كتب – محمد علي شايف.
“كنت اتصور ان الحزن يمكن أن يكون صديقاً.. لكنني لم اكن اتصور ان الحزن أن يكون وطناً نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته”
ارنستو تشي جيفارا.
يا وطن المآسي وهوس الكراسي.. ما جدوى التعازي؟ حينما ننعي الجسد الفاني ونمجد ما لا يبقى ونهيل على الافكار المضيئة رمل الجحود والنسيان.
يا وطن التعازي والأحزان.. رحل اليوم صانع الأفكار ومُشْعل جذوة الإرادة والإيمان بقوة الحق، حينما يتبركن ثورة بوجه الطغيان ترجل من كان له قصب السبق في قدح ثقاب اليقظة في عيون غيبوبة الهزيمة، حينما كان مجرد التفكير باستعادة عزة وكرامة الارض والإنسان في الجنوب المغدور اكبر من الجريمة، في قانون المكرب المعاصر وكهنة آلهة الحرب-الغنيمة.
ترجل صهوة الحلم- في وطن حر مستقل- والثورة موقوفة في منتصف الأمل، في مفترق طرق هلامية متشابكة ضاجة بالمفارقات واحتباس الرؤى في سيولة الفكرة، كسمكة تشوى لاستخلاص زيتها مسوحاً وطنياً يحجب انحراف خط سير القضية ومصب نهر الدماء الزكية.
منذُ يوليو الأسود إلى دم أبي الشهداء “يحي الشوبجي” وما زال دم الحلم الكبير يتدفق بغزارة من شرايين التوق للخلاص واشعال فجر الحرية.
فهل آثرت الرحيل -يا صديقي- قبل أن ترى نهر الدم بعيداً عن مشيئة الشهداء يجري؟ وبألقه -من لا يحمل آلامهم- يتخندق؟! هل كتبت وصيتك الاخيرة؟ أم كانت يد الموت اسبق؟!.
ترجل قامة بحجم “أمين” في هذا التوقيت يمثل خسارة بحق.. وسيترك فراغاً لن يُلمس حجمه إلا في اللحظات القاسية، “…وفي الليلة الظلماء يُفْتَقد البدر” -حسب الشاعر.
وعندما اقول بأنه كان صانع افكار سياسية فليس عن حكم انطباعي وانما عن معرفة مباشرة إذ كانت علاقتي به أشبه بتوأم سيامي للفكرة التي جمعتنا وآمنا بها منذُ أول تعرفي به، وذلك عام 1997م حتى عام 2012م.
إذ كنت بمعيته في جل مرحلة الإرهاصات الأولى للثورة الشعبية، فما كان يكل ولا يمل مهما كانت المصاعب، يثابر خلف الهدف ولا يفتح لليأس طريقاً إلى معنوياته.
فهو صاحب فكرة “اللجان الشعبية التضامنية” فقد رافقته في أكثر من لقاء مع أفراد وجماعات ليبلور فكرته ويقنع الآخرين بها ونجحت الى حد كبير.. وبسببها تعرض للاعتقال مرتين.. وأذكر أنه ذات مرة جيىء به إلى المحكمة في عربة نقل القتلة والمجرمين وهو مصفد اليدين ولم يسمح لنا بمصافحته ولا بحضور محاكمته الصورية، وكان يخرج من السجن أكثر عزماً وقوة -في كل مرة.
وكان من صانعي فكرة “تيار إصلاح مسار الوحدة” في الحزب الاشتراكي إن لم يكن هو صاحبها.. (ذات مرة ونحن نغادر منزله في صنعاء، لحق بي د.محمد حيدرة مسدوس، وكلمني عن الفقيد واصفاً إياه بأفضل عقل سياسي في الجنوب “حينذاك” ومأخذه عليه بأنه يتمسك بآرائه دون أن يعطي الآخرين فرصة لمناقشتها…). ولا اذكر بالضبط ماذا طلب مني والمهم في الأمر تلك الشهادة-الان.
ولو أن صحة المناضل “حسن احمد باعوم” تسمح له بتذكر الدور الذي لعبه الفقيد المناضل”أمين صالح” في رفد دوره الكفاحي المتميز في كل المنعطفات في الرؤى والأفكار ولاسيما خلال الفترة الممتدة من عام 1998-2008م عام تشكيل أول مكون جنوبي سياسي شعبي أي “المجلس الوطني” لكفتني شهادته عن ثقل الحديث عن دور الفقيد المتميز -في هذا المضمار- ولاسيما علاقتي الشخصية به، أعني مشاركتي في الأدوار النظرية والميدانية التي اجترحها الفقيد خلال الفترة الآنفة الذكر -وفي تقديري أن تكريم الفقيد المناضل “أمين صالح” الذي يستحقه -بعد أن غيبه الموت- هو:
1- الإقرار بدوره الريادي في الحركة الشعبية الجنوبية، كمبادر في خلق الوعي الجمعي بالقضية الوطنية الجنوبية{الجهود الذاتية التي بذلها.. والاعتقالات والمطاردات التي تعرض لها بسبب نشاطه السياسي}.
2-تجميع وتوثيق أفكاره المكتوبة وتوثيق الشهادات الشفهية الضرورية التي سيدلي بها الاحياء ممن زاملوه واولئك الذين عمل معهم في الوقت الذي كان الخوف فيه مهيمناً على المشهد، أي في السنوات الأولى للاحتلال، وهو ما يقتضي من قيادة المجلس الانتقالي، تشكيل لجنة مصغرة ممن ارتبطوا بالفقيد للقيام بهذه المهمة ومن ثم توثيقها في كتاب.
3-ان لا تكتفي اللجنة بتوثيق رحلة كفاح الفقيد المشرقة، بل وما اكتنفها من تعرجات وتناقضات كتجربة حية وسط تعقيدات الوضع السياسي والاجتماعي للصراع مع الاحتلال وتأثير سيولة الفكر السياسي والتنظيمي للحركة الشعبية الجنوبية عليه، كعنصر فاعل ومنفعل بما يعتمل في محيطه، {تحليل الدوافع الذاتية والأسباب الموضوعية التي تؤثر على مواقف الأفراد والجماعات سلباً وايجاباً.}
وبذلك يكون الكتاب أوسع من سيرة حياة الفقيد، اي متضمناً تجربة فرد غنية تنطبق على الكثير امثاله، ويستفيد منها كل من يطلع على الكتاب في الحاضر والمستقبل.. وإذا ما تم تكريمه بما أسلفنا فقد حظي بحقيقة أن عمر الإنسان يقاس بما أنجز لنفسه وأسرته وشعبه وليس بالسنين التي عاشها.
لم ارتبط -في رحلة الكفاح المرير- بأحد كما ارتبطت بالفقيد، إذ امضيت وإياه كما اسلفت، حوالي 15سنة -لكنها لعنة السياسة، فكما جمعتنا الفكرة-الهدف كل تلك الفترة، فرقتنا عام 2012م والحق يقال، بأنه كان المبادر لتجاوز خلافنا السياسي والعودة إلى علاقتنا كاصدقاء.. ولكن لقاءاتنا كانت نادرة.. في عام 2020م التقيته مرتين في “عدن” في اللقاء الثاني تحدث إلى الحضور في منزل الفقيد “علي عسكر” ، فكان يائساً، الأمر الذي أحدث صدمة للمستمعين.. واتضح أنه لم يكن راضياً عن أداء “المجلس الانتقالي” الذي ينتمي إليه كعضو في هيئة رئاسته.
فهل ترجل قبل أن يرى فكرته التحررية وقد اينعت زهورها؟ ثم غير راضٍ عن الكيان السياسي الذي ينتمي إليه -ايضاً-؟
ما اقسى أن تمتد لك يد الموت فتحمل موت احلامك معك!!
وان ترى التاريخ يكرر نفسه وتتجاهل حقيقة أن التاريخ لا يكرر نفسه إلا بصورة أسوأ.
وهل ثمة سوء يفوق الكارثة الفجائعية التي تشكل الملمح الرئيس لوجودنا المحتفل بالعقل المستقيل؟
اعود لأقول، بأنني رغم اختلافي معه، إلا إن نبأ رحيله الجلل، صدمني وشعرت ليس بألم فقده وحسب، بل والفراغ الذي سيتركه، ليشكل غيابه خسارة حقيقية على الجميع، على من أتفق أو أختلف معه.
ولذلك فإن تعزيتي الصادقة، ومشاطرتي الحزن لأولاده وذويه ومحبيه دون الواجب.. ولا املك إلا أن أدعو الله أن يلهمهم وإياي الصبر والسلوان وأن يتغمد فقيدهم -ققيدنا الغالي- بواسع رحمته ويسكنه الفردوس الاعلى .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.