعلّق بشكل النظام السياسي للدولة الوطنية في اليمن، وهذا يعني انتقال اليمنيين مع ثورة فبراير من حالة الدولة البسيطة، التي كانت تُبتلع دائما من قِبل السلطة الحاكمة، إلى حالة الدولة المركّبة التي تتوزّع فيها السلطة السياسية والتشريعية الحاكمة بين المركز والأقاليم مع الحفاظ على مركزية السلطة السيادية على مستوى التمثيل الوطني والخارجي.
فالثورة الثالثة في اليمن هي الثورة الأولى، التي طرحت على طاولة المستقبل ما كان التفكير فيه يعد خطا أحمر في نظر السلطة السياسية الحاكمة تاريخيا في اليمن، ناهيك عن مسألة طرحه على الطاولة كخيار وطني وحق سياسي للشعب اليمني؟!
ومع ذلك نجد أن ثورة فبراير ذهبت في حلولها السياسية نحو تحقيق هذه التطلّعات السياسية، التي كانت ممنوعة في الماضي أقصد الذهاب نحو خيار اللامركزية السياسية، التي تحدد شكل الدولة الوطنية الديمقراطية، والنظام السياسي الحاكم في اليمن.
وإذا كان المنطق السياسي يقول -من جهة أولى- إن الإنسان والنظام الثقافي العام في اليمن لم يتشكَّلا على أساس التنوّع والتناقض الحاد الذي يعكس وجود مكوِّنات قومية ودِينية وإثنية، وحتى عرقية متصارعة، لا سيما وأن مثل هذا التنوّع والتناقض على المستوى الاجتماعي والثقافي غالباً ما يستدعي قيام دولة اتحادية، بحيث تتولّى هذه الأخيرة وظيفة الحفاظ على مسألة الخصوصية الثقافية والاجتماعية، وعلى الأبعاد السياسية لها داخل الشعب الواحد.
فإن المنطق السياسي -من جهة ثانية- يقول إن الدّولة الاتحادية في اليمن، وإن كانت لم تكتسب أهميّتها من وجود قوميات وعِرقيات وإثنيات متصارعة داخل الشعب اليمني، إلا أن طبيعة السلطة السياسية الحاكمة تاريخياً في اليمن وجهازها المفاهيمي، الذي يشكِّل هُويتها السياسية وفلسفتها الحاكمة، وكذلك الصراع السياسي ونتائجه، خصوصاً بعد تحقيق الوحدة اليمنية، كل ذلك وما أدى من إفرازات غير وطنية على المستوى السياسي والاجتماعي جعل الدولة الوطنية الديمقراطية الاتحادية ضرورة وطنية في اليمن.
فعلى سبيل المثال، إذا كانت الدولة الاتحادية في اليمن هي القادرة على تقديم حلول مستقبلية للقضية الجنوبية، تودي إلى حضور الجنوب بمشروعه الوطني داخل معادلة الوحدة اليمنية، فإن الدولة الاتحادية هي القادرة على تجاوز سلطة المركز السياسي المقدّس في الشمال، وعلى وجه التحديد ما يتعلق بالأبعاد التاريخية والجيوساسية للسلطة الحاكمة، التي كانت وما تزال تحتشد في وجه أي فعل ثوري يتحرّك بهدف الانتصار لمستقبل الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن، كما هي الحال مع مستقبل ثورة فبراير الذي تعرَّض للانقلاب في ظل نجاح السلطة الحاكمة في توظيف أبعادها التاريخية والجيوساسية .
وإذا كان انقلاب الـ21 من سبتمبر 2014 هو الاحتشاد اللاوطني، الذي شهد أسوأ الأبعاد التاريخية والجيوساسية للسلطة الحاكمة في الشمال، فإن ذلك يستدعي الحديث عن توجّه ومظهر للانقلاب، بحيث شكَّل الأول نقطة التقاء، وشكّل الثاني دافعا للمواجهات العسكرية بين الحركة الحوثية والمملكة العربية السعودية. ناهيك عن ان الأول والثاني، حتى بعد عشر سنوات من الانقلاب والحرب، ما يزالان هما محددات التسوية السياسية المرتقبة بين الحركة الحوثية والسعودية، بعيدا عن سلطة الشرعية، وبموجب المُعطيات السياسية والعسكرية التي تم صناعتها بمعزل عن فكرة التغيير الثورية التي يجب أن تتولى وتحدد شكل المستقبل في اليمن.