فهمي محمد/ ورقة قدمها في ندوة بمناسبة ذكرى ثوره ١١فبراير
أولا ثورة سبتمبر ومعضلة السياسة
منذ ستة عقود كانت ثورة سبتمبر في اليمن معنية في المقام الأول بخلق السياسة كفكرة وفعل سياسي أدرك الثوار أهمية ذلك أم لم يدركوا، وأنا أتحدث هنا عن حضورها في وعي الحاكم والمحكوم، وبشكل يجعلها ثقافة تغيير ناتجة عن نظام معرفي عام (عقل جمعي) إلا أن تحقيق مثل ذلك يتطلب إشباع العقل السائد في المجتمع بقيم الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية وثقافة القبول بالآخر، كل ذلك يجب أن يتحول داخل الوجدان الشعبي إلى قيم ثقافة عامة لكي تكون السياسة كفكرة وفعل مدني حاضرة ومتداولة في المجتمع.
ما يعني أن أهمية خلق السياسة بعد ثورة سبتمبر كانت ناتجة من جهة أولى عن حقيقة عدم وجودها في يمن ما قبل الثورة كفكرة مجتمعية وفعل مدني متداول في الوسط الشعبي، فالنظام الإمامي الذي حكم في شمال اليمن أكثر من تسعمائة سنة قام على أساس خنق السياسة كفكرة مجتمعية وفعل مدني،
فالنص الديني وحده هو الذي يمنح الإمام مقاليد السلطة بمعزل عن المجتمع (تأليه السياسة) ومن جهة ثانية فإن أهداف الثورة الستة التي توخت مسألة الدولة والجمهورية والديمقراطية والجيش الوطني وإزالة الفوارق بين الطبقات كل ذلك يتطلب حضور السياسة ليس كفكرة ثقافية فقط، بل كفعل سياسي مدني يخوض معركة التغيير والبناء في الواقع، فالدولة والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وبشكل عام تحويل البلدان إلى أوطان للعيش المشترك، كل ذلك لا يمكن تحقيقه في مجتمع غير مسيس بالفكرة السياسية ولا يمكن خلق ذلك إلا بحضور السياسة كفعل مدني ممارس من قِبل التعبيرات السياسية التي أنتجتها الظروف والأحداث (الأحزاب السياسية) وقد كان المفكر محمد جابر الانصاري محقا حين قول في كتابه العرب والسياسة أين الخلل -كل شيء مسيس في وقعنا العربي إلا السياسة- ما يعني أن السياسة تظل هي الغائب الأكبر في ماضينا وحاضرنا لهذا كانت ثورة سبتمبر 1962 في اليمن معنية في المقام الأول بخلق السياسة عن طريق تشريعات دستورية وقانونية تبني المجال السياسي العام الذي يسمح للمجتمع بأن يمارس عملية التدافع السياسي والتعددية السياسية بما هي تعددية حزبية مدنية وطنية يجب أن تتحايث في وجودها مع عملية بناء دولة الجمهورية العربية اليمنية، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشأت الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها عن التاج البريطاني عن طريق المحايثة أو المزاوجة السياسية بين عملية التدافع السياسي المجتمعي والتعددية السياسية من جهة، وبين عملية بناء مؤسسات دولة الاستقلال التي حولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى وطن للامريكيين من جهة ثانية، بعد أن كانت هذه الولايات المتجاورة عبارة عن مستعمرات تابعة للبريطانيين والهولنديين وغيرهم من المستعمرين الأوروبيين.
لكن ما حدث في اليمن أن سلطة الجمهورية اليمنية أصدرت تشريعات دستورية وقانونية تلغي قيام التعددية السياسية وتجرم حق أعضاء المجتمع في تشكيل أحزاب سياسية مدنية تعبر عن تطلعاتها (تحريم السياسة) وفي المقابل أصدرت قانونا يستدعي حضور القبيلة ويمنحها صلاحيات تتعلق بصلاحيات الدولة، بعد أن ساهمت الأحزاب السياسية، لا سيما حزب البعث وحركة القوميين العرب بشكل مباشر في تفجير الثورة، حتى تنظيم الضباط الأحرار الذي فجر ثورة الـ26 من سبتمبر، لم يُسمح له بعد ذلك أن يتحول إلى تنظيم سياسي حزبي يقود زمام الثورة ويخوض معركة التغيير بأدوات السلطة وعن طريق السياسة كفعل مدني، وهنا تحولت سلطة الثورة في الشمال من أدوات تغيير أو وسيلة بناء في خدمة مشروع التحول الثوري على المستوى السياسي والاجتماعي، إلى حالة سلطوية “بذاتها” تعبر عن مصالح الحائزين على مقاليدها من دون الناس (القوى التقليدية والقبلية) وهو ما مكنها بعد ذلك “أي السلطة الحاكمة” من أن تبتلع مشروع الثورة وتلغي حضور السياسة كفعل مدني، فكانت المآلات المستقبلية هي إلغاء حضور المجتمع وإعاقة بناء دولة الجمهورية، ما يعني في النتيجة النهائية أنه في حال ما أن اجتمع العسران «في الزمان والمكان» غياب المجتمع بمكوناته السياسية التي تمارس عملية التدافع السياسي وعدم وجود دولة حاكمة فوق السلطة، يستحيل مع هكذا حال أن تتحول الجغرافية في أي بلد إلى وطن لكل المواطنين وذلك ما كان وما يزال حتى الآن في اليمن.
ثانيا :- ثورة أكتوبر والسياسة كفكرة ثقافية وفعل سياسي
نستطيع القول أنه وبمقياس الثقافة السياسية لليمنيين خلال العقد السادس من القرن الماضي استطاعت ثورة الـ14 من أكتوبر أن تعمل على إحضار السياسة كفكرة بشرية وفعل سياسي يخوض معركة التغيير الثورية في الشطر الجنوبي من اليمن، فقد تأسست سلطة الثورة والدولة على عصبية التنظيم السياسي الحاكم ={ حزب سياسي حاكم } ما يعني أن السلطة لم تحرم فكرة التحزب السياسي، ولم تتحول إلى غاية سلطوية بذاتها تعبر عن مصالح الحائزين على مقاليدها باشخاصهم من دون الناس، ولم تتأسس السلطة على عصبية القبيلة السياسية الممانعة لفكرة الدولة، كما حدث لسلطة الثورة في شمال اليمن، بل ظلت “اي سلطة الثورة في جنوب اليمن” وسيلة سياسية ثورية بيد التظيم السياسي الحاكم ={ الجبهة القومية ثم الحزب الإشتراكي اليمني} بغية تنفيذ مشروعه السياسي على الواقع، بغض النظر عن صوابية هذا المشروع لدى البعض أو عدم صوابيته لدى البعض الآخر، فما يهمنا في هذه الورقة هو الحديث عن نجاح ثورة أكتوبر في مسألة إحضار السياسة كفكرة ثقافية وفعل سياسي وتحويل السلطة من حالة سلطوية، إلى وسيلة سياسية يستخدمها الحزب السياسي الحاكم هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية فإن الحزب الحاكم الذي كان يدرك أنه معني بممارسة الفعل السياسي تجاه المواطنين لذلك ظل من موقعه في السلطة يعبر عن تطلعات اجتماعية، ولم تستطع السلطة أو الحاكم بشخصه على ابتلاع دوره كمؤسسة حزبية وقيادة جماعية، كما حدث في العراق أو سوريا على سبيل المثال، بل على العكس من ذلك كان الحزب هو من يُعين قيادة الحزب والدولة وهو من يعزلهم، وقد فعل ذلك في حق عبد الفتاح إسماعيل رئيس الدولة ومؤسس الحزب، وسالمين، وهذا لم يحدث في أي تجربة سياسية في الوطن العربي، ما يعنى أن السياسة كفكرة وفعل سياسي كانت حاضرة ومعنية في رسم المستقبل .
ومع أن مسألة إحضار السياسة كفكرة وفعل سياسي من قِبل ثورة الـ14 من أكتوبر كان ينقصها أن تتحول إلى فعل سياسي مدني تعددي منذ البداية، إلا أن الأول قد أدى إلى وجود الثاني في مسار التجربة الثورية خلال عقدين فقط، فبعد تكرار دورات العنف المسلح كان حضور السياسة والوعي بها لدى النخب الحاكمة كفيل بأن يقف الجميع على السؤال الذي يتعلق بجذر المشكلة ={ وهي أن الفعل السياسي في الجنوب ينقصه التعددية السياسية المدنية } لهذا تم الإنتقال مباشرة إلى العمل بفكرة التعددية السياسية لكون الأصل كان موجود وحاضر اقصد حضور السياسة، لهذا تحققت الوحدة اليمنية على شرط غير قابل للنقاش وهو أن تكون الديمقراطية التعددية، رديف سياسي لدولة الوحدة اليمنية وكان ذلك شرط الحزب الإشتراكي الحاكم في جنوب اليمن، ما يعني أن صيرورة السياسة في ثورة أكتوبر هي التي خلقت الفرصة التاريخية الاولى امام اليمنيين ليتحولوا من رعية محكمومين وطائعين إلى مواطنين يمارسون السياسة ويكونوا هم مصدر السلطة والقرار، كما نصت على ذلك اتفاقية الوحدة ودستورها، ( لا يعني هذا مصادرة حق الطرف الآخر في تحقيق منجز الوحدة اليمنية بقدر ما يعني الحديث عن الطرف الذي اشترط وجود التعددية السياسية) لهذا كان لابد أن يحدث إنقلاب وحرب 1994 م لكي يتم الفصل بين السياسة كفكرة وفعل سياسي مدني تعددي وبين الشعب وتحويل هذا الأخير إلى رعية مطعين لا دخل لهم بالسياسة او الطموح بالسلطة، لهذا كانت مسألة ثوريث سلطة الجمهورية في عائلة الرئيس صالح هي أبرز ملامح مرحلة ما بعد حرب 1994م .
ثالثاً :- ثورة فبراير والسياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني جماهيري
نستطيع القول أن ثورة الشباب 2011 برغم الإخفاقات التي رافقت مسار فعلها الثوري إلا أنها استطاعت – بعد أن أصبح ذلك مستحيلاً – أن تزيح أسرة صالح من الحكم بل وتجبر حزبه = { المؤتمر الشعبي العام} ونظامه السياسي الحاكم على النزول من فوق شجرة السلطة والجلوس مع أحزاب المعارضة على طاولة الحوار الوطني الذي انعقد من ١٨ مارس ٢٠١٣ إلى ٢٥ يناير ٢٠١٤م / ومع أن مؤتمر الحوار الوطني قد خضع للعديد من الكوابح السياسية المقصودة في وجه عملية التغيير وحتى التنفيذ إلا أنه في كل الأحوال أتاح الفرصة المناسبة لحضور السياسة كفكرة وفعل مدني معني في تأسيس مستقبل اليمنيين بعد ثورتهم الثالثة، على قاعدة المواطنة المتساوية ، والنظام الاتحادي ={ اللامركزية السياسية التي تجعل جنوب اليمن شريكاً وحاضراً بمشروعه الوطني ضمن معادلة الوحدة اليمنية } وقد كانت الأحزاب السياسية بما هي مؤسسات حزبية وطنية بامتدادها التنظيمي ورؤها السياسية ، هي أدوات فعل التغيير السياسي والمدني داخل مؤتمر الحوار الوطني الشامل ، وهو ما جعل جمهورية اليمن الموحدة للمرة الثانية ( بعد أن منحت الفرصة الأولى في عام الوحدة 1990 ) على وشك أن تعبر المضيق – على حد وصف الدكتور ياسين سعيد نعمان – إلى المستقبل الذي يجب أن يكون في اليمن = { مستقبل الدولة والوطن الكبير } بعد أن كانت اليمن تتقلص وطنياً وتتحول تدريجياً من جمهورية مفرغة المحتوى سياسياً واجتماعيا وثقافياً ، إلى جمهورية وراثية عسكرية في عائلة الرئيس صالح بعد أن حاز هذا الأخير على عناصر القوة والثروة وهما في الواقع وسائل التأثير والضغظ والاغراء في أي مجتمع تقليدي تغيب فيه السياسة وفعلها المدني على المستوى الأفقي وحتى الرأسي، ناهيك عن كون هذا المجتمع تقليدي قبلي مثل اليمن،
كان مثل هذا التحول اللاوطني ={ توريث سلطة الجمهورية وتحويلها إلى سلطة عائلية في أبنا الرؤساء } قد بدأ يلوح في أفق بعض الجمهوريات العربية ويتحقق في بعضها على مستوى الواقع السياسي مثل الجمهورية العربية السورية التي ورثت سلطة الجمهورية من الأسد الأب إلى بشار الابن، ما يعني أن ثورة الربيع العربي برغم أنها تحولت إلى نصف ثورة سياسية ونصف كارثة إنسانية في معظم دول الربيع العربي إلا أنها استطاعت أن تعيد الاعتبار للنظام الجمهوري من زاويتين:٠ فقد استطاعت من جهة أولى أن تلغي مبدأ توريث سلطة الجمهورية الذي بدأ يتأسس داخل أقطارنا العربية -وكأنه عرف سياسي مسلم به- بعد أن انتصرت الجمهورية الثورية على الملكية قبل عقود من الزمن في بعض الأقطار مثل اليمن وسوريا وليبيا ذلك على سبيل المثال وليس الحصر، وإذا كان مثل هذا التأسيس اللاوطني يعني أن الحاكم العربي جمهوري كان أو ملكي قد نجح بشكل كبير في إقصاء شعبه ومكوناته السياسية من الحضور والتأثير الناجع في معادلة السلطة والسياسة ( نتيجة تغيب السياسة وإغلاق المجال السياسي العام في وجه المكونات السياسية الممثلة للمجتمع ) إلا أن ثورة الربيع العربي استطاعت من جهة ثانية أن تعيد المجتمع إلى قلب معترك الصراع السياسي والتأثير الفاعل في معادلة السلطة والسياسة كون ثورة الربيع العربي قامت على الحراك الشعبي المباشر وعلى مطالب الجماهير المحتشدة في الساحات والميادين العامة ، دون واسطة نخبوية أو سياسية تتصدر مطالب الجماهير بالنيابة عنها، كما حدث في ثورة الخمسينيات والستينيات وما بعدها ما يعني حضور الفعل السياسي المدني في متناول المجتمع، أو كما يقول الباحث قادري أحمد حيدر – أن ثورة الشباب في اليمن تشكل أحد العوامل التي عملت على إلغاء الحضور التأريخي في اليمن – لاسيما وأن مسألة توريث السلطة الحاكمة في الأبناء والتعامل مع جموع المواطنين كرعية مطِيعين للحاكم، هي نتاج ثقافة سياسية تأريخية أبوية مازالت ممتدة في حاضرنا العربي بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، وهو ما يستدعي ضرورة النضال من أجل أن تحضر السياسة في وعينا وسلوكنا، وذلك ما استطاعت ثورة الشباب أن تحققه منذ بداية 2011 وحتى نهاية عام 2014 بشكل لفت انتباه العالم ودول الإقليم على وجه التحديد، حيث استطاعت أن تحضر السياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني، لهذا كان لا بد أن يتم تدارك الوقت والعمل على إحداث إنقلاب عسكري على السياسة وفعلها المدني الذي عمل من جهة أولى على نقل المجتمع اليمني من حالة الخمول السياسي الذي تأسس بعد حرب 94 إلى مرحلة الاقتدار السياسي الثوري، ومن جهة ثانية بدأ معنى بشكل جاد بتأسيس مستقبل الأجيال في اليمن، لهذا ما يجري الآن هو المحافظة على معنى الإنقلاب على السياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني من قبل الحركة الحوثية والشرعية والتحالف السعودي الاماراتي الذي تدخل لإنقاذ الشرعية،
رابعاً :- سلطة الشرعية واللآت الممانعة لمستقبل الشرعية
مع أن الحرب مستمرة للعام الثامن على التوالي، ضد إنقلاب الحركة الحوثية على الشرعية التوافقية، لكونها “أي الحركة الحوثية” في المقام الأول تشكل امتداداً سياسياً للخطر الإقليمي القادم من إيران تجاه الأمن القومي الخليجي ليس إلا، وتلك حسابات دافعة للتدخل العسكري السعودي الاماراتي في اليمن بعد أن سيطرت الحركة الحوثية على العاصمة صنعاء في أواخر عام 2014م، إلا أن العامل المشترك في كل تصرفات القوى المتقاتلة على الأرض اليمنية والقوى الداعمة لها إقليمياً ودولياً هو الإنقلاب الجذري على حضور السياسة كفكرة ثقافية وفعل سياسي مدني تعددي معني بتأسيس مستقبل الدولة المدنية والوطن الكبير في بلاد اليمن، وهذا ما يفسر جزء كبير من إشكالية فشل حكومة الشرعية اليمنية في خلق النموذج السياسي الوطني داخل المناطق المحسوبة عليها، وبقاء هذه المناطق تسبح جهاراً ونهاراً في واقع اللا دولة واللا سياسة واللا مشروع وطني ، ناهيك عن عدم وجود حتى سلطة عامة تتولى مسؤوليتها السياسية والوطنية على حد سواء تجاه الأرض والإنسان والسيادة والمستقبل في اليمن،
فالسلطة القائمة أو سلطة الشرعية اليمنية إذا جاز التعبير هي السلطة نفسها التي تخلق عن طريق المنتسبين لها عسكريين ومدنيين، واقع اللآت الثلاثة ={ اللا دولة واللا سياسة مدنية، واللا مشروع وطني } في مناطق سيطرتها ، ناهيك عن صمتها تجاه مسألة السيادة الوطنية، قد يكون ذلك ليس عمل ممنهج أو مقصود من قبل الشرعية، ولكنه يعبر عن عجز شديد وفشل سلطتها في استدعاء السياسة كفكرة ثقافية وفعل تغيير سياسي مدني تعددي يعمل في مناطق سيطرتها على خلق النموذج السياسي والوطني ={ الدولة} التي تقدم الشرعية اليمنية أمام المجتمع المحلي والدولي بكونها البديل المؤهل سياسياً وأخلاقياً على المستوى الوطني، لاسيما في مسألة المقارنة مع سلطه الحركة الحوثية الانقلابية، ما يعني أن على الشرعية اليمنية أن تعمل على تأسيس معادلة سياسية تكون قابلة للقياس « داخلياً وخارجياً » والمقارنة بين واقع الدولة في مناطق سيطرتها وواقع اللا دولة في مناطق سيطرت الحركة الحوثية وهذا لم يحدث حتى الآن!!!
وبدون حدوثه تكون الشرعية نفسها ممانعة لمستقبل الشرعية اليمنية التي يخوض اليمنييون اليوم معركة التضحيات والدفاع عنها وهي بدون شك شرعية ثورة الـ11 من فبراير 2011 الشبابية السلمية.
خامساً:- الحرب العسكرية وتنويم الأحزاب السياسية واقع ما بعد الإنقلاب على الثورات في اليمن
اذا ما وقفنا على أحداث الثورات الثلاث في اليمن بشكل عام، سوف نكتشف ان واقع الحال يقول إن اليمنيين بعد كل ثورة تصنع الفرصة التاريخية نحو المستقبل الذي يجب أن يكون في اليمن، يجدون أنفسهم مكرهين على أن يخوضون مستنقع الحرب العسكرية الأهلية التي تتدخل فيها دول الإقليم وبشكل يجعلها هي صاحبة قرار الحرب والسلم وفق شروطها هي وليس وفق شروط الداخل الوطني، حدث ذلك بعد ثورة سبتمبر واستمرت ثمان سنوات، بين الملكين والجمهورين وامتدت إلى داخل الصف الجمهوري في أحداث اغسطس، وفي كل الأحوال انتهت الحرب بتسوية سياسية كرست إلغاء حضور السياسة كفكرة ثقافية وفعل سياسي مدني تعددي، ناهيك عن تأسيس سلطة الجمهورية على عصبية القبيلة السياسية التي اعاقت تحقيق أهداف ثورة سبتمبر، بعد أن نجحت في تنظيف أجهزة السلطة من العناصر الوطنية المدنية، وربما كان ذلك احد أسباب ثورة التصحيح التي قادها الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي التي انتهت باغتياله في 11 أكتوبر 1977 بتامر من القبيلة السياسية التي شعرت بخطر مشروعه التصحيحي على مصالحها وعلى وجودها كاقبيلة سياسية حكمت سلطة الجمهورية في شمال اليمن حتى عام الوحدة اليمنية .
في جنوب اليمن تحول المشهد السياسي بعد الثورة إلى حرب أهلية بين الجبهة القومية وبين جبهة التحرير ولكنه سرعان ما حسم لصالح القوى الاكثر ثورية ={ الجبهة القومية } وهذا ما حافظ بشكل كبير على مسار التجربة الثورية على مستوى السلطة والسياسة حتى عام الوحدة اليمنية 1990 التي جعلت اليمنيين « شمالاً وجنوباً » أمام الفرصة التاريخية الاولى ( السانحة ) لقيام الدولة الوطنية المدنية والوطن الكبير، إلا أن هذه الفرصة التاريخية تعرضت لحرب 1994 / التي انقلبت جذرياً على المرجعيات السياسية التي قامت عليها دولة الوحدة اليمنية بين شمال اليمن وجنوبه كما تم توضيحه سابقاً.
في عام 2011 بعد أن استطاعت ثورة فبراير الشبابية الجماهيرية أن تعمل على إحضار المجتمع إلى قلب معادلة الصراع السياسي، وكذلك إحضار السياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني تعددي وان تضع اليمنيين جميعاً أمام الفرصة التاريخية الثانية ={ مخرجات الحوار الوطني } وجد اليمنيون أنفسهم بين عشية وضُحاها أمام إنقلاب « ماضوي » وحرب عسكرية لم تحدث من قبل ولم تكن متوقعة في الحسبان، وقد أصبحت اليوم بعد سبع سنوات حرب إقليمية أكثر من كونها حرب داخلية يسهل الإمساك بتلا بيبها العسكرية بقرار من الداخل الوطني.
لم يحدث أن انكشفت اليمن سياسياً وعسكرياً وحتى سيادياً أمام الأجندات الخارجية كما هو حاصل اليوم مع هذه الحرب، ناهيك عن انعكاساتها الكارثية على حياة الناس في كل الأصعدة والمجالات، وهو ما يجعلها تفقد ثوريتها ووطنيتها وحتى جدواها في حسم معركة المستقبل في نظر الكثيرين، لكنها من زاوية أخرى تظل حرب مفروضة من قبل حركة انقلابية تعمل على استدعاء النماذج التاريخية الاستبدادية السلالية بقوة السلاح في اليمن، وهذا يعني أن على الشرعية اليمنية أن تقاتل الإنقلاب وفق شروط الحروب الثورية «فالحركة الحوثية لن نهزم إلا أمام مشروع وطني» وهنا تكمن علامة الاستفهام الكبيرة بخصوص الحرب الجارية لسبع سنوات في اليمن، فهل تدار الحرب حتى اليوم في وجه الإنقلاب السلالي من قِبل قوات الشرعية والداعمين لها وفق شروط الحروب الثورية ؟ ={ الحرب التي تؤسس للمشروع الوطني } .
وإذا كانت حرب الشرعية تدار تحت شعار الدفاع عن الشرعية وعن مخرجات الحوار الوطني وقد كانت الشرعية في الأساس هي الشرعية التوافقية ومخرجات الحوار هي مخرجات سياسية توافقية بين المكونات السياسية، فلماذا لا تدار اليوم في الواقع معركة المواجهة مع الحركة الانقلابية سياسياً وعسكرياً بمنطق الشرعية التوافقية ؟
الحروب العسكرية بعد كل ثورة في اليمن هي حروب مفتعلة، تتعمد نقل المجتمع سياسياً من حالة وجدانية سياسية ثورية تفكر بالمستقبل إلى حالة يائسة من فكرة التغيير، لأن الحرب تعكس الخيارات المطروحة أمام الناس بشكل غير منطقي، فبدلاً من أن يخيروا مع الفكرة الثورية بين الاستبداد والحرية والفساد والإصلاح، يخيرون مع الحرب وانعكاساته بين الاستبداد والفساد وبين الأمن والخبز، ما يعني أن الناس مع الحرب تبحث عن الأمن والخبز، وهذا يسهل دائما على أطراف القتال أن ينتجوا بعد كم سنة من الحرب والاقتتال اتفاقيات أو تسويات سياسية على حساب مشروع الثورة، بمعنى آخر تحقيق حالة من “اللا حرب” على حساب المستقبل وعلى حساب فكرة السلام الدائم في اليمن.
وإذا كانت الأحزاب السياسية هي انضج الأدوات السياسية العصرية التي يجب أن تعبر عن مصالح المجتمع والشعب وعن حضور السياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني تعددي يعكس حضور تدافع المجتمع في حقل السياسة، فإن الحرب العسكرية في اليمن تعمل دائما على تنويمها كاحزاب معنية في خوض معركة التغيير،
فالإنقلاب الماضوي والحرب العسكرية بعد ثورة فبراير -الإثنين- خلقوا في الواقع مراكز قوى تقليدية دينيه ( متعددة ) ممانعة في فكرها وثقافتها للفكرة السياسية وقوات عسكرية تمنع حضور الأحزاب كفعل سياسي مدني بين الجماهير كما يحدث اليوم في الشمال والجنوب باستثناء مدينة تعز التي تستطيع أن تتحرك فيها قيادات وأعضاء الأحزاب، وهذا بحد ذاته يكرس مسألة غياب السياسة كفكرة ثقافية ثورية وفعل سياسي مدني تعددي يؤسس لمستقبل الدولة والوطن الكبير في اليمن هكذا يراد لنا أن ندور مع ثلاثية الثورة والسياسة في اليمن داخل حلقات مفرغه من معنى التغيير الثوري في اليمن، حتى يكفر الجميع بالثورة وبالسياسة ويترحموا في نفس الوقت على الحكام الفاسدين والمستبدين الذين ثُرنا عليهم، وهو ما نسمعه اليوم على لسان حال الكثيرين من المواطنين ، وحتى لسان حال الكثير من النخب السياسية المثقفة تقول بشكل يائس ثلاث ثوارت ووحدة ماذا بعد ؟
سؤال مفتوح على المستقبل المجهول في اليمن .