فهمي محمد
٣-الإرث السياسي الراشدي وإشكالية سؤال السلطة المنافي لفكرة الشورى الإسلامية
بعد موت الرسول الكريم في السنة الحادية عشر للهجرة طُرح بشكل مفاجئ وغير متوقع على مجتمع المسلمين ={ الأنصار والمهاجرين } سؤال السياسة والسلطة السياسية={ مسألة الدولة أو الخلافة الإسلامية } لأن موت الرسول الكريم كان لدى الكثير من الصحابة غير متوقع حدوثه أو أنه غير وارد بهذه السرعة على إعتبار أن ما كان يدور في فكر هؤلاء أن الرسول سوف يظل في وسط المسلمين حتى يسود سلطان الإسلام كامل الأرض ، وهذا الاعتقاد السائد عبر عنه عمر إبن الخطاب رضي الله عنه « وهو المعروف براجحة العقل » حين اقدم على تهديد من سوف يردد مقولة إن رسول الله قد مات ، ولم يتوقف عن وعيده هذا إلا بعد أن تدخل أبوبكر الصديق رضي الله عنه بحزم ، وذكر عمر بقول الله تعالى ={وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ } حينها استوعب عمر هول الصدمة وعقب بما يعنيه قوله وكأنه لأول مرة يقف على مفهوم هذه الآية أو يقرأها .
إذن تأكد مات الرسول صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي ما يعني أن الإسلام عقيدة توحيد وشريعة للناس قد اكتمل كما تؤكد الآية الكريمة ={الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ } إلا أن المسلمين في المدينة المنورة لاسيما فيما يتعلق بالتوجه السياسي نحو المستقبل ، لم يجدوا شكل سياسي إسلامي يتكئون عليه في إدارة مرحلة ما بعد موت الرسول ، ويعفيهم في نفس الوقت من طرح سؤال السلطة والسياسة كاشكالية جدلية، ناهيك عن عدم وجود حتى آلية / نبوية / عملية / تؤسس لذلك ، فقط يوجد في القرآن الكريم آية تقول وأمرهم شورى بينهم ، وأخرى تقول وشاورهم في الأمر ، وما يفهم من الآيتين أنها خالية تماماً من أي تفصيل تشريعي في المسألة السياسية كما نجد ذلك التفصيل التشرعي في آية المواريث وغيرها ، ومع ذلك فإن مفهوم الآيتين يؤكد ثلاثة مبادئ سياسية تقول أن السلطة والسياسة حاجة بشرية -ممارسة ومصدر- وأن ممارسة ذلك متاح لعامة المسلمين وليس للخاصة ، وأن غاية الشورى الإسلامية هي إسقاط كل أشكال الإستبداد السياسي.
في كل الأحوال نستطيع القول أن الجماعة الإسلامية في المدينة المنورة اكتشفت بعد موت الرسول الكريم أنها تعيش في فراغ من التشريع السياسي وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق ببناء الشكل السياسي النموذجي لمسألة السلطة والدولة وحتى الآليات السياسية العملية، التي تتكفل بتأسيس ذلك بالمعنى الذي يجعل سلطتهم السياسية أو دولتهم الحاكمة في المدينة ( اقصد المهاجرين والأنصار ) تُعد نموذجاً سياسياً خاصاً بالدين الاسلامي أو حتى بالإرث السياسي النبوي كمصدر أساسي ، بدليل أن سؤال الحاجة للسلطة والدولة ، دفع الأنصار « بكونهم أوس وخزرج » قبل أن يدفن جثمان الرسول الكريم إلى عقد إجتماع سياسي عاجل في سقيفة بني ساعده ، بدون علم المهاجرين أو دعوتهم لحضور الإجتماع ، وشرعوا في مبايعة سعد بن عباد على قاعدة أن الأوس والخزرج هم من ناصر الرسول وهم من قدم الأرض والمال في سبيل نصرة الدين الاسلامي ، أي أنهم السكان الأصليين للمدينة والآخرين مجرد ضيوف عليهم أن لا يتجاوزوا حدود الضيافة بعد موت الرسول، وهذا ما عبر عنه أحد الأنصار بالقول إذا لم يقبل المهاجرين مبايعة سعد بن عباد سوف يتم إخراجهم من المدينة ، وعندما علم المهاجرين بذلك، هرعوا مسرعين بقيادة أبو بكر وعمر إلى السقيفة بكونهم قريش أكثر من كونهم مهاجرين في سبيل الإسلام ، بدليل قول عمر بن الخطاب إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ( للعلم قريش ليست كل المهاجرين) مع أن قريش لم تكن صاحبة سلطة سياسية على قبائل العرب قبل مجيء الإسلام ولم تعرف مفهوم الدوله، وإنما كانت تحظى بقدر من الاجلال « القداسي » داخل المخيال الديني لدى قبائل العرب على إعتبار أن قريش هم أهل مكة أو الحزم ، وتلك قداسة تنبأ بها قصي حين نقل قريش التي كانت تسكن شعاب مكة إلى بطحا مكة، بعد أن حكم له الكاهن بصحة شراءه مفاتيح الكعبة من اليمني الخزعي ابي غبشان الذي بائع مفاتيح الكعبة والولاية عليها بزقة خمر وقعود، على ذلك رفضت خزاعة هذا البيع واشتعلت الحرب، واستعان قصي بأخيه من أمه رازح من اهل الشام، وبعد الحرب تم التحكيم وحكم الشداخ بشدخ دما اليمنيين الخزعيين وصحة البيع، فقلت العرب « لأخسر من صفقة ابي غبشان » على إثر ذلك قال قصى لفروع قريش اذا أردتم أن تسودوا العرب اسكونوا بطاح مكة الحرم وبني دار الندوة.
بيت القصيد في إشكالية الإرث السياسي الراشدي أنها تكمن في أن السؤال الأول للسياسة والسلطة الحاكمة في المدينة المنورة ={ الخلافة الإسلامية } تأسس في سقيفة بني ساعدة على فكرة تجسد معني الاستئثار بمقاليد السلطة السياسية وبدافعه ={ الاستبداد السياسي } ولم يتأسس على فكرة تجسد معنى الشورى التي نسوقها على أنها النظام السياسي في الاسلام ، فالأنصار قدموا أنفسهم أصحاب حق في السلطة من دون المهاجرين باعتبارهم مكون قبلي يعود إلى ما قبل الإسلام={ السكان الأصليين للمدينة أوس وخزرج } والمهاجرين قدموا أنفسهم أصحاب حق في السلطة من دون الأنصار باعتبارهم مكون قبلي يعود إلى ما قبل مجيء الإسلام ={ قريش } وقد انتهى الجدل السياسي في سقيفة بني ساعدة على التسليم التاريخي باستحقاق هذا الحي من قريش مقاليد السلطة والحكم ={ الخلافة الراشدة والخلافة الإسلامية } مع أن الذاكرة التاريخية لقريش خالية من أي إرث سياسي وفلسفي يتعلق بالتعاطي مع مفهوم السلطة والدولة كما هو حال القبائل في اليمن أو العراق على سبيل المثال وليس الحصر.
مع الانتصار لمقولة أن السلطة « لهذا الحي من قريش» تحول الأنصار في أحسن الأحوال إلى ناخبين في عملية استفتاء سياسي الهدف منه إختيار خليفة من قريش فقط ، تحت مقولة عمر «أن العرب سوف تقبل أن يؤمها رجلاً رسول الله منهم ولكنها لن تقبل أن يؤمها رجل ورسول الله ليس منهم » ومع هذا التنظير السياسي الاستحواذي بدأت السياسة كفكرة ثقافية وفعل سياسي في عهد الراشدين وكأنها معنية في مسألة تبرير استبداد «قبيلة» قريش سياسياً بمقاليد سلطة الخلافة الراشدة، حتى مجلس أهل الحل والعقد الذي تأسس على يد عمر بن الخطاب نجد أعضائه السته من قريش ، وهو ما انعكس بعد ذلك في توظيف الدين وخلق أحاديث تنص على أن الخلافة في قريش ، ما يعني في النتيجة النهائية أن الخلافة الراشدة على المستوى السياسي لم تكن تعني في الواقع سلطة قريش على كافة المسلمين فحسب ( وهو ما دفع المسلمين في بعض الأمصار العربية إلى ممارسة شيء من الاحتجاج السياسي يتعلق بمفهوم الولاء للسلطة السياسية تمثل في منع توريد أموال الزكاة إلى المدينة ) بل أن السياسة العملية في عهد الراشدين وحتى الأحاديث النبوية قدمت بعد ذلك في دلالاتها السياسية ضد مفهوم آيات الشورى التي توكد في كل الأحوال أن مسألة الدول والسلطة ={ أمرهم } تخضعان لحاجة الناس وهم مصدرها السياسي ناهيك أن تولي مقاليدهما حق من الحقوق المتاحة أمام العامة من المسلمين وليس الخاصة ، وأن العبره في تطبيق معنى الشورى أو مبدأ الشورى هو تحقيق الحرية السياسية وإلغاء سلطة الإستبداد السياسي أين كان شكلها ومضمونها.
عطفاً على ذلك نستطيع القول أن الخلافة الراشدة عملت على إقامة العدل بين الناس وهم بلا شك أهل العدل والتقوى والسابقة في الإسلام، لكن السؤال على المستوى السياسي يقول هل سلطة الخلفاء الراشدين تأسست على مفهوم الشورى بين المسلمين؟ لاسيما وأن سلطة هؤلاء الأربعة تأسست سياسياً في عهد أبوبكر على قاعدة لهذا الحي من قريش فقط، وفي عهد عمر بن الخطاب على طلب الخليفة أبوبكر من الناس المبايعة له على كتاب لا يعلم محتواه وتبين بعد ذلك أنه ينص على خلافة عمر من بعده، وفي عهد عثمان تأسست على إرادة سته من قريش فقط تقلصت بعد ذلك على إرادة عبدالرحمن ابن عوف وفي عهد على انقسم الصحابة بين مؤيد ومعارض بالراي والسيف ؟ فهل ماجرى سياسياً يخضع لفلسفة الشورى الإسلامية؟ ام لفلسفة المستبد العادل ؟
اتحدث عن الفكره السياسية التي قامت عليها سلطة الخلافة وليس عن شخصية الخلفاء الراشدين.